الرؤية الى الآخر في الأدب القصصي الصهيوني
د.عبدالمجيد زراقط
تهدف هذه الدراسة الى معرفة الرؤية الى الآخر في الادب القصصي الصهيوني، من خلال نماذج مختارة تيسّر الاطلاع عليها.
* في المصطلح: الأدب الصهيوني وخصوصيته
يعود اختيار مصطلح "الأدب الصهيوني" الى قصور المصطلحات الاخرى: اليهودي، العبري، الاسرائيلي عن التعبير عن هوية هذا الأدب الذي أسهم فلسطين، في مختلف مراحه. وذلك لان هذه المصطلحات تضم مكونات متعددة، متنوعة، متباينة على غير مستوى: إثني، مكاني، زماني، لغوي، ثقافي، فاللغة العبرية توقفت منذ القرن السادس قبل الميلاد عن الاستعمال الا في الشؤون الدينية (1). واستخدم اليهود اما لغة المجتمع الذي يعيشون فيه، او لغة خاصة هي "اليديش" في اوروبا، والشرقية منها بخاصة، و"الهادينو" في المشرق، وكلتاهما مزيج لغوي نصيب العبري فيه مفردات وتراكيب فحسب. اما الثقافة العبرية او اليهودية "فان كثيراً من الباحثين، منهم العالم والمؤرخ الاسباني امريكو كاسترو وهنري فورد، يذهبون الى انه لا توجد ثقافة يهودية، وحجتهم ان اليهود انما عاشوا في كنف ثقافات اخرى"، والامثلة على ذلك كثيرة،منها موسى بن ميمون قديماً واسبينوزا وفرويد وماركس حديثاً (2). ومن الامثلة الدالة على هذا العيش ان مناهج الدراسة في العراق، في "الحيدر" و"اليشيفا" كانت تدرس باللغة العربية (3). وقد عبر الكاتب اليهودي العراقي سامي ميخائيل, (ولد في بغداد سنة 1926 ، وهاتجر الى ايران، ثم الى فلسطين عام 1949) عن مشكلة الكتّاب المستوطنين، فقال: "انا الآن افكر بالعبرية، واكتب بالعبري فقط، ولكن ما زلت اشعر انني لم اولد باللغة العبرية. واحياناً كثيرة يتوقف القلم عن الكتابة والعقل عن التفكير من اجل البحث عن الكلمة الملائمة" (4).
ويقول د. عبدالوهاب المسيري: إن التاريخ لم يعرف ثقافة يهودية مستقلة، وان "العنصر الاساس الذي يتهدد عملية بلورة خطاب حضاري اسرائيلي مستقل هو ان المجتمع الاسرائيلي مجتمع استيطاني يدين بالولاء الكامل للولايات المتحدة الامريكية، ويعاني من تبعية اقتصادية وعسكرية مذلة لها، فهو يدين لها ببقائه وبمستواه المعيشي المتفوق، ولذا فثمة اتجاه جاد نحو الامركة يكتسح في طريقه كل الاشكال الامنية الخاصة التي احضرها المستوطنون معهم من اوطانهم الاصلية…"، ولهذا لا يمكن الحديث عن خصوصية اسرائيلية تشكل منظر الرؤية الى العالم، والى الآخر، الا "خصوصية التجمع البشري الاستيطاني في فلسطين الذي يتحدث سكانه الآتون من تشكيلات حضارية شتى اللغة العبرية" (5). والخصوصية التي تمنح هذا التجمع تفدره وتمزه من الآخر في حركة الاستيطان في فلسطين التابعة للمشروع الاستعماري الغربي، اي "الصهيونية"، ومن هنا نسبة الادب الذي يروي حكاية سعيها الى تحقيق اهدافها باسمها لانها تمثل الخصوصية التي تحدد السلوك وتشكل منظور الرؤية.
مكوّن الخصوصية الاساسي
ومنظورها
ثمة مكوّن اساس في هذه الخصوصية هو مقولة "شعب الله المختار" فهذه
المقولة تفصيل من يعتقد بان الله اختاره بين الشعوب عن الاخر بعامة، وتجعله يقيم
علاقة متفردة بالله، ويؤمن بانه متفوق على الناس جميعهم، وفي هذا الصدد يقول
سيغموند فرويد: "لقد خلق موسى شخصية لليهود حين اعطاهم ديناً صعد ثقتهم بأنفسهم الى
درجة آمنوا معها بانهم متفوقون على الاخرين". ويورد غسان كنفاني، في التعليق، على
هذا القول، ملاحظة دقيقة، وهي اصرار فرويد على القول: "ونتيجةً لهذا التفوق"، وليس
"نتيجة للشعور بهذا التفوق"، ما يعني انه يقرّ به (6). وفي هذا الصدد يقول د. احمد
حماد: "ولعل فكرة الشعب المختار تعدّ في حدّ ذاتها قمة من قمم الشعور بالاغتراب في
اليهودية. فطرح فكرة الاختيار هي في جوهرها انسحاب الحياة اليهودية من بؤرة العالم
وتركيز الاهتمام على العلاقة بين الرب واليهود دون باقي الشعوب، اي انها بصورة اخرى
استئثار بالرب، اي اغتراب إثني عن القيم الانسانية الجمعية". ويضيف د. حماد:
"ويظهر، ايضاً، انفصال الأنا عن الرب في سفر المزامير: "إلهي، لماذا تركتني؟ إلهي
في النهار أدعو فلا تستجيب، في الليل ادعو فلا هدْوَ لي!؟ عليك اتكل آباؤنا
فنجيتهم، إليك صرخوا فنجوا… اما انا فدودة الانسان، عار عند البشر ومحتقر الشعب، كل
الذين يرونني يستهزئوني بي… يا رب، لماذا تختفي في ازمنة الضيق!؟
وفي سفر حبقوق: "حتى متى يا رب ادعو وانت لا تسمع، أصرخ اليك من الظلم وانت لا تخلص!؟…." (7).
أفضت هذه السلسلة المترابطة: الشعور بالتفوق: شعب الله المختار، الانفصال عن الاخر، والانسحاب الى علاقة فريدة بالرب، الإحساس بالظلم، الاضطهاد ولعدم إقرار الآخر بمقولة التفوق، الاعتقاد بتخلي الله… الى الرغبة في الانتصار على الاخر، وعلى الله. وهذا ما يفيده اسم "يسرائيل"، و"يسر" تعني غلب، و"إيل" تعني الله, وليس من دون دلالة ان يفصّل الصهاينة اطلاق اسم "دولة اسرائيل" على الكيان الاستيطاني الذي اقاموه في فلسطين، بدلاً من الاسم الذي كان قد اختاره تيودور هرتسل، وهو "دولة اليهود". (فهذا الاسم مأخوذ من الاسطورة التي تقول ان يعقوب "ارتحل نحو كنعان (فلسطين) وفي الطريق صارعه شخص حتى طلوع الفجر وانخلعت فخذه، وقبل ان يطلقه باركه باركه، وقال له: لا يدعى اسم في ما بعد يعقوب بل يسرائيل، لانه جاهدت مع الاله والناس وقدرت" (سفر التكوين، 32/22-32).
بلورت الحركة الصهيونية هذه العناصر في عقيدة وجهت البحث عن خلاص، منتظمة في سياق مشروع الاستعمار الغربي، الى الاستيطان في فلسطين، واستخدمت الادب في تحقيق هذا الهدف، فأدى عدة ادوار اولها الإسهام في احياء اللغة العبرية، وثانيها تجسيد تجربة المستوطنين في سعيهم الى الاستيلاء على الارض واقتلاع ابنائها، وثالثها النطف بمنظومة القيم الصهيونية ونشرها بغية الاسهام في تكوين الشخصية الصهيونية، فكان بذلك ادباً يرى من منظور الأنا الصهيوني. والمنظور هنا بمعنى موقع الراوي وطريقة ادراكه العالم واسلوب ادائه هذا الادراك. وقد لاحظ غير باحث اعتناق الكاتب الصهيونية لفكرة الكاتب - المعلم، ولمفهوم الالتزام، فنقرأ للباحث ريزادومب: "ان الكتّاب اليهود اعتنقوا فكرة التنوير التي آمنت بدور الكاتب بوصفه معلماً للمجتمع" (8). ونقرأ للدكتور رشاد الشامي: "مفهوم الالتزام في الادب يعدّ واحداً من ابرز المفاهيم المسيطرة على الحياة الادبية الصهيونية" (9)
مراحل الادب الثلاث: الثابت في
التحول
ويمكن ان نتبين رؤية هذا الادب الصهيوني الى الآخر من خلال قراءة
نجريها في نماذج منه تنتمي الى مراحله الثلاث، وهي مراحل عامة يمكن ان يتبين الباحث
في كل منها غير حقبة ترتبط بأحداث الصراع الذي خاضته الصهيونية، من اجل قيام كيانها
الاستيطاني، وهذه المراحل هي:
اولاً: ما قبل الاعلان عن الصهيونية السياسية،
وتمثلها اعمال كتبت بلغات غير عبرية، بالانكليزية بخاصة، خارج فلسطين.
ثانياً: ما بعد هذا الاعلان الى حين قيام الكيان الاستيطاني عام 1948 ، وتمثلها اعمال كتبت في فلسطين، بعبرية تحاول احياء لغة قديمة، وتجسد تجربة الجماعة: "الخن"، المكونة من افراد لتنسحب…"انواتهم" الى داخل الذات، وتوظف هذه الذات في خدمة مشروع الجماعة، وتنطق برؤيتها.
ثالثاً: ما بعد قيام الكيان الاستيطاني، وتمقلها اعمال كتبت بعبرية تواصل إحياء لغة قديمة، ويعرف بعضها تلمس الفرد طريقه نحو الأنا، وقد بدأ يشعر بذنب "الأيدي القذرة" الذي يناقض المفهوم المزعوم: "الأيدي النظيفة"، واخذت تبرز امامه اسئلة مثل : ماذا فعلنا؟ ما بعد قيام الكيان المغترب المشعل حروباً لا تنتهي؟ ماذا بعد "عجز النصر" في هذه الحروب؟ وهل يستمر النصر؟ وماذا يحدث ان تغيرت شروط اللعبة وفقد الكيان الاستيطاني دوره في مشروع الاستعمار الغربي، ونظامه العالمي؟ وماذا يحدث اذا تخلت الولايات المتحدة الامريكية، الضامنة وجود هذا الكيان، عن التزاماتها الاقتصادية والعسكرية؟ وهل يبقى هذا الوجود موظفاً في خدمة المشروع الغربي الاستعمار الى ما لا نهاية؟
وان تكن كل مرحلة بحقبها تتميز ببعض الخصائص، كما رأينا في الاسئلة التي راح يثيرها ادب المرحلة الثالثة، على سبيل المثال، فان صورة الاخر في ادب هذه المراحل جميعها قلما اختلفت، لان المنظر الذي كونته منظومة الافكار الصهيونية, وان تلوّن في بعض الحالات، بقي هو نفسه ثابتاً والرؤية التي يظهرها هذا المنظور هي ما سوف نتبينه في ما يأتي.
شخصية الصهيوني الداعية: ظهورها
ورؤيتها
يرى غسان كنفاني (1936 - 1972) انه "لن يكون من المبالغة ان نسجل
هنا ان الصهيونية الادبية سبقت الصهيونية السياسية، وما لبثت ان استولدتها. وقامت
الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الادب في مخططاتها ليلعب الدور المرسوم له في
تلك الآلة الضخمة التي نظمت لتخدم هدفاً واحداً" (10).
ومن الاعمال الادبية التي استولدت الصهيونية السياسية يتحدث كنفاني عن ثلاثة روايات اولاها رواية "دافيد آلروي" للسياسي البريطاني اليهودي بنيامين دزرائيلي (1804 - 1881) الصادرة عام 1833، قبل ان يصبح مؤلفها رئيساً لوزراء بريطانيا (1874 - 1880)، وثانيتها رواية "دانييل ديروندا" للكاتبة اليهودية الانكليزية جورج اليوت (1819 - 1880)، الصادرة عام 1876 ، وثالثتها رواية "الارض القديمة الجديدة" لتيودور هرتسل (1860 - 1904) مؤسس الصهيونية السياسية التي اعلنت مؤتمر بازل في سويسرا عام 1897 .
تقدم رواية "دافيد آلروي" شخصية هي "سيدونيا" يحركها الشعور الكامن بالتفوق، فترفض الاندماج في المجتمع الذي تعيش فيه، وتدعو الى العمل من اجل تجسيد الانفصال، فتطرح بذلك "عملياً شخصية صهيونية لاول مرة بدل الشخصية اليهودية" (11). وان تكن جورج اليوت كتبت، في عام 1848، تنتقد تبجح "سيدونيا" بنقاوة العرق وتفوقه، فانها طرحت في رواية "دانييل ديرواندا" شخصية هي مردخاي، تدعو للعمل من اجل مستقبل لليهود، والاتجاه الى فلسطين سياسياً، وتعطي لدعوتها بعداً تريد له ان ينأى بفكرة "شعب الله المختار" عن العنصرية، فهذه الفكرة، كما تقول، تعني ان هذا "الشعب اختير في سبيل الشعوب الاخرى!". وكيف يكون اقتلاع شعب من ارضه والحلول مكانه، بعد القتل والتدمير والتشريد، اختياراً في سبيل الشعوب الاخرى!؟
يصمّ مردخاي اذنيه عن سماع هذا السؤال وأسئلة كثيرة يثيرها الاستيطان في فلسطين العامرة بأهلها، ويبدو داعية محاضراً بأفكار جاهزة اكثر منه شخصية روائية مقنعة، ما جعل الروائي والناقد هنري جيمس يرى ان "محاضراته وقعت في قعر البرود" (12).
ينطلق مردخاي من مقولة التفوق داعيا الى ان يتخذ جنسه شخصية قومية، باعتبار ذلك، كما يقول "التحقيق الوحيد للامانة الدينية للتي جعلت منا شعباً كانت حياته نصف وحي العالم".
يستفيد هرتسل من التجربتين الروائيتين، فيكرر الموقف نفسه في روايته "الارض القديمة الجديدة"، ويعلن بوضوح: "ارض فلسطين المضاعة تستلقي بانتظار اليهود ليعودوا ويصلحوها ويستوطنوها" وهذا ما اعلانه في مؤتمر بازل، الامر الذي يعني ان هذه الروايات مثلت صهيونية ادبية وظفت في خدمة المشروع الاستيطاني الذي كان يتبلور آنذاك. ومن الاشارات الدالة على اهمية هذا التوظيف، ان رواية "دانييل ديروندا" اضحت "انجيلاً صهيونياً" منذ ان ترجمت الى العبرية، وان اسم مؤلفها: جورج اليوت اطلق ومنذ الاعلان عن قيام الكيان الاستيطاني على احد شوارع تل ابيب.
وفي صدود ولادة الصهيونية الادبية، وفي ما يتعلق بالقصة، يقول المحاضر في الادب العبري، جرشون شاكيد: ولدت القصة العبرية في الغربة، في اثناء المجابهة مع العالم الاجنبي، وقد مثل هذا، اي الآخر "في ادبنا الجدار الذي تصطدم به الشخصية في كل خطوة ومسرب، حيث يقف امامه البطل اليهودي يومياً في كل ساعة، وبموجب ذلك عليه ان يعطي حكمه" (13)
الكتابة من منظور الايديولوجيا المهيمنة: انفصال عن الآخر وإلغاء له
رأت هذه الاعمال الى الآخر من منظور كونته مقولة تفرد الأنا وتفوقه في مواجهة الآخر "الجدار"، وفي هذا انفصال، فقدمت، بعدما تجاوزت هذه المقولة الشعور كامن بها، شخصية تدعو الى تجسيد الانفصال في كيان استيطاني، يقوم على ارض فلسطين، من دون النظر الى ان هذه الارض عامرة بأهلها. وفي هذا، اضافة الى الانفصال عن العالم، إلغاء، ومنذ الاصل، للآخر الذي يعيش على هذه الارض منذ آلاف السنين.
وعلى اثر اعلان الصهيونية السياسية، بدأ العمل من اجل قيام الكيان الاستيطاني، ووظف الادب في خدمة هذا المشروع، فراح الكتاب، وهم في غالبيتهم مهاجرون تكونت شخصياتهم في اوروبا، يكتبون بالعبرية محاولين احياءها، وقدموا كتابات قصصية تقريرية، تسجيلية، في الغالب تعرّف بفلسطين طبيعة واناساً، وتصور الصراع بين المستوطنين الرواد وابناء فلسطين.
رأت هذه الكتابات الى العالم من منظور الايديولوجية الصهيونية، فصورت من نحو اول، المستوطن المنسحب الى "النحن" المنفصلة، والعامل على اقامة كيانها المستقل، ومن نحوٍ ثان الفلسطيني المنتمي الى طور تاريخي بدائي، فركزت منظورها على الريف الفلسطيني، حيث يحيا البدوي والفلاح، واظهرته متخلفاً غير جدير بالبقاء، متجاهلة المدينة الفلسطينية التي كانت تمثل ثلث فلسطين، فجسدت بذلك فكرتي: التفوق الانفصال، والاستيطان/ الالغاء. وما كان ممكناً لكتابات تنسحب من الواقع الحياتي, ومن تجربة الفرد الذي يتلمس طريقه لتحقيق ذاتع في شروط تتيح له ذلك، فيخفق او ينجح، ان تقدم اعمالاً قصصية: رواية او قصة قصيرة، المتضمن تقارير واوصافاً ومعلومات تمليها الايديولوجيا، في خدمة هذه الايديولوجيا.
ويمكن للقارىء ان يتبين ما نذهب اليه من خلال قراءة نماذج من هذه الكتابات, ونقدم، في ما يأتي نموذجين عنها اولهما أقصوصة "الأخذ بالثأر" لموشي سميلنسكي (1874 - 1953)، هاجر الى فلسطين عام 1891، وتعود للمرحلة الثانية، وهي مأخوذة من مجموعة قصصية، تتضمن ست اقاصيص، نشرتها المنظمة الصهيونية العالمية قسم التعليم والثقافة في الشتات التابع للهستدروت الصهيوني العالمي، تحت عنوان : "العرب". ولا تخفى دلالة العنوان، فالمنظمة الناشرة تعرّف متلقيها بالعرب من خلال هذه الاقاصيص التي اختيرت، وقدمت بعبرية مبسطة لتحقق الهدف المراد منها (14). وثانيها رواية "في مكان آخر، ربما" لعاموس عوز (ولد عام 1939)، الصادرة بالعبرية عام 1969، وبالانكليزية عام 1973 (15).
في النموذج الاول يقول الراوي: "كان الشيخ ابراهيم - من عائلة ايوبي - يصلي فوق سطح بيته, ولى وجهه شطر الجنوب حيث قبر النبي في مكة البعيدة". وينسب الى الضيف القادم من مكة قوله: "… كل يوم كنت اذهب للقبر المقدس في مكة"، في هذين القولين خطأ، فقبر النبي ليس في مكة وانما في المدينة، وهذا الخطأ يدل على جهل الكاتب بالعرب. ويؤكد هذا الجهل كتابته للعبارات التي يرددها المسلمون بشكل خاطىء، مثل: استغفر الله العظيم، يكتبها "سوطفر الله العزيم"، ما يدل على انه لم يصدر عن الواقع في كتابته، ويبدو ان الامر يتجاوز الجهل الى تعمد الرؤية من منظور ايديولوجي، فالمسلمون لا يولون وجههم في الصلاة باتجاه قبر النبي، ولا يصلون له وانما يصلون لله، وتبدو دلالة هذه المعلومة الخطأ / المشوهة واضحة، عندما نقرأ في الأقصوصة نفسها: "تذكر الشيخ فجأة شيئاً مفزعاً، نسي واجبه نحو الموتى، فكيف ينسى الشيخ هذا!؟ انها عادة عند عائلة الايوبي ان يزوروا مقابر ابناء العائلة قبل كل عرس لطلب الاذن والسماح من الموتى"، ونقرأ ايضاً: "فبعد ان يؤدي هذا الواجب لن يزعج فرحته شيء".
يزور الشيخ القبور، ويسمع صوتاً يأمره بالثأر، يتردد في قبول ما يسمع فيعود الصوت ليقول له: "… هل الرقّ الذي تركه اكثر احتراماً من عادات المسلمين؟", وفي الصباح يدعو ابنته ويذهبان سوية الى المقابر لطلب الإذن والسماح من الموتى.
ليس من عادات العرب، والمسلمين منهم، زيارة قبور الموتى قبل كل عرس لطلب الإذن والسماح من الموتى، وليس الأخذ بالثأر من عاداتهم ايضاً، وانما هو تقليد تعرفه المجتمعات التي تفتقر الى سلطة الدولة, فمن اين اتى سميلنسكي بهذه المزاعم؟ لقد املت الايديولوجيا عليه قولاً يريد له ان يثبت ان العرب يعيشون في طور تاريخي بدائي يقدسون فيه الموتى ويزورون قبروهم ويسمعون اوامرهم، ويعتادون القتل، وليس من دون دلالة ان تنتهي القصص الست جميعها بموت الشخصية الرئيسية فيها، فالموت هو الفضاء الذي الذي يحيا فيه العربي، وفي هذا السياق الذي تمليه الايديولوجيا تنتظم اخطاء اخرى مثل قول الراوي: "وتندرت الفتيات بكلام مفاده ان العروس كانت ترغب في عمتها… وان العم الصغير كان يحب ابنة اخيه ويريدها زوجة له". يعرف سميلانسكي، من دون شك، ان زواج العم من ابنة اخيه محرم في المجتمع العربي - الاسلامي، لكنه يريد تأكيد انتماء الفلسطينيين الى ذلك الطور البدائي، كأنه يريد القول: ان سكان فلسطين لا يعدون كونهم قبيلة بدائية غير جديرة بأرضها المقدسة، ولا تفوتنا ملاحظة اختيار اسم عائلة "الايوبي"، ففي ذلك اشارة الى صلاح الدين الايوبي، كأنه يريد القول: ان تكن اسرة هذا القائد الكبير, ذي المكانة عند العرب والغربيين هكذا، فكيف يكون الآخرون؟
في مقابل هذا التخلف العربي يظهر تحضر الصهيوني، من خلال الراوي الذي يشفق على صاحب الكلب ويستخدمه، ويحترم العربي الدميم، ويتفهم حالته.
وفي النموذج الثاني، نجد الاشارة الى تخلف العرب وتقدم الصهاينة من خلال ثنائية يمثلها المكان، فالاحداث تدور في مستعمرة خضراء متمدنة: "مستودات رام" اقامها المستوطنون الصهاينة، ويطل عليها جبل قعفر كئيب، يهدد بالسقوط عليها وسحقها، وينبثق في مواجهتها شعام ينهشها باصابعه الشريرة، فهذه الثنائية تقابل بين التخلف العربي والتمدن الصهيوني، وتكشف ان الاول يهدد الثاني بالدمار، وهذه المقولة يكررها عوز في جميع اعماله, وهي تمثل ثابتاً من ثوابت الادب الصهيوني بعامته.
ثم يقول، بعد ان يقدم هذه الثنائية، بوصفها فضاء السعى، مباشرة: "لمدة الف عام كان هذا المكان قفراً الى ان جاء مستوطنونا الاوائل، ونصبوا خيامهم، فجعلوا الصحراء تزهر بأحدث الوسائل الزراعية. بالطبع كان هنالك فلاحون عرب قلائل قبل مجيئنا، ولكنهم كانوا فقراء وبدائيين… هربوا لدى مجيئنا الى الجبال، ومن هناك اخذوا يلقون علينا كراهيتهم التي لا تستند الى اساس والتي تفتقد كل معنى. لم نسبب لهم ضرراً، جئنا بالمحاريث فردوا علينا بالسيوف، ولكن سيوفهم ارتدت عليهم" (16).
وكان ليون ارويس في رواية "اكسودس"، قد قرر، متنصلاً من الحقيقة، هادفاً الى التضليل، كما يفعل عوز، فيقول: "لو كان عرب فلسطين قد احبوا ارضهم لما كان بوسع اي كان طردهم منها، بدل الهرب منها دون سبب حقيقي.." (17).
هذا الكلام تمليه الايديولوجيا وليس الواقع، ففلسطين كانت بلاداً متحضرة عامرة منذ ما قبل الالف عام التي يذكرها الكاتب، وكتب التاريخ والآثار والواقع تشهد على ذلك. ثم هل يسوغ فقر قوم الاستيلاء على ارضهم واقتلاعهم منها؟ وان يكن الامر هكذا، فهل يسوغ ضعف بعض الشعوب اضطهاد النازية لهم؟ ولماذا يهرب الفلاحون الفقراء ممن يقدم لهم المحاريث؟ هل يصدق هذا؟ وسوف نقرأ بعد قليل كيف تم اقتلاع هؤلاء الفلاحين، ما يجعل العداء مستنداً الى اساس هو فقد المواطن الفلسطيني مكان وجوده، انه من دون هذا المكان لم يعد ذا وجود فاعل، فهل يلام ان سعى الى ان استعاد مكانه الذي سلب منه!؟
وكما يزيف موقف عوز من الآخر الفلسطيني الحقائق، يلوي موقفه من الآخر بعامة: رفض الاندماج عنق الحدث الروائي ليوقظه في خدمته، فهذا الموقف يملي سلوك الفتاة نوكا، فهذه الفتاة الجميلة الفاتنة ترتمي في احضان عجوز سمين نصف ابله تفوح منه رائحة العرق والقذارة، وتهجر شاباً تحبه ويحبها من اجل ان تكفر عن ذنب امها التي غادرت الكيبوتس والكيان الصهيوني، وفضلت العيش في مجتمع آخر. الاندماج مرفوض وعلى الراغب فيه دفع الثمن هو وابناؤه، كما في هذه الرواية، وهو منبوذ، كما في رواية تل المشورة للشريرة"، حيث تتحول روت الى مومس عندمتا رغبت في الانفتاح على الآخر.
يبدو الآخر، من منظور الادب القصي الصهيوني، في صورة المضطهد التاريخي لليهودي المتفوق عليه بمشيئة الله واختياره، وهذا الاضطهاد ابدي، ما يعني استحالة الاندماج، وان ليس من حيز - مجال مشترك للأنا - الآخر.
تبدو هذه المقولات مسلمات - حتميات في الفكر الصهيوني ما يقتضي ايجاد حل، وتمثل هذا الحل، في مرحلة تاريخية وظفت فيها الحركة الصهيونية في النظام العالمي الذي اقامه الاستعمار الغربي، في الهجرة الى فلسطين واقامة كيان استيطاني فيها يدين بوجوده وبقائه لهذا النظام، ولأدائه الدور المنوط به، لكن فلسطين مسكونة وشعبها متجذر فيها منذ آلاف السنين، فنبتت فكرة إلغاء هذا الشعب، والقول: فلسطين ارض بلا شعب، تستلقي بانتظار شعب بلا ارض، او القول: فلسطين يقطنها شعب بدائي، وهي تنتظر شعباً متحضراً، واستخدمت اساطير غيبية في الزعم ان لهذا الشعب المتحضر حقاً تاريخياً فيها، وجهد الاعلام الصهيوني والاستعماري الغربي في نشر هذه المقولات, كأنه يتبع نصيحة غوبلز، وزير الدعاية النازي: "اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب، حتىتصدق انت ما تقوله كذباً"، وكان الادب، والقصصي منه بخاصة، وسيلة من وسائل هذا الاعلام، فعمد الى إظهار الفلسطينيين في صورة قبيلة همجية متخلفة كأنهم الهنود الحمر في امريكا او التسمانيين من استراليا.
صورة الآخر من منظور الادب القصصي
الصهيوني
ويمكن لقارىء الادب القصصي الصهيوني ان يتبين عناصر هذه الصورة، من
خلال نماذج مختارة، وهذا ما سوف نفعله مبتذئين بالكلام على صورة الأنا المواجهة
للآخر والرائية اليه.
"النحن" واسطورة البطل مجترح المعجزات
تنفصل الأنا عن العالم، وتنسحب الى "النحن" - المؤسسة، وينتظم سعيها في المسار الذي ترسمه لتنفيذ اهدافها. تقول احدى شخصيات رواية "ايام تسيكلاج" ليزهار سميلانسكي (ولد في رحوبوت عام 1916)، الصادرة عام 1958، وتروي , ويسمى يزهار ساميخ.
احداث استيلاء الصهاينة على احد المواقع الفلسطينية (التل 244): "… ليس هناك حياة خاصة، هناك فقط مهمة موكلة اليه, لن يكون لديه هدوء، وبقدر ما سيحاول ان يهرب سوف نطارده"، ويشعر "جيدي" بارتياح شديد لانه لم يوضع في موقع الاختيار فيقول: "انكر احياناً في السلطة الحديدية، وفي انه ليس لنا الخيار في الاختيار، حينئذٍ سيكون من السهل التنفس حيث لا خيار" (18).
يبدو هذا المحارب الذي يحس بالارتياح لانه لا يملك حق الاختيار كائناً نموذجاً، اطلق عليه بعضهم اسم "البطل المعصوم"، مجترح المعجزات. ففي رواية "آموساي" لياكوف رابيوتيز (1875 - 1949) نلتقي البطل "العظيم" على مختلف المستويات، الموجود لدى الشعور بالحاجة اليه، وفي رواية "اكسودس" لليون اوريس يقول الضابط الانكليزي مالكولم: ".. المحارب اليهودي هو الافضل، فهو مقاتل ومثالي في آن واحد… ان رجال الهاغاناه يشكلون بلا تردد اعلى مستوى ثقافي وعقلاني ومثالي لرجل تحت السلاح في العالم اجمع". ويستخلص راهب كاثوليكي، على اثر نقاش ساخن مع احد اليهود: "ان الكاثوليكي يضع نفسه في يد الله ويترك المعجزات للقديس ، ولكن اليهودي يجب ان يحمل نفسه عبء اجتراحها" (19).
وقد تمثل اجتراح المعجزات في كتاب الّفه مردخاي غور (رئيس اركان سابق) اسمه وقدمه للاطفال، وروى فيه احداثاً تصنع فيها الكلبة عزيت ما لا يستطيع البشر صنعه "عزيت الكلبة المظلية" (عزيت هكلباه هتسنحنيت) ويقهر الجنود الاعداء كأنهم الرجال الخارقون، وفي هذا عبور الى الموقف العنصري من الآخر يعلَّم للاطفال، وهذا هو الموقف الصهيوني الذي يعبر عنه الشاعر، فيقول: "السيد هو السيد / والعبد هو العبد / وان كانا من احفاد ابراهام / ما ينطبق على الامة ينطبق على ابنائها / فلماذا يخالف العرب قانون الله؟"، ووفق قانون الله هذا تتعرض كل شعوب العالم، في العمل الفني الصهيوني للاحتقار بدرجة او بأخرى، فالبولونيون جبناء والالمان برابرة والاتراك مرتشون واليونانيون اذلاء والعرب فرارون وخونة والانكليز متواطئون والامريكيون انتهازيون…" (20)
الآخر مضطهد ابدي
تمثل الكتابات
القصصية الصهيونية هذا الآخر مضطهداً ابدياً، نتبين ذلك، على سبيل المثال في كتابات
شموئيل يوسف عجنون (1888 - 1970، هاجر الى فلسطين سنة 1908 ، نال جائزة نوبل عام
1966)، يقول باروخ كورسفيل: "ان موضوعاً واحداً يوحد كل حكايات عجنون، ويجمع
اجزاءها المختلفة. هذا الموضوع الذي يتجاوز المكان والزمان هو موضوع الابادة
والتضحية". ويلاحظ قارىء كتابات عجنون انه يصف الاخرين بعبارة "الانجاس الملعونين"،
وانه كتب عن فلسطين باعتبارها حلماً يهودياً وهدفاً صهيونياً، وليس بوصفها حقيقة
واقعة على الرغم من انه عاش فيها واحداً وستين عاماص وقد لاحظة لجنة جائزة نوبل ان
قصصه تقدم "التراث الثقافي اليهودي"، ولم تقل انها تعبر عن المجتمع الاسرائيلي
(21).
وهذا الاضطهاد لا يقتصر على النازيين، وانما هو تاريخي ابدي، ففي قصة "الحروب الصليبية" (22)، على سبيل المثال، يلغي عاموس عوز الطرف الاساس في الصراع، وهو العرب، ويجعله بين صليبيين مصابين بالجنون وبين اليهود بوصفهم ضحايا بريئة، ويبدو اليهودي، في هذه القصة، في نظر قائد الحملة ورجالاتها الخائن المفترض، ومصدر السوء والشؤم، وعنصراً شريراً خفياً (23)، ولهذا يقتل الصليبيون اليهودي الجوال، على الرغم من انه يعطيهم كل ما يملكه، ثم يرفسونه كما ترفس العنزة (24). ثم يقتلون يهودية وطفلها، ولا يلبثون ان يعذبوا احد زعماء اليهود، ويقتلونه بعدما اعطاهم كل ما طلبوه، ولم يفوا له بعهدهم العفو عنه (25).
وفي مثال آخر يتعلق باضطهاد العرب لليهود، يقول "ابابيها" في رواية "ظلام المعاناة" ليهودا بيرلا (ولد في القدس عام 1886): "تعالى انظر ماذا يفعل بنا المسلمون الاغيار؟ ماذا حرقوا وخربوا؟ ماذا فعلوا بي؟ لقد ذبحوا ابنائي امام عيني، وشرخوا رأس زوجتي بالسيف، وقتلوا ابي وامي واناساً اخرين". وتلاحظ الباحثة ريزا دومب ان شخصية ابابيها في هذه الرواية مقحمة، و"إقحامها مقصود لاثبات وجود العنصر اليهودي في فلسطين، ومأساته هي نتيجة لقسوة العرب ضد اليهود…"، وتضيف الباحثة فتقرر ان "حادثة ابابيها لا تلقي اي ضوء على بقية الشخصيات، كما لا تضيف شيئاً لفهم العقدة" (26)
لا يخفى ان حكاية اضطهاد العرب لليهود مختلفة، ويذكر عصام عباسي ان مستشرقاً يهودياً قال له: "قل لاولئك الذي يضطهدون: من غير العرب حماكم وحدب عليكم؟ من اغنى التراث العبري الادبي وساعد على وجود قواعد للغة العبرية وقواعد للشعر العبري، بل ادخل التفكير الفلسفي في الدين اليهودي؟"، ويستشهد بأسماء كثيرة منها موسى بن ميمون الذي يسميه اليهود "الرامبام"، والحريزي تلميذ الحريري صاحب المقامات المعروفة باسمه (27).
انفصال الكيان لاستحالة
الاندماج
تقضي هذه الرؤية من منظور "الاضطهاد الابدي" بتقرير استحالة
الاندماج بالشعوب الاخرى، وضرورة الهجرة الى فلسطين. تقول بطلة عجتون المفضلة:
"انني ادعو الله ان يأتي اليوم الذي تتوسع فيه حدود اورشليم حتى تصل الى دمشق في كل
الاتجاهات" (28). ويقول القاضي موشي شامير (ولد في صفد عام 1921، احد مؤسسي حزب
هتحياه، من اليمين المتطرف) : "ان على الاسرائيلي الجديد ان يعمل على تحقيق وجوده
الخاص في الوقت الذي يجب عليه الا يذود عن كتفه طيور الدياسبور التي تذكره دائماً
بان غرف الغاز هي البديل لاي حجرة في اية مستعمرة للكيبوتس" (29)
ان يكن على ما يسميه شامير "الاسرائيلي الجديد" ان يعمل على تحقيق وجوده الخاص مسكوباً بالاضطهاد، فلماذا تكون الحجرة - حيز الوجود الخاص في مستعمرة؟ ولماذا تقام هذه المستعمرة الاستيطانية في فلسطين، وفي مكان الآخر الفلسطيني؟ ولماذا يدفع الفلسطينيون ثمن الاضطهاد النازي ان كان هذا الاضطهاد كما يصور صحيحاً؟
يقول ارنولد توينبي: "استطيع ان افهم مطالب اليهود بعد كل الذي عانوه على ايدي الالمان بانا مطلب ترمي الى اعطائهم ولاية في مكان ما من العالم ليمارسوا سياداتهم الخاصة فيها… واذا كان لا بد من حدوث ذلك ينبغي ان تكون على حساب الغرب الذي ارتكب اقسى الفظائع مع اليهود وليس على حساب العرب…" (30)
وان يكن الغرب قد اضطهد اليهود فان العرب حموهم، واتاحوا لهم ان يحققوا وجودهم كما مرّ بنا آنفاً. ويمكن ان نجد اشارات في القصص الصهيوني تفيد انهم كانوا يعيشون حياة عادية في البلاد العربية، وفي فلسطين بخاصة، ففي قصته "ميركادوا سائق الحمار" لناحوم ياروشيليمي (1890 - 1961) هاجر الى فلسطين عام 1905), نقرأ ان اليهود كانوا يعيشون في الخليل حياة طبيعية، وكانوا في احيائهم يتكلمون لغة "الهادينو"، وكان العرب يثقون بالحاخام ويحترمونه، وكانت المرأة العربية تغسل النساء العواقر في احد الينابيع بغض النظر عن كونهن عربيات او يهوديات، وكان الفلاح العربي يؤجر ارضه لـ"الكوليل" وكان ميركادو يكسب عيشه من شراء الدواجن من العرب، وكانت اليجرينا تعرف اغنيات الخليل وتغنيها.
ونجد، في الرواية نفسها، ما يدل على الاسباب التي جعلت فلسطين مكاناً مختاراً للاستعمار الاستيطاني الصهيوني, فقد جاء في فقرة مفاجئة ان هيجاناً حدث، وذلك عندما ايقن اهل الخليل ان الانكليز قادمون (31). فالانكليز، بوصفهم ممثلي الاستعمار الغربي، هم الذين وظفوا الحركة الصهيونية في النظام العالمي، واوكلوا للكيان الاستيطاني دوراً في هذا النظام لا يزال يؤديه، بعدما تولت الولايات المتحدة الامريكية دور ممثل هذا الاستعمار في هذه الحقبة من التاريخ.
إلغاء الآخر الفلسطيني: غير موجود، او
غير جدير بالوجود
رأى الصهاينة ان قيام كيانهم الاستيطاني في فلسطين لا
يتحقق الا اذا الغوا وجود الشعب الذي يعيش فيها، او صوروه شعباً غير جدير بالحياة
فقال السياسي الصهيوني: "لا يوجد شيء اسمه الفلسطينيون… ليست المسألة انه كان هناك
شعب فلسطيني في فلسطين يعتبر نفسه شعباً فلسطينياً فأتينا نحن وطردناه واستولينا
على ارضه. الفلسطينيون لم يوجدوا قط" (32)
وردد الادباء مقولات السياسي، ويمكن ان نتبين هذا من خلال بعض النماذج في ما يأتي:
هاجر موشيه سميلانسكي الى فلسطين عام 1891، ليعمل في مجال الاستيطان، ثم زار سويسرا عام 1906 ، فطلب منه الصهاينة الكتابة عن العرب لمعرفته بهم. فكتب ما يمكن تسميته تقارير قصصية تلفت فيها عدة امور، اولها انه جمع خمسين اقصوصة من كتاباته في مجلدين، ونشرهما تحت عنوان "اطفال الجزيرة العربية"، ما يعني إلغاء الصفة الفلسطينية، والقول ان سكان فلسطين هم ابناء الجزيرة العربية، وهذا - اي الغاء الصفة الفلسطينية - ملحوظ في الكتابات الصهيونية، وثانيها توقيعه كتاباته باسم مستعار هو "الخواجة موسى"، وبهذا الاختيار يكون، كما ترى ريزا دومب، "قد وضع نفسه في موضع متفوق ينظر منه من علٍ الى العرب، وهو ما فعله بالفعل في كتابته" (33).
وثالثها تقديم الفلسطينيين: ارضاً وشعباً في صورة قبيلة بدائية، تحيا في تقاتل دائم، وتتمسك بالقديم المتخلف وترفض الاخر المختلف. ففي المجموعة القصصية التي اخترها قسم التعليم والثقافة التابع للهستدروت الصهيوني العالمي، ونشرها بلغة عبرية مبسطة تحت عنوان "العرب" (34)، فقرأ: في قصة "صاحب الكلب" يميز العرب بين الابيض والاسود، ويضطهدون الثاني، لم يعرفوا النقود الا بعد ان جاء اليهود. في قثصة "بنت الشيخ" يدور صراع دائم يمثله قول الكاتب: "لا تدخل قبيلة الى المكان الذي توجد فيه القبيلة الثانية. لا يتحدث هذا مع ذاك. ولا يتزاوج هؤلاء من اولئلك، وعندما يموتون لا يرقد هذا بجوار ذاك" (35). في قصة "الحمو" يتحمل العربي كل شيء ولا يقاومه، بوصفه قدراً. في قضية "عبدالهادي" يتمسك العربي بأشيائه، ويرفض ان يفتدي ابنه بالبندقية، ويتمسك بالقديم وعندما يشعر انه كان مخطئاً يموت غيظاً. في قصة "الأخذ بالثأر", وقد مررنا بها تملي القبور واصحابها القرار، وتفرض التمسك بعادات الأخذ بالثأر, ويرسم الكاتب مناخاً اسطورياً بدائياً قوامه القتل والدم: "شطح الشيخ في صلاته عندما رأى في السماء سحابة على شكل اليد، ولها اصابع طويلة وتتساقط من الاصابع قطرات من الدم خيل اليه ان اليد انما تقطر الدم على رأسه. فقال سوطفرالله العظيم" والصواب "استغفر الله العظيم". يريد سميلانسكي القول ان سكان فلسطين قبائل عربية، غير جديرة بالحياة ويذكر في سيرته الشخصية انه قال عندما قابل العرب لاول مرة: "ماذا يفعل هؤلاء العرب هنا؟ لماذا هم فقراء وقذرون بينما الارض حول قريتهم جيدة وخصبة؟… انهم همجيون" (37)
تتكرر هذه الصورة لدى غير كاتب, فقاموس عوز يقول في رواية: "في مكان آخر ربما": "كان هنالك فلاحون عرب قلائل قبل مجيئنا، ولكنهم كانوا فقراء وبدائيين، كانوا بملابسهم القاتمة فريسة سهلة لعوامل الجو وكوارث الطبيعة" (38).
العربي مخلوق غريب
ولا يجد ج.
كوهين مجالاً للخطأ في تحديد هوية العربي من منظور صهيوني، فيقول: "ان العربي مخلوق
غريب، يرتدي جلباباً ممزقاً، وغطاءً قذراً للرأس، وتلتف زوجته بثوب ابيض، ويسير
اطفاله حفاة، وليس من مجال للخطأ من تحديد هويته، فكل شيء يتعلق به، مادياً كان ام
معنوياً ، ينطق بصفاته، انه ليس قذراً فحسب، بل هو لص وكذوب وكسول وعدواني"
(39).
المسخ والصورة الذات
يمسخ
المنظور الصهيوني العربي فنرى في كتاباته ليس الصورة الموضوع كما هي في الحياة،
وانما الصورة الذات كما تبدو في عين الناظر الراغب في الغاء الاخر ليسلب مكانه،
والالغاء يتخذ اشكالاً متعددة منها التحول بالآخر الى حيوان، وان لم يكن ذلك ممكناً
فانه يتمثل في الكتابة التي تمثل الرغبة، ومن نماذج هذا المسخ يقول مردخاي طبيب
(ولد 1910)، في قصة "قيثارة يوسي" ان العرب الصغار "متوحشون بطبيعتهم"، ويرى يوسف
اريخا (ولد 1906 في اوليبك، هاجر الى فلسطين عام 1925) في قصة "الرسام والراعي"،
العربي "حية مفترسة", وفي قصة "ليلة ليلة" "خنفسة كريهة" ، وذئباً متوحشاً، ويراه
عاموس عوز في قصة "البدو الرحل"، ثعلباً ذا اسنان طويلة، ويراه اشربراش في قصة
"صفية المسيحية" كلباً قذراً ويراه موشيه سميلانسكي خنزيراً وثوراً، ويراه يتسحاق
تشامي (1888 - 1949) في قصة "انتقام الآباء" طيراً مهاجماً تتوهج عيناه كأنها وضعت
في النار، يدل هذا المعجم اللغوي المتكون من اسماء الحيوانات على ما يعتمل في داخل
الذات من كراهية ورغبة في الالغاء، تتجسدان في هذا المسخ الذي يتمثل الغاءاً
جسدياً، قتلاً يحقق الذات، وهذا ما يفسر المجازر التي ارتكبها الصهاينة وما زالوا
يرتكبونها وآخرها مجزرة قانا والمنصوري والنبطية الفوقا الخ….
القذارة والوحشية
وتكتمل صورة
الانسان البدائي عندما تتلمس عناصر اخرى منها: القذارة الوحشية، ففي قصة "بلاد بنات
آوى" لعاموس عوز، يستلقي ماتيتاهو، ويرى عدداً من العرب: "… جمهور قذر، غامق اللون،
ينشر العمل والبراغيث، وله رائحة كريهة، والجو والكراهية سبب جفاء وجهه… يحرقون وهم
يتدفقون… يتسلقون الجدران كالقرود المتوحشة…
الكاتب نفسه، يقول جندي صهيوني: "بصعوبة بالغة منعت الاسير من تقبيل يدي، ولقد نفذ كل ما امرته به… وكان يعود الي في كل مرة كالكلب العائد الى كوخه" (42).
تحقق صورة "القرد المتوحش القذر…" فكرة الإلغاء: البدائية وعدم الجدارة، وان كانت تخيف، فان صورة "الكلب المدجن تحقق فكرة الاحتقار والاذلال والاستهانة، وكلا الصورتين تحقق "المسخ"، كأننا ما زلنا في اجواء العصور القديمة لا العصر الحديث.
الشخصية العاطفية لا تملك
خيارها
ومنها، كما نرى في قصة "انتقام الآباء" ليتسحاق شامن"، "المزاج
العصبي العاصف"، و"الغباء الذي يؤدي الى ظلام العقل الانساني" والى سيطرة الغرائز
وجعلها الناس يتصرفون كما لو كانوا مجانين (43). او كما لو ان قوة تسيرهم، هي
العادة او القدر مثلهم مثل الحيوانات، ففي القصة نفسها يبدو "ابو الشوارب" رجلاً لا
يملك خياره الشخصي، "وكان اشبه بحصان الطاحونة الذي يدور عندما يعتاد على الدوران
حول الارض وضربها بحوافره، يطل يدور ويدور حول نفسه حتى وهو نائم"، ويقع الجميع في
فخ لا مهرب منه: "من تلك الساعة وقع قادة الحجيج في فخّ لا مهرب منه، لقد اوقعهما
الشيطان في خاتمه، واخذ يقودهم من انوفهم لخدمته وتنفيذ مخططاته" (44).
الشخصية فردية همها الكسب
ومنها
السرقة والتخريب، كما في قصة "البدو الرحل والثعبان" لعاموس عوز: "انهم يسرقون ثمار
الفاكهة غير الناضجة التي في البستان، ويفتحون الحنفيات، ويسرقون حظائر الدجاجات
وينتفون ريش الطيور"، فما يهمهم هو الكسب اياً تكن طرقه، فرشيد كما يقول يهودا
بورلا يخون شعبه، ويهرب اسلحة يبيعها لليهودي جدعون (45)، ولهذا فهم فرديون انانيون
لا مبدأ عندهم ولا قيمة للعواطف الانسانية لديهم، فيوسف اريخا يروي قصة عربي جلس
على قارعة الطريق يبيع ثمار حقله، وكانت معه ابنته التي تسلقت شجرة وسقطت تتخبط
بدمائها حتى لفظت انفاسها.. ولم يفطن لها الا بعد ان باع ثماره، ويقول يسرائيل
زارحي في احدى قصصه: "كان القرويون العرب يخرجون بين المعارك لسلب القتلى الاتراك.
كانوا يقطعون اصبع الجندي التركي اذا كان يحمل خاتماً وينزعون سنه من فمه ان كان من
الذهب" (46).
فما يعنيهم هو اشباع الرغبة في المال، وفي الجنس، ففي قصة "عائشة لموشيه سميلانسكي يتزوج عبدالله فتاة لا تحبه رغماً عنها، وفي قصة "مبروك" للكاتب نفسه يربي المختار فتاة يتيمة، ويرفض تزويجها لانه يريدها لنفسه، وفي قصة لينة درويش شالوم" يبيع الاب ابنته، وتقول لينة لليهودي الذي تعمل عنده: "لن يتزوج غيري، ولن يضربني، سأعلمه ان يكون كواحد منكم… هناك عرب يمشون… انهم شريرون، سيرونني معك.. سيقولون لابي… سيغضب، سيقتلني، وقد قتل امي من قبل" (47).
اللقاء في ساحة الحرب / اجتثات
الآخر
وان يكن العربي على هذه الصورة التي يبديها منظور الادب القصصي
الصهيوني، فان اللقاء بين العربي واليهودي لا يكون الا في ساحة الحرب، ففي قصة
"حادثة جبرائيل تيروش" ليتسحاق شليف، يرى المدرس انه يجب الاستفادة من تجربة
الصليبيين ويقول لتلاميذه: "… لن يترك الفلاح العربي المكان الا باجتثاثه. والسؤال
هنا: من ذا الذي سيجتث الآخر؟ علينا ان نتذكر ان في وسع الفلاح الشرقي ان يصبح صلاح
الدين…"، يناقشه بعض التلاميذ قائلين: "ان في البلاد متسعاً للشعبين"، وقد لمحنا في
خطاب لينة آنف الذكر اشارة الى امكانية اللقاء تتمثل في قولها: "سأعلمه ان يكون
كواحد منكم"، لكن المدرس يقرر بحزم: "يجب ان تنزعوا من نفوسكم كل تفكير بانه قد
يأتي عربي طيب…" (48).
ودارت الحرب في الاعوام: 1929 ، 1936 ، 1948، 1956، 1967، 1973، 1978، 1982، ولا تزال دائرة في لبنان الجنوبي، وقد صورت القصص الصهيونية العربي جباناً هارباً، والصهيوني شجاعاً مقداماً، منتصراً، على الرغم من كثرة العرب وقلة اليهود، ومن نماذج هذه القصص ما كتبه مردخاي غور في كتاب "عزيت الكلبة المظلية"، اذ صور المقاتل الصهيوني محارباً خارق القوة، تقطع كلبته المسافات في دقائق، وتحقق هي والجنود المعجزات.
لقد حقق الصهاينة انتصارات عسكرية، لا تعود الى جبن العرب وشجاعة عدوهم، وانما الى معطيات كثيرة اهمها ارتباط الحركة الاستيطانية الصهيونية، وكيانها بالقوة العالمية الضامنة تفوقها العسكري، وان كان من مثال يقدم لبيان حقيقة الامر، فهو المواجهة الدائرة الآن في لبنان الجنوبي، اذ انه يضع المتحاربين في شروط تتيح للعربي ان يكون موجوداً وفاعلاً, ونترك لصحيفة "هآرتس" الاسرائيلية ان ترسم الصورة الحقيقية. تقول الصحيفة على لسان قائد عسكري صهيوني: "عندما يصل جنود شبان الى لبنان، هناك يشعرون بالصدمة من الهوة القائمة بين الاسطورة والواقع. ودورنا نحن القادة مساعدتهم على ردم هذه الهوة. في البداية يقترب الكثيرون منا ويعترفون لنا انهم خائفون، انت تراهم يتحركون طوال الوقت في الخندق، غير مطمئنين، ويطلقون الكثير من الانذارات الفارغة… وثمة جنود لا يستطيعون تحمل التوتر، وعندما كنت قائد طاقم، صدف لي ان اخرجت اثنين من تلة الدبشة لانهما انهارا" (49).
لا يجد المنظر القصصي الصهيوني مجالاً للقاء بين العربي والصهيوني سوى ساحة الحرب، حيث ينبغي قتل العربي واجتثاثه، وهذا يمثل جوهر عقيدة الاستيطان في مكانه، اذ ان هذا الاستيطان يقتضي الغاءه، وتظهر هذه الرغبة في القتل في صورة فظيعة، كما نقرأ في قصة "خريف اخضر" لناتان شاحم: "وعندما كان الاسير يسير في طريقه في السلسلة الجبلية يعلو فجأة على لغم، ولقد احسنا معه عملاً عندما رميناه برصاصة واحرقنا جثته بعد ذلك". وعن اسير آخر يقول: "واطلقنا عليه صلية رشاش اردته قتيلاً, ان الطريقة التي قتل بها لم تعجبني لانني كنت احب ان يموت بانفجار لغم تحته" (50).
الصورة النموذج في قصة
قصيرة
ويمكن ان نتبين صورة العربي في قصة قصيرة نقرأها بوصفها نموذجاً، وهي
قصيرة "على حدّ رصاصة" (51) (عل حودوشل كادور) ليتسحاق اوربار، (ولد في روسيا، عام
1923، هاجر الى فلسطين عام 1938، كتبها بعد حرب سيناء في عام 1956: يقدم جندي
صهيوني تقريره الى قائده، فيقول انه دخل مغارة رأى فيها ما يريبه، وخرج فجأة فدائي
عربي ضخم الجثة، وهو يحمل مسدساً ويهتف الله اكبر، ويعيد الهتاف (الصراخ والتظاهر
بالقوة)، لكنه ما ان يرى الجندي الصهيوني حاملاً مدفعه الرشاش حتى يلقي مسدسه
وينبطح ارضاً، ويمرغ رأسه في التراب (تفوق الجندي الصهيوني، ادعاء العربي الفارغ،
وخوفه وجبنه). ويظل يتوسل الى الجندي كي لا يقتله (عدم الاحساس بكرامته، الذل) يفكر
الجندي، ويشك في ان يكون التفكير قد عرف طريقه الى الفدائي (تباين في المقدرة على
التفكير، وما سبق يفيد ان شخصية الفدائي بدائية انفعالية) يقسم الفدائي انه يحب
اليهود (نفاقه)، فيسوقه الجندي اسيراً، ويفكر ان عادة الغدر عادة عربية دنسة (حذر
الجندي وغدر العربي)، فيأمره بالانبطاح ويضربه (الكره والتعذيب)، ويتبين قدراً
كبيراً من القاذورات على جلده (قذارته) ويرى اسنانه السوداء (قبحه)، ويسمع حكايته
عن اخيه الذي قتله اليهود لكنه لا يعترض على مشيئة الله التي جعلت اخاه يموت في
الحرب، وجعلت اليهود ينتصرون في حروبهم على المسلمين (استسلامه لقدر انتصار اليهود،
ونذالته في الاستسلام لقاتلي اخيه والمنتصرين على قومه)… وانه كان يفكر في بيع
سلاحه حتى يصبح بمقدوره جمع الاموال اللازمة لدفع المهر (فرديته واهتمامه بمصالحه
فحسب، وقيمة المال تفوق كل القيم في المجتمع العربي، ويحدثه عن الشجرة والارض في
المكن الذي كان له ولأبيه واجداده. فيحدث الجندي نفسه: ان هؤلاء الاوغاد يعرفون
جيداً كيف يحوكون الاكاذيب (حذر الجندي وريته للعرب: اوغاد، يكذبون فلا مسوغ
للإحساس بالذنب، والجندي يهرب من الحقيقة، هنا ومن معاينة الواقع الى المقولة التي
تسوغ: هم اوغاد يكذبون. ويدرك الجندي ان اسيره سيكون مقتلعاً من ارض اجداده،
ويتساءل: اين سيكون مكانه تحت الشمس ، لكنه يقرر ان هذه الارض هي ارضه هو، وفيها
امله، وهذا هو الفرق بينه وبين الفدائي، ويتساءل: ولكن ما امله؟ (يتلمس الفرد طريقه
الى السؤال)، ويبقى السؤال قائماً: ما امل الفدائي الاسير؟ ما مصيره؟ كان الجندي قد
قال: "كم تمنيت ان اخبره صراحة: ما فيش مهر، ما فيش بنت"، وقرر الضابط ان يجعله
مادة تجربة بندقيته التركية، فان لم تكن صالحة اطلقه، ويجرب الجنود البندقية فيه،
ويقتلونه، قائلين: "ليست هناك اية مشكلة ان اصبح عدد العرب اقل…". لقد اطلق عليه
النار "ولا اعرف ما هو وجه المأساة". ثم يغني الجنود: "القينا السلام عليكم، ويقول
الجندي: "اما انا فكنت انظر الى قبر صديقي ابراهيم. (وهنا تبدو المفارقة، فاي سلام
يتم بعد مقتل الاسير؟ واي صداقة هذه التي تتم بعد الدفن؟ هل تتم مع
القبر؟.
وان يكن الفرد قد تلمس طريقه الى الاحساس بالذنب ، وهذا ما نلحظه في هذه القصة، فان المقولة ، العقيدة المشبع بها تحول دون ذلك، كما ان المؤسسة تمارس دور القتلن ان كان الفرد قد طرح السؤال عن امل العربي ومصيره ومكانه تحت الشمس.
وفي قصة "مباراة سباحة" (52) لبنيامين تموز (ولد في مدينة جراكوف سنة 1919، هاجر الى فلسطين عام 1924) نتبين الفرد الذي يتلمس طريقه الى الظهور ، لكن المؤسسة تنفذ القتل، ويجد الضابط الصهيوني نفسه عاجزاً عن انقاذ عربي اسير كان صديقه ومنافسه في السباحة، فيخرج من البركة بعد ان يسمع طلقة، ويرى جثة العربي: "ان وجهه لم يكن وجه انسان خسر في هذه السباحة. كنت انا الخاسر، بل كلنا مغلوبون".
يقول ايهود بن عيز لا يبدو الاسير، في قصة "على حدّ رصاصة" للراوي كأنه من دون صفات انسانية، وانه مجرد حيوان، ثم يكتشف فيه بريق الانسان والمقدرة على ان يكون مثلنا (مثل لليهود) فيعطف عليه، ويشاء ان ينقذه (كما حدث في قصة الاسير ليزهار سميلانسكي، وفيها فكر الراوي في اطلاقه لكنه خاف من المؤسسة العسكرية)، لكن قوة قائمة قاهرة تقتله (53)، ويبدو هذا القتل للراوي في قصة "مباراة سباحة" خسارة للطرفين.
ونلمس شيئاً يتحرك داخل الفرد، نتيجة عدة احاسيس اولها الاحساس بالذنب المراد له ان يقمع، وثانيها الاحساس ببريق الانسان لدى الاخر المراد له ان يخفت وثالثها الاحساس بالخسارة، او "عجز النصر"، كما سمه د. رشاد الشامي ويمكن ان نتبين هذا الوعي الذي تحرك، ودفع الفرد الى السؤال، وتبين المأزق في بعض النماذج، في ما يأتي.
اثارت رواية "خربة خزعة" (54) ليزهار سميلانسكي، لدى صدورها عام 1949، ضجة غير عادية، وبعد ثلاثين سنة ثارت الضجة من جديد بمناسبة إقدام التلفزة الصهيونية على تحويلها الى حلقات تلفزيونية. تعود هذه الضجة الى امرين: اولهما، وهو الاكثر تأثيراً في اثارة الضجة يتمثل في ان هذه الرواية، بوصفها وثيقة ادانة تستند الى وقائع حدثت في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1948، تمثل كما كتبت صحيفة "معاريف" "شهادة دافعة على السلب والنهب والحرق والتدمير والتهجير الجماعي الذي مارسته المنظمات الصهيونية ضد العرب الفلسطينيين وقراهم التي دمرت لتسهيل الاستيطان اليهودي على انقاضها" (ص 6).
وهذا يكذب ما روجه الاعلام الصهيوني، الذي وظف الادب في خدمته، فقال عاموس عوز، على سبيل المثال: ان العرب في فلسطين كانوا فلاحين قلائل، فقراء وبدائيين، جئناهم بالمحاريث فردوا علينا بالسيوف. هربوا الجبال منذ رأونا، ومن هناك اخذوا يلقون علينا كراهيتهم التي لا تستند الى اساس (55)، وثانيهما ان هذه الرواية بوصفها نصاً ينطق برؤية كاتب تسجل فظاعة ما حدث، وتجسد الاحساس بفجيعة حركت شيئاً في الفرد المنسحبة اناه الى ذاته، والمنتظمة ذاته في "النحن"- المؤسسة، وجعلته يتساءل: ما الذي نفعله؟ وما بعد؟
وان تكن هذه الرواية تلمح بريق الانسان في الآخر، فانها تصور العربي من المنظور الصهيوني نفسه الذي يرى في الارض الفلسطينية "الارض النقية الوادعة" (56) و"الوجود المغتسل، المطهر" (ص 12 و13)، يوغل فيها جنود مدججون بالسلاح، وهم يحملون امراً بالنسف والحرق والاعتقال والتحميل والطرد (ص 11) ويمضي هؤلاء "لاعبين ومغنين" كأنهم في نزهة (ص 12). ويشعرون بحاجة للإنتقام للتكسير والتحطيم، وعلى الاقل للدوس بالأرجل" (ص 16)، ويصرخون: "اوخز النذل في مؤخرته افليدر، فليدير، فليتزحزح قليلاً، فليتزحزح ذلك القذر!" (ص 17)، ويرون وهم ماضون في تنفيذ مهمتهم ان الافضل "ان لا نبدأ بالتفكير" (ص 21)، وتتوقد فيهم بقوة شرارة الانسان الصياد - البدائي (ص41) وينطلقون مدمرين (ص 51).
ويصور الراوي اهل القرية، من منظر الجنود، حقيرين، جاهزين لكل اذى، ولو صادفوا اليهود لأبادوهم من دون رحمة (ص 13)، ويبدو كل شيء يملكونه قذراً (ص 14) قراهم مقملة مبققة مقفرة خانقة (ص 33). يرى فيها عجوزين "مسخين تفوح منهما رائحة القبور المعدة لهما. شيء لا آدمي، نتن حتى الغثيان… معرضتين للشمس كخلدين في عز الظهيرة، كعاهة خبيثة… وما الذي تفعل بهما اذا لم تبصق عليهما بقرف وتنسل دون ان تنظر اليهما، ثم تولي هارباً…" (ص 60 و61).
وتبدو الثنائية واضحة: وجود مغتسل مطهر جميل - سكانه، اناسه قذرون، حقيرون، جاهزون للأذى، ويمسخهم المنظر الى مسخين، خلدين، ثم يراهم عاهة خبيثة في هذه الارض التي لا يستأهلونها ولا يقاتلون من اجلها، وهذا ما يقوله الحوار الآتي بين الجندي غابي وعامل اللاسلكي: "فليأخذهم الشيطان، قال غابي : اية اماكن جميلة لديهم - كانت! أجابه عامل اللاسلكي انها الان لنا.
على مكان كهذا، قال غابي، كان شبابنا يقاتلون كمن لا اعرف ماذا، وهؤلاء يهربون انهم لا يحاولون حتى القتال - دعكَ من هؤلاء الاعراب، انهم ليسوا رجالاً، اجاب عامل اللاسلكي" (29 وتتكرر: لا يقاتلون، يهربون، ص 40 و 58)، ويقول الجندي أرييه: "… انهم ما ان يروا اليهود حتى يتغوطوا في سراويلهم" (ص 71) ويبدون خائفين اذلاء متوسلين (ص 53 و73)، يشبهون بالحيوانات: النمل (ص41) والدودة (ص49) والجيفة (ص 56 و 61 و66) والكلب (ص 67 و70 و72) والقطعة (74) والقطيع الخائف المذعن الهامس (ص 107) والحيوانات ص (110 و111).
واذ نلمس هذه الصورة التي تجسد ما في داخل الصهيوني وليس من في الواقع من العرب، نتبين دلالة الحوار الذي يدور قبل الهجوم على القرية، عن قتل الحمار والجمل (ص 23-25) فهو يشكل مناخ القتل، فالمشهد الاول لا يختلف عن المشهد الذي يرسمه موشي قائد الفصيل: "… وهناك نزرع لهم الغاماً قافزة، اعرابي واحد يتفجر وعشرة ينبطحون على الارض، وفوراً يغير الاخرون اتجاههم ويندفعون الى هنا، الينا، الى فوهة المدفع الرشاش هذا مباشرة، ويقعون في الشرك بكل بساطة" (ص 26). ويدمر الجنود الحياة، يحرقون، ينسفون، يحملون، يقتلون الخ… ويلتقط الراوي صورة فريدة لامرأة تمر في جماعة، وتمسك يد طفل يقارب السابعة، كانت تبدو حازمة، تشعره بالخجل، ويدرك انها "ام-لبؤة) وان ابنها "لا يمكن ان يكون حين يكبر الا حية سامة" (ص 118 - 119). وهذا المركب: العربي - حية سامة ثابت من ثوابت الادب الصهيوني، غير انه هنا يدفع الى السؤال: "ما الذي نفعله، الى الجحيم، في هذا المكان!؟" (ص 122)، والى جعل شيء يتمرد في الفرد، لكنه يصمت ويسأل: "من ذا الذي اخاطبه فيسمعني؟ انهم سيسخرون مني وحسب" (ص123).
نماذج تصور مظاهر المأزق
تصور
"خربة خزعة" جانباً من جوانب المأزق المركب الذي تتبينه بعض النصوص القصصية، في
مظهر آخر من هذا المأزق، يقتنع المحاضر العجوز، شرجا اونجر، في قصة "الحب المتأخر"
لعاموس عوز، ان مؤامرة تدبر في الاتحاد السوفياتي للقضاء على اليهود، فيحيا في
تعاسة ووحدة، وتتحلل شخصيته عقلياً وجسدياً، وهذا ما تؤدي اليه فكرة الانفصال عن
الاخر، والاقتناع بانه مضطهد ابدي، ما يثير السؤال: وماذا بعد قيام الكيان
الاستيطاني المنفصل المسكون بهاجس الدمار، او بشبح الافعى السامة الدائم الحضور في
القصص الصهيوني؟
وفي مظهر آخر، وفي قصة ابراهام يهوشع " في مواجهة الغابات" يكتشف طالب الدكتوراه المنسحب الى الغابات، حيث يلتقي الحارس العربي، وبعد ان يحرق هذا الغابة، القرية العربية التي دمرت، ما يعني ان الآخر الذي بذلت الجهود لإلغائه ما فتىء باقياً، وان ما اقيم حديثاً ليس سوى غطاء استار يحترق انه طارىء، لكن يهوشع الذي يثير مسألة الوجود الطارىء يشترط على العربي، في قصة "العاشق" كي يقبل ان يتنازل، ويتخلى عن هويته، والتنازل يحيل العربي، كما يرى عاموس كينان في رواية "الطريق الى عين حارود" الى "غائط" : "سأقول لك من انت، انت لست محمود، انت لست رافي، انت مجرد غائط، قطعة غائط نتنة، وهذا انت لانه اذا كان في العالم شيء ما منتن فهو الشخص الذي ليس هو نفسه، الذي هو شخص آخر، وكل من ليس هو نفسه لا يستطيع ان يكون شخصاً آخر…" (57).
وفي مظهر آخر، وفي رواية بنيامين تموز، الصادرة في عام 1980، "ومينوطاؤور" وهو الاسم العبري الذي حرف عن الاسم الاصلي للمسخ اليوناني "مينوتاورس" الذي كان له جسم انسان ورأس ثور، نلتقي صهيونياً محبطاً قرر النزوح عن الكيان الصهيوني والتخلي عن ثروته وزوجته واولاده والاستقرار في لندن حيث سعى الى كسب ودّ فتاة انكليزية من دون جدوى، وتطارده خلال سعيه صورة المسخ اليوناني الذي انجبته باسيفاي ابنة ملك كريت مينوس نتيجة علاقة غير شرعية مع ثور ارسله الاله اريس هدية ال الملك مينوس الذي حبس المسخ في قصر مخيف… ويرى جرشون شاكيد ان هذه الرواية تصور الحالة النفسية لتموز نفسه ولأبناء جيله ازاء التباين والتناقض اللذين يسيطران على المجتمع الصهيوني، ويقول دان مريدون ان تموز اراد مهاجمة اسرائيل الصهيونية.
تصور يائيل دايان في قصة "ولدان للموت" نموذجاً للصهيوني ابن المؤسسة، ويمكن ان تعد قصتها شهادة وثيقة انها خدمت مجندة مدة عامين برتبة لفتنانت، نقرأ في هذه القصة حكاية الاضطهاد، ونهاية الجيل القديم الذي كان يتكلم اليديش وحكاية الجيل الجديد الذي يمثله دانيال كالنسكي، الطفل الذي نجا من النازيين وصاغته المؤسسة الصهيونية مقاتلاً، تنسحب اناه الى داخله، وينتظم في مسار هذه المؤسسة كأنه آلة فيها، فلا ينقذه شيء من وظيفته في الحياة التي تعطيه معنى وجوده. وكانت يائيل دايان قالت على لسان بطل رواية "طوبى للخائفين" ان القتل لديه "يعني ما تعنيه مشاعر الحب الاول".
ويبلغ الاحساس بطغيان المؤسسة العسكرية حداً يلجىء الكاتب عاموس كينان (ولد في تل ابيب سنة 1927)، في رواية "الطريق الى عين حارود، الصادرة عام 1983، الى ان يروي حكاية الانقلابات العسكرية التي تنتظر الكيان الصهيوني، تحدث هذه الانقلابات، ويقتل قادتها المعارضين، ويلغون الصحافة، ويطردون من بقي من العرب، وان تنازلوا وتحولوا الى ما يسميه "غائطاً"، الى مكة، يقول الجنرال: بعثنا العرب "الى قلة. الى المكان الذي قدموا منه، الان بمقدورهم ان يركبوا هناك على الجمال في الصحراء وان يغنوا ما يشاؤون" (ص 103)، وهذه هي المقولة التي لمسناها في كتابات اخرى، ومنها قصص موشيه كملانسكي في اوائل هذا القرن. ويدفعون الصهيوني الذي يتلمس الفرد فيه طريقه الى السؤال الى درك من الانحطاط الفظيع، في هذا الواقع المقفل ينشأ الكابوس، يلجأ الكاتب الى الغرائبية، فيتصور ان جمهورية قامت في "عين حارود"، ولعلها "عين جالوت" العربية، حيث هزم المغول، في اشارة الى هزيمة الهمجية الجديدة المعاصرة، وتغدو هذه الجمهورية ملاذ الناس الاحرار، فيرحلون اليها، ويرحل الراوي، في بداية الرحلة، يشعر بانه يحتاج الى عربي: "يتعين علي ان اجد عربياً، دون مساعدة من عربي لن انجح بالوصول الى وادي عارة، وكل خطتي للهرب مبنية على العرب" (ص21)، ويسأل، ولعل كينان هنا يسترجع ماضيه في منظمة ليحي: "اين ينوجد العرب؟ وماذا جرى لهم في غمرة هذه الفوضى الكبرى؟ وبدأت افكر انني انا هو الذي طرد العرب من هنا. انا سوياً مع شألتئيل ودافيد، وكل الاخرين طردناهم… الآن اعطي كل ما لدي كي التقي احمد او محمود او حسن او علي لأقول لهم خذوني، ساعدوني على الخروج من هنا" (ص 22). ويلتقي محموداً العربي الذي كان يتخذ اسم "رافي" يقبل الحسناء اليهودية، ويدور حوار بشأن فقد الهوية، يقرر الراوي فيه ان الكل صاروا "رافي" وان لا بد من خلاص، ومن السفر الى "عين حارود"، فيخبره محمود انه يريد تجاوزها الى مكان اخر، لانها ترتضي الكيان الصهيوني الاستيطاني، لكنهما يمضيان، ويلتقيان البريغادير، وهو يمثل نموذجاً للعسكري الصهيوني، ويحتقر العربي ويسميه "العربوش"، ويقول له: "كان من الواجب ان نقضي عليك وعلى امثالك عندما كنتم صغاراً" (ص 48) ويسمي اليهودي المعترض … "اليهودي الميت" ويحتقره فيناديه بـ"يهودون" فيفكر الراوي في سره: "ثمة منطقة في هذا الكلام، فعلى نسق العربي الجيد هو العربي الميت، تأتي مقولة اليهودي السيء هو اليهودي الميت" (ص 55).
يأسر الراوي ومحمود البريغادير، ويفاوض قائد منطقة الشمال، فيوق له هذا: "نعرف انك بفقة عربوش"، واقتراحنا معروض عليك، اما العربوش فليس لدينا ما نقترحه عليه". وعندما يذكره بوجود البريغادير يقول: "بالناقص واحد…" (ص 67). وعندما يعتقل القائد الراحلين، ويتحدث ببذاءة مع الفتاة، يقول له محمود: "عندنا لا يتحدثون مع المرأة بهذا الشكل" (ص 102)، فيجيبه "ما حاجتك الى امرأة ايها العربوش؟ خذلك عنزة. واذا تفوهت بكلمة اخرى فستتلقى ضربة على رأسك، وعلى فكرة ليتقدم احدكم من الخلف ويضرب العربوش على رأسه" (ص 103).
يقتل القائد العربي والبريغادير ويترك الراوي حياً بوصفه اداة اعلامية، يقول القائد له: "وستبقى انت على قيد الحياة لترى كل هذا لانك ابن زانية اصيل كل منتصر يتعين عليه الاهتمام بإبقاء احد الاعداء المهزومين على قيد الحياة حتى يصف للاجيال خراب عصره…" (116)، ويقول الراوي: "لم تكن لمحمود حقوق مواطنية، ولذا كان يحظر قتله في حرب اهلية" (ص 109)، ويضيف: "لا غفران ولا نسيان لموت محمود الذي كان دون جدوى ودون هدف… اذا قدر لي ان اثأر لمقتل محمود فانني سأفعل ذلك لسبب واحد اذ دون ذلك من اصل عين حارود… ولهذا فانني الآن سيف" (ص 110).
صور كينان الكابوس القائم في الكيان الصهيوني الاستيطاني، ورأى الى حدّ جند نفسه سيفاً له، وبين الرؤية الصهيونية العنصرية الى الاخر، عربياً ويهودياً معترضاً، واعترف بما فعله المستوطنون وكان منهم، وما هم مستعدون لفعله، لكنه بقين كما يقول سميح القاسم، في مقدمة الرواية (ص 5 - 10) يصر على ان لليهود حقاً تاريخياً في فلسطين، و"يتجسد هذا الإصرار في التعامل المفرط مع مسائل الاركيولوجيا اليهودية، وفي الحوار غير المتكافىء مع محمود، وفي الاستطراد المقحم في ذكر الاسماء والوقائع اليهودية… غير ان هذا البطل اليهودي يتجاهل حقيقة جد بسيطة، وهي ان فلسطين لم تنتظر اهلها العرب سوى 36 عاماً، ذلك انهم عاشوا فيها منذ ظهر اسلافهم اليبوسيون والكنعانيون قبل ظهور اليهود واليهودية والتوراة بآلاف الاعوام، ان بدعة الحق التاريخي بدعة صهيونية…"، كما انه لم يكن عادلاً في حواره السياسي مع محمود، وفي توزيع المسؤولية على القاتل الصهيوني والضحية العربي واظهر حقداً على السوريين لا يتنافى مع الواقع السياسي فحسب، بل يتنافى اصلاً مع روح الادب، وابرز الايمان بالتفوق المطلق للعنصر العسكري الاسرائيلي، علماً ان الوقائع المعروفة تناقض هذه الصورة وتدحص هذا الوهم، فحتى في اعقاب النصر على اثر عدوان 5 حزيران 1967 عرفنا قادة اسرائيليين تقيأوا وسلحوا في بززهم العسكرية حين تعرضوا لمواقف خطرة، في اثناء الحرب والعالم كله يعرف حالات الانهيار العصبي والتفكير بالانتحار التي انتابت بعض كبار القادة الاسرائيليين في اثناء حرب تشرين الاول اكتوبر عام 1971.
والسؤال الذي يثار في هذا المقام هو: كيف يخرج الصهيوني من مأزق الغيتو الكبير، وهو مأزق مركب كما صورته بعض الاعمال القصصية؟ وان يكن الباحث عن اجابة قد غدا سيفاً فأين هي حربه؟ وما هي؟ اليست في تلك الاداة التي ترى ان القتل الاخر العربي يكون احساسها بالوجود والموظفة في خدمة المؤسسة، الموظفة في خدمة المشروع الاستعماري الغربي، وتدين بوجودها الى أدائها هذه الخدمة؟ لم يجب الادب القصصي عن هذا السؤال، وان كان قد تلمس طريقه الى اثارته والتفكير فيه.
للمزيد يراجع:
1- د. رشاد
الشامي، تطور وخصائص اللغة العربية، القاهرة: دار سعيد رأفت، 1978، ص 13 و14 او ما
بعدهما.
2 - لطفي عبدالبديع، "ادب وسياسة" ، ابداع، القاهرة، العدد الثالث، مارس
1995، ص6.
3 - Sasson, O. A2 History of the Jewsin, Baghdad, Letch worth,
1949, P.172
4 - شهاب
الكردي ، "يهود العراق…"، ابداع، العدد الثالث، مارس 1995، ص77، نقلاً عن مجلة
"مونازيم" العدد 56، ص 10.
5 - د. عبدالوهاب محمد المسيري، "الخصوصية اليهودية"،
ابداع، العدد الثالث، مارس 1995، ص 16-28 .
6 - غسن كنفاني، في الادب
الصهيوني، بيروت: مؤسسة الابحاث العربية، ط3 ، 1978، ص 46.
7 - د. احمد
حماد، "الاغتراب في الادب العبري المعاصر، عالم الفكر، الكويت، العدد الثالث، 1996،
ص 40 و41 نقلاً عن الكتاب المقدس، سفر المزامير، مزمور 22/1-9. وسفر حبقوق، الاصحاح
الاول 2/3 .
8 - ريزادومب، صورة العربي في الادب اليهودي، ترجمة عارف
توفيق عطاري، عمان: دار الجليل، ط1، آذار 1985، ص 8.
9 - د. رشاد الشامي،
عجز النص الادب الاسرائيلي وحرب 1967، القاهرة: دار الفكر، 1990، ص 28.
10 -
كنفاني، مصدر سابق، ص 13.
11 - نفسه، ص 60.
12 - نفسه، ص
65.
13 - غانم مزعل، الشخصية العربية في الادب العبري الحديث، عكا: دار
الاسوار، ط1 ، 1985، ص 67.
14 - د. سيد سليمان عليان، صورة العرب في القصة
العبرية القصيرة، من خلال اقاصيص موشيه سميلانسكي، دراسة للمضمون مع ترجمة
للأقاصيص، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1996، ص 7 . ترجمة القصة ص 50 - 68.
15 -
غالب هلسا، نقد الادب الصهيوني، دراسة ايديولوجية ونقدية لاعمال الكاتب
الصهيوني عاموس عوز، ط1، 1995، ص 8-14، والدراسة النقدية مستندة الى الترجمة
الانكليزية.
16 - نفسه، ص 9.
17 - كنفاني، مصدر سابق ، ص 125.
18 -
سامية جمعة علي "رواية اياك تسيكلاج…"، ابداع، العدد الثاني، 1995، ص 26.
نقلاً عن يزهار سميلانسكي (ساميخ)، ايام تسيكلاج، زمورا، بيتان، 1999 ص 500
و501.
19 - كنفاني، مصدر سابق، ص 114 - 117.
20 - نفسه، ص 122.
21 - راجع
للمزيد: عبدالرحمن علي عوف، "عجنون وتعميق الاحساس بالاضطهاد في الوجدان اليهودي"،
ابداع، العدد الثاني 1995 ، ص 24-40، ايمن رفعت، الادب العبري، مدخل الى اشكاليات
المصطلح"، ابداع العدد الاول، 1995، ص 36.
22 - الحروب الصليبية، مترجمة
عن الانكليزية، في : هلسا، مصدر سابق، ص 67 - 132.
23 - نفسه، ص 87 و90
و105.
24 - نفسه، ص 11.
25 - نفسه، ص 115.
26 -
ريزادومب، مصدر سابق، ص 65 و66.
27 - غانم مزعل، مصدر سابق، ص
167.
28 - كنفاني، مصدر سابق، ص 167.
29 - معين بسيسو، نماذج من
الرواية الاسرائيلية المعاصرة، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للنشر 1970 ، ص
19.
30 - كنفاني، مصدر سابق، ص 139، نقلاً عن محاضرة في القاهرة - كانون
الاول (ديسمبر) 1961. نشرت نصوصاً منها، ايضاً ، الجونيس اويزرنر في لندن تحت
عنوان: "صباح ضاحك".
31 - دومب، مصدر سابق، ص 158.
32 - هلسا،
مصدر سابق، نقلاً عن حديث ادلت به غولدا مائير لصحيفة الصانداي تايمز في عام
1969.
33 - دومب، ص 73.
34 - د. سيد سليمان عليان، مصدر
سابق.
35 - نفسه، ص 19.
36 - نفسه، ص 50.
37 - دومب،
مصدر سابق، ص 9.
38 - هلسا، مصدر سابق، ص 9.
39 - اليارزيق،
الفلسطينيون في اسرائيل، القاهرة، الهيئة العامة للاستعلامات ، كتب مترجمة، رقم 746
ص 178.
40 - مزعل، مصدر سابق، ص 172.
41 -
نفسه، ص 120.
42 - نفسه، ص 106.
43 - دومب، مصدر سابق، ص
106.
44 - نفسه، ص 58، 59.
45 - مزعل، مصدر سابق، ص 121 و122.
46 -
دومب، مصدر سابق، ص 110.
47 - مزعل، مصدر سابق، ص 139.
48 - نفسه، ص
115 - 118.
49 - السفير، بيروت 31/12/1997, ترجمة عن هآرتس، 28/11/1997
.
50 - مزعل، مصدر سابق، ص 106 و107.
51 - اسحاق يورباز، طرف
الرصاصة، ترجمة جمال الرفاعي، ابداع، العدد الثاني، فبراير 1995، ص 102 -
107.
52 - مزعل، مصدر سابق، ص 72.
53 - مما يشير ال وجود هذه
القوة موضوعياً، وعلى مستوى الرأي العام الشعبي وليس العسكري فحسب نذكر: في ربيع
1967 جرى عرض تجريبي في المدن الاسرائيلية اقتصر على جمهور اختير بعناية الشريط
مدته 17 دقيقة، اسمه انا احمد، وصف بانه وثائقي حول حياة الشباب العرب في فلسطين
المحتلة. مر في الشريط مشهد ترفض فيه اليهودية تعليقات الجمهور كما يلي: "صاحت فتاة
شقراء باستشارة: "اذهب الى دمشق". وتساءل متفرج: هل وضع الشباب في اي بلد
عربي افضل؟ وقال كهل روسي ان وضعه كان اصعب، وتساءل رجل آخر: لماذا لا ترون الجانب
المشرق، الم نوصل الكهرباء على القرى العربية، وقال رجل لمسؤول حاول ان يهدي
الجمهور: خذهم الى بيتك، ووقف احمد في نهاية الشريط يقول: ان افضل ما استطيع فعله
هو ان اذهب الى مكان ما…" وهذا هو الهدف من الشريط ومن سياسات اسرائيل. (كنفاني
مصدر سابق، ص 146 و147). وجاء في الاستطلاع الذي قامت به د. ستونيابيلد ان 70% من
مجموع سكان اسرائيل من اليهود يرون ان عرب اسرائيل هم جزء من طاقة التهديد للدولة
(انطون شماس، ان تكون عربياً في اسرائيل في الجيل القادم، القدس: مؤسسة فان لير،
1984 ، ص 64.
54 - يزهار سميلانسكي، ضربة خزعة، ترجمة توفيق فياض، بيروت:
دار الكلمة للنشر، ط1، 1981، نذكر رقم الصفحة التي يؤخذ منها الاقتباس في
المتن.
55 - هلسا، مصدر سابق، ص 9.
56 - تقول د. حياة جاسم، يتم
في الادب الصهيوني اختيار العربي بدقة، فهو بهلول بريء خارج الحرب، وبخاصة عند
يزهار سميلانسكي، فهذا الكاتب يظهر في قصة هذه (قصة الاسير) تجاربه مع العرب مصحوبة
بنقد للجانب الصهيوني يرسم صورة حية للارض النقية الوادعة التي كان العرب يقودون
فيها قطعانهم مع الفجر الهادىء الى الحقول والجبال متبوع من اللامبالاة الايام
الطيبة حين لم يكن هناك شر في العام…" (الاداب، صورة العربي في الادب الصهيوني،
العدد 1 - 2 ، شباط 1981 ، ص 42 و43).
57 - عاموس كينان، الطريق الى عين
حارود، ترجمة انطوان شلحت، مراجعة وتقديم سميح القاسم، ص 35.
58 - محمد
محمود ابو غدير، توظيف الاسطورة في الرواية العبرية الحديثة, ابداع، العدد الثاني
عشر، ديسمبر 1997 ص 129 و130.