* Moustafa Ghareeb * مصطفى غريب *دولة الاساطير الدينية والاساطير السياسية

"دولة الاساطير الدينية… والاساطير السياسية ايضا"

"اسرائيل" و"ميثاق الحقوق المدنية والسياسية" ! !

 محمد مشموشي

نائب رئيس تحرير جريدة السفير


عندما يكون الحديث حديث حقوق الانسان، وبخاصة منها حقوق الانسان المدنية والسياسية، لمناسبة ان هذا الموضوع سيكون احد محاور البحث في الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الشهر، تقفز الى الذهن بسرعة واقعة ان لبنان كان من اوائل الدول الموقعة على ميثاق المنظمة الدولية الخاص بهذه الحقوق، وهو باسم ميثاق الأمم المتحدة للحقوق المدنية والسياسية، بينما لم توقع عليه "اسرائيل" الا قبل سبعة اعوام فقط(في شهر اب من العام 1991 تحديدا).

والمسألة ليست محاولة عقد مقارنة بين ما هو مطبق منها على الارض هنا وهناك، فقد لا يكون واقع الأمر في لبنان مدعاة للكثير من الاعتزاز ولا حتى للقبول به في العديد من والوجوه، وانما هي مسألة المفارقة الغريبة في هذه الحقوق في "اسرائيل" بالذات… هذه الدولة التي تدعي، ويدعي الكثير من دول العالم معها، انها الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الاوسط كلها.

وهي ايضا ليست مسألة الحقوق المدنية والسياسية للعرب الذين اختاروا البقاء في "إسرائيل" على النزوح مع النازحين تحت الضغط والارهاب، ولا هي مسألة حقوق المقيمين تحت سلطة الاحتلال في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة، بل اساسا وقبل كل شيء حقوق الاقليات العرقية المختلفة (واخر مثل عليها الفلاشا الاثيوبيون بعد الاشكيناز والسفارديم) ولو كان افراد هذه الاقليات من الديانة اليهودية، وحقوق المرأة، واخيرا وليس اخرا ما تطلق عليه صحيفة الجيروزاليم بوست "الاسرائيلية" صفة "الحلف غير المقدس بين الدين والدولة".

 

فهذه الدولة التي قامت على الاساطير الدينية التي كانت وما تزال تحتاج الى اثبات، بصرف النظر عن الموقف السياسي العربي والدولي منها، والتي تخشى اكثر ما تخشى اهتزاز " الايمان بالاسطورة": في نفوس المهاجرين اليها تحت وطأة هذا الهاجس، انما تمارس في تعاطيها مع الانسان عموما (بما في ذلك الانسان اليهودي)، كما ايضا في تعاطيها مع حقوق هذا الانسان المدنية والسياسية التي نص عليها ميثاق الامم المتحدة، نوعا من الاساطير السياسة التي لا تحتاج من ناحيته الى اثبات… بمعنى ان "الايمان " بها غير موجود عمليا نتيجة الممارسات الفعلية على الارض.

ولكن اية اساطير سياسية، تلك التي تختبئ تحت عباءة الديموقراطية في "اسرائيل" ؟!

تقول المادة الثانية من الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية ما نصه بالحرف: " تتعهد كل دولة، عضو في هذا الميثاق، بان تحترم وتضمن لجميع الافراد الحقوق المعترف بها في الميثاق الراهن، من دون أي تمييز من أي نوع، مثل العرق، اللون، الجنس، اللغة، الدين، الرأي السياسي وغيره، المنبت القومي او الاجتماعي، الملكية، المولد، او أي نوع اخر".

ولا يخفي الاعلام "الاسرائيلي"، خصوصا في هذه الايام، ان اول تقرير سيقدمه ممثل حكومة "اسرائيل" الى لجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة في خلال الشهر الحالي، وهو الخاص بتطبيق مواد هذا الميثاق، سيواجه عددا كبيرا من التحديات، والتحديات الصعبة والجدية، عندما يتناول مسألة التطبيق في داخل الاراضي المحتلة وعلى السكان فيها، الا انه سيواجه تحديات اخرى ليست اقل صعوبة وجدية عندما يصل إلى مسائل مثل حقوق الاقليات العرقية (المهاجرين من العالم العربي وصولا الى الفلاشا الأثيوبيين واخيرا الى المهاجرين من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق)، ومثل الحقوق الخاصة بالمرأة لجهة أي من الزواج والطلاق والحضانة الخ… ومثل علاقة الاندماج غير الطبيعية وغير المنطقية و"غير المقدسة حتما" - كما تقول الصحيفة "الاسرائيلية" - بين الحاخامات ورجال السياسة سواء وهم معا داخل الحكومة او خارجها او داخل الكنيست او الأحزاب على اختلافها، الديني منها والعلماني، والصغير والكبير والمتطرف والمتطرف جدا وحتى غير الصهيوني الخ…

سيحاول التقرير "الاسرائيلي"، كما ورد في اكثر من جهاز اعلامي وعلى لسان اكثر من مثقف شرح ما وصف بانه "التوازن الدقيق": الناتج عن كون "اسرائيل" "دولة يهودية وديمقراطية" في وقت واحد. لكن مثل هذا الشرح سيبدو بالرغم ان الجميع في "اسرائيل" على معرفة اكيدة بان الغالبية المطلقة من الرأي العام "الاسرائيلي" تعارض القسرية الدينية التي يمارسها الحاخامات وغالبا تحت مظلة السياسيين.

فاية ديموقراطية هذه هي التي يصفها رئيس وزراء "اسرائيل" الحالي بنيامين نتانياهو عندما يقول ان العلاقة الخاصة جدا بين العام والدين (اشارة الى دور الحاخامات وموقفهم حتى من عمليات التنقيب عن الآثار في الاراضي المحتلة) هي "صخرة وجودنا" ؟ !. فهو لا يقف هنا عند حدود التكريس الرسمي، وان يكن الشفهي، لـ "حق" الحاخامات على اختلاف مواقفهم بالتدخل في الشؤون السياسية وانما يكرس الكثير من ذلك… بما يماثل ادخال السياسي معهم-كما حدث اخيرا- في قضايا اكثر اهمية وخطورة وتتعلق بمستقبل "اسرائيل" نفسها ومستقبل قضية الحرب والسلام في المنطقة كلها. فقد استدعى نتانياهو عددا من الحاخامات لاخذ رأيهم في المدى الذي يرون ان تصل اليه المرحلة الثانية المنتظرة من اعادة الانتشار في الضفة الغربية، وحتى في النسبة المئوية لاعادة الانتشار هذه.

واذا كان من شأن اللعبة السياسية ان تبرر لنتانياهو هذا العمل الذي يهدف من ورائه الى تصليب موقفه الرافض لاعادة الانتشار أصلا وحتى تغطية تعطيله اتفاق اوسلو ومسيرة التسوية عموما، فانه يضع الديموقراطية والمواثيق السياسية والدولة كلها في مقابل ذلك في منطقة الالتباس الكامل بين "الكنيست" كبرلمان للعمل السياسي و "الكنيس" كمكان للتعبد والعمل الديني، اكثر من ذلك فمثل هذا العمل يضع المجتمع كله في منطقة الالتباس بين الحدود التي يجب الا يتجاوزها رجال الدين لو أرادوا، او حتى لو اراد غيرهم، والحدود التي لا يجوز لرجال السياسة ان يتحولوا معها الى رجال دين عندما يريدون او عندما يراد لهم ذلك.

في هذا الخلط المتعمد بين ما هو سياسي وما هو ديني، وما يتصل بحقوق السياسي كانسان وما يتصل بحقوق رجل الدين كانسان ايضا، مخالفة واضحة لمبدأ صريح من مبادئ الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية. فحرية المعتقد الديني، تماما كحرية المعتقد السياسي، ينبغي ان تكون مصانة وقرار اختيار وليس تحت تأثير القسرية الدينية ايا يكن مستوى هذه القسرية.

لكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد فقط، بل هي تتجاوزها الى التحديد غير الانساني لـ "يهودية" المهاجر السياسية، عندما تكون هناك مصلحة سياسية ودينية في حثه على الهجرة من بلده الاصلي والتوجه الى "ارض الميعاد"، ثم لاحقا في التحديد غير الإنساني ايضا لـ" يهوديته" عندما تصبح المسألة كونه "مواطنا" كامل الهوية والانتماء او غير مواطن على الاطلاق لان أمه لم تكن "صافية العرق اليهودي" على سبيل المثال. وفي هذه الحالة فلهذا الحاخام رأي في القضية، وللحاخام الاخر رأي اخر، وللدولة رأي ثالث، وقد تكون للمحكمة العليا رأي رابع مؤيد او معارض، بينما لميثاق الامم المتحدة لحقوق الانسان المدنية والسياسية رأي يختلف عن هذه الآراء كلها.

هنا تقول المادة 18 من الميثاق المذكور": ان لكل فرد حقا كاملا في حرية الرأي، والضمير، والدين، ومثل هذا الحق يجب ان يتضمن حرية اعتناق الدين او المعتقد الذي يختاره لنفسه… وممارسة هذا الدين او المعتقد من خلال التعبد، والممارسة، والشعائر، والتعليم".

اما عندما يصل الامر الى موضوع زواج اليهودية من غير اليهودي، وخاصة الى حقوق المرأة في الاختيار، فيصبح ميثاق الامم المتحدة للحقوق المدنية والانسانية مجرد ورقة من دون مضمون على الاطلاق. وقد تكون مثل هذه المشكلة موجودة في مناطق اخرى من العالم، الا انها في كثير من هذه المناطق مسألة دينية بحتة لا دخل للدول ولا لدساتيرها وقوانينها بها بينما هي في "اسرائيل" جزء لا يتجزأ من مسوغات قيام الدولة نفسها… هذه الدولة التي لم تقم اصلا الا على قاعدة الاساطير الدينية. وحكاية المرأة اليهودية التي نازعت امام القضاء امرأة مسلمة كانت قد تزوجت مطلقها، حول رغبتها في دفن زوجها السابق في مقبرة يهودية لانه مات وهو يهودي، ثم لجؤ المحكمة الى فرض تسوية بينهما بحيث تم دفن المتوفي في "ارض محايدة" بين المقبرتين اليهودية والاسلامية، حكاية معروفة وكانت محور نقاش واسع النطاق في "إسرائيل" على امتداد شهور في العام الماضي.

وربما لهذا السبب بالذات، عمدت "اسرائيل" عندما وقعت على ميثاق الحقوق المدنية والسياسية الى وضع "تحفظ" على بنود الميثاق المتصلة بالشؤون المتعلقة بالوضع الشخصي للإنسان. وكان الهدف من هذا "التحفظ"، كما يقول الحاخام اوري رغيف، محاولة انقاذ "اسرائيل" من الانتقاد بسبب فرضها القانون الديني في هذا المجال وبخاصة في كل ما له علاقة بالزواج والطلاق.

وقد يصح تصنيف هذا "التحفظ" في خانة تعليق بعض الحقوق في حالات الطوارئ، يضيف الحاخام رغيف، على قاعدة نضال "اسرائيل" من اجل الوجود والبقاء (نقاء الدولة اليهودية والعرق اليهودي! !)، الا ان الحقيقة تبقى هي ان المسألة في النهاية هي مسألة انتهاك واضح للحقوق الانسانية والمدنية.

ليست القضية، في كل حال، قضية حقوق مدنية وسياسية منتهكة في "اسرائيل" بينما هي مصانة وفي افضل حالاتها في غيرها من الدول وبخاصة في العالم العربي عموما او في لبنان بشكل خاص.

فقد لا يكون الوضع هنا وهناك بأحسن مما هو في "اسرائيل" او غيرها من دول العالم الاخرى.

القضية هي" هذا التحالف غير المقدس بين الدين والدولة" وفق التعبير "الاسرائيلي" نفسه في المجتمع "الاسرائيلي" الذي هو عبارة عن خليط متباين من القوميات والعرقيات والالوان وحتى اللغات، وفي هذه الدولة التي تدعي، ويدعى معها العديد من دول العالم انها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة كلها.

فمثل هذه الاساطير السياسية حول الديمقراطية والمساواة وحقوق الانسان، لا تحتاج عمليا الى الاثبات الذي تحتاج اليه الاساطير الدينية الاخرى التي قامت عليها "اسرائيل" قبل خمسين عاما.