* Moustafa Ghareeb * مصطفى غريب * فلسطين خمسون عاما في الأسر

فلسطين خمسون عاماً في الأسر

المثقفون والسلطة في "إسرائيل"

محمد محمود أبو غدير

إبـداع - تموز 1998


المقدمة

       شكّل المثقفون اليهود، الطابور الأول في القوى التي جنّدتها الحركة الصهيونية منذ المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في "بازل" في عام 1897، وخلال الجهود التي بُذلت بعد ذلك لإقامة وطن يهودي على أرض فلسطين. ولكن العلاقة بين المثقفين والأجهزة الصهيونية قبل الدولة، ثم بينهم وبين مؤسسات الدولة بعد قيام ''إسرائيل''، لم تَسِرْ على وتيرة واحدة وإن شهدت، في الغالب، إنسجاماً شبه كامل، خاصة في سنوات ما قبل الدولة وفي السنوات الأولى للدولة، حيث كان الهدف الأكبر، أي السعي الى إقامة دولة وترسيخ قواعدها، يطغى على أية خلافات في المواقف بين الطرفين.

      قبل قيام الدولة، كانت السلطة، متمثلة في أجهزة الحركة الصهيونية ومؤسساتها المختلفة، تقوم بتمويل حركة الهجرة اليهودية الى فلسطين، وتسليح القوات الصهيونية، وتعبئة وحشد جهود يهود العالم لخدمة مخططات غزو فلسطين، الإستيطان فيها، إرساء أسس تجمع صهيوني مستقبلي. ثم جاء الدعم المعنوي السياسي الخارجي القوي لذلك في صورة وعد "بِلفور"ثم في فرض الإنتداب البريطاني على فلسطين، وأخيراً التحالفات المنفعية بين الصهيونية العالمية والإمبراطورية البريطانية وغيرها من القوى العالمية في فترة الحرب العالمية الأولى وما بعدها، وبخاصة في سنوات الحرب العالمية الثانية.

      خلال ذلك، جرى تجنيد الأدب العبري والنشاط الثقافي اليهودي عامة لخدمة الأهداف الصهيونية، الى أن توج بالإعلان عن قيام الدولة. كما جنّد المثقفون ''الإسرائيليون'' والأدب العبري في السنوات الأولى للدولة، للدعوة الى التقريب بين الطوائف اليهودية وتذويبها فيما عُرف ببوتقة الصهر التي تستهدف صقل المواطن اليهودي الجديد وبلورته وتشكيله في ''إسرائيل''، بحيث لا يعاني من مشكلات الشتات والإنتشار في العالم، بعد أن أصبح يعيش في ظل دولة يهودية ذات مؤسسات عسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، بل تحت راية واحدة تجمع اليهود للمرة الأولى منذ دمار آخر وجود سياسي لهم في عام 70 م على أيدي الرومان.

      كان من الطبيعي، وفي ظل وضوح الهدف الذي يسعى الجميع الى تحقيقه أن ينحاز المثقفون اليهود قبل الدولة، وخلال سنواتها الأولى، الى مواقف السلطة! حيث يروّجون لتوجهاتها القومية الأساسية ويشيدون بإنجازاتها المادية، بل يبررون أخطاءها في حق الشعب الفلسطيني الذي حكم عليه أن يحتمل وحده تبعات إنشاء دولة يهودية على أراضيه، وأن يدفع ثمن الأخطاء التي ارتكبتها بعض الحكومات الأوروبية في حق اليهود.

      ولكن بدأت العلاقات بين المثقفين والسلطة في ''إسرائيل'' منذ أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات تتسم بشيء من التوتر والخلافات في المواقف، لقد أخذت منذ الستينيات الأولى، وحتى فترة مميزة في تاريخ المجتمع ''الإسرائيلي'' بل في تاريخ النشاط الثقافي والأدبي، تهبّ رياح الصراع بين أبناء الجيل القديم الذي أسس الدولة، وبين أبناء الجيل الشباب الذين بدأوا يديرون ظهورهم لقيم الآباء ومفاهيمهم وأفكارهم، بل أخذوا يحددون مَواطن الخطأ التي وقعوا فيها، وقد صاحب ذلك حدوث مناقشات واسعة بين المثقفين ''الإسرائيليين'' أنفسهم، وبينهم وبين رجال السلطة، حيث ترجمت الى عديد من الكتب والدراسات والمقالات والندوات التي تؤكد إفلاس فكر الآباء، بل ترى أن قيام دولة لليهود في فلسطين لم يحل مشكلات الإنسان اليهودي، بل العكس هو الصحيح. فالمشكلات تصاعدت حتى أن الفرد اليهودي شعر في ذلك الوقت بأنه لا يجد الملاذ والأمان والإستقرار النفسي داخل المجتمع ''الإسرائيلي'' الذي اعتبر في نظر العديد من المثقفين ''الإسرائيليين'' مجتمعاً زائفاً وفاسداً (1).

      وترك ذلك بصماته على الأدب العبري، حيث أضحى الموضوع الأساسي المطروح فيه هو القطيعة الإجتماعية المتزايدة بين أفراد الشعب ''الإسرائيلي''. ولذلك، ظهر البطل في الأعمال الأدبية في ذلك الوقت غريباً، ويعيش في عزلة بينه وبين نفسه، وبينه وبين العالم المحيط به، بل وصل الأمر الى حد أن التساؤلات التي طرحها الأدباء والمفكرون، بل الأشخاص العاديون في ذلك الوقت، هي: لماذا لم يحقق قيام الدولة تطلعات السكان ''الإسرائيليين''؟ ولماذا بقيت المشكلات كما هي؟ بل لماذا تسير في طريق التصاعد المستمر؟ وما هي الأسباب التي تقف وراء ظاهرة التفسخ الداخلي والتدهور الأخلاقي والمعنوي للمجتمع ''الإسرائيلي''؟ وكيف خابت الآمال وتبددت الأحلام؟ ولازم ذلك تصاعد في عمليات الفدائيين على امتداد حدود ''إسرائيل''، وتكرر تسللهم الى الداخل لتنفيذ أعمال فدائية، وسيطرت على المجتمع ''الإسرائيلي'' حالة من الإنكماش الإقتصادي، وتعاظمت معدلات البطالة.. وفوق كل ذلك، إتسمت تلك الفترة بضعف الرابطة التي كانت قوية بين المواطن اليهودي في ''إسرائيل'' ونظيره في الخارج، في حين أصبحت الدولة تعتمد على مستوى الحياة اليومية، على مساعدات وتبرعات تأتي من الخارج، وعلى دعم قوى خارجية. وسجلت تلك الفترة تزايداً في معدلات نزوح ''الإسرائيليين'' الى الخارج خاصة الى الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا الغربية.

      لهذه الظروف وغيرها، لم يؤمن المثقفون ''الإسرائيليون'' في الستينيات بإمكانية إيجاد أي معنى أو مغزى للواقع ''الإسرائيلي''، وبات الإنطباع البارز في الأعمال الأدبية هو "أن أي حل، سواء كان فردياً أو جماعياً، يمرّ فقط عبر طريق الدمار والعنف والموت والحرب"(2). لكل ذلك اعتقدت الزعامة ''الإسرائيلية'' في ذلك الحين أن حل هذه المعضلات قد يتحقق عن طريق الدخول في صراعات واسعة مع العالم العربي، وأخذت تعدّ العدة لدخول حرب جديدة! وهي التي تفجرت في يونيو 1967. حيث كشفت العديد من الوثائق والتصريحات التي أدلى بها مسؤولون ''إسرائيليون'' فيما بعد، أن التخطيط لحرب 1967 بدأ قبل اندلاعها بسنوات عديدة، وبهدف حل مشكلات المجتمع ''الإسرائيلي'' التي وصلت في الستينيات الى ذروتها.

 

حرب 1967 ونتائجها في نظر قطاعات عريضة من المثقفين "الإسرائيليين":

      أدى الإنتصار العسكري ''الإسرائيلي'' في حرب 1967 واحتلال مناطق عربية واسعة، وعلى غير ما كان متوقعاً، الى بروز مشاعر خوف من المستقبل، الى وضع علامات استفهام حول جدوى هذا الإنتصار بل حذرت دوائر أكاديمية وعناصر مثقفة واسعة في صفوف اليسار ''الإسرائيلي'' وغيره من خطر الإحتفاظ بأرض عربية واسعة ذات كثافة سكانية عربية كبيرة، مما قد يؤدي بمرور الوقت الى تحويل ''إسرائيل'' الى دولة متعددة القوميات وليس دولة يهودية كما أراد لها المؤسسات الأوائل.

      ومن أبرز العناصر المثقفة التي حذرت من النتائج المدمرة الحرب 1967 على المجتمع ''الإسرائيلي'' على المدى البعيد، المفكر والفيلسوف الشهير "يشعب هو لايبوفتس" (1903 - 1994). فرغم انتماء هذا المفكر للمعسكر الديني، إلا أنه أكد بعد مرور عامين فقط على انتهاء حرب 1967، أن المجتمع الإسرائيلي سيشهد مسيرة تراجع إجتماعي وتفسخ، بل سيسقط الى الهاوية إذا استمرت السلطات ''الإسرائيلية'' في تمسكها بسياسة الإحتفاظ بالمناطق العربية ذات الكثافة السكانية العربية العالية. وكرر موقفه هذا في الكتاب الشهير الذي أصدره في عام 1975 تحت عنوان "اليهودية - الشعب اليهودي ودولة ''إسرائيل''"، والذي ضمنه مخاوفه العظيمة على مستقبل اليهودية في العالم، بل على مستقبل ''الإسرائيليين'' ودولتهم، مؤكداً ضعف العديد من الروابط التي تربط الواقع ''الإسرائيلي'' الحالي بما يسمى بتاريخ ''إسرائيلي'' قديم في فلسطين، وأكد "لايبوفتس" في كتابه هذا أن الإستيلاء على الأرض العربية لا يضمن للشعب ''الإسرائيلي'' حياة الإستقرار والهدوء، بل هو أول ''إسرائيلي'' يتنبأ باندلاع حروب جديدة في المنطقة بين العرب و''إسرائيل''، رافضاً مقولة أن حرب 1967 هي آخر الحروب في المنطقة. كما كان "لايبوفتس" أول مَن أطلق مفهوم "القنبلة الديموغرافية" لوصف المخاطر التي ستهدد المجتمع ''الإسرائيلي'' بسبب الإحتفاظ بالأراضي العربية.

      وظهرت هذه المخاوف في الأعمال الأدبية أيضاً، فأول رواية عبرية صدرت عن حرب 1967 وهي رواية "والله يا أمي إني أكره الحرب" للأديب "يجال ليف" التي صدرت في عام 1969، كانت صرخة مدوية أطلقها أديب شاب عاد للتو من ساحة القتال، حيث شاهد أهوال الحرب ورأى بنفسه ممارسات غير إنسانية يقوم بها الجنود ''الإسرائيليون'' ضد سكان المناطق التي استولَوا عليها. وسجل "يجال ليف" ما رآه في ساحة القتال على صفحات هذه الرواية التي حظيت بالإهتمام الواسع على الساحة الأدبية والشعبية أيضاً.

      وعلى مستوى الشعر العبري، أكد الناقد ''الإسرائيلي'' "أريستون برتنا"، أن الشعر العبري الذي تناول حرب 1967 كان يعبّر عن الإنسان اليهودي المتشكك، والذي فقد المبرر الأخلاقي والمعنوي لوجوده، مؤكداً أن هذا الشعر هو جزء عضوي من أدب عبري يقف على حافة النهاية .(2)

      ومن القصائد العديدة التي تعكس هذا الجو، قصيدة الشاعرة "راحيل نيجف" التي صدرت تحت عنوان "عقيدا" أي تقديم الأضحية قربانا للرب. وهي رؤية عصرية لقصة الذبيح التاريخية، وللتجربة التي مرّ بها إبراهيم (عليه السلام). وفي هذه القصيدة قالت الشاعرة:

           "صعد الصبي الى الجبل

     جاملاً على كتفه مدفعاً رشاشاً

     جاهزاً للعمل

     تساءل الأب الذي بقي في البيت:

     يا بني.. أين الأضحية التي ستقدّم

     الى المذبح؟

     قال الإبن:

     إنني ذاهب يا أبي الى حيث يوجد المذبح.

     في الطريق يوجد يا أبي لغم وشرك

     وكذلك يوجد ملاك يا أبي.

     صاح الأب: لا تمد يدك الى الشرك.

     ليس الآن.. ليس الآن يا بني..

     ولكن لا تفعل ذلك الى أن تندلع الحرب القادمة".

 

      القصيدة تحمل سمات العصر، خاصة بعد حرب 1967. فالشاب يقدّم قرباناً يختلف عن الذبيح التاريخي، وكذلك تختلف صورة الأب، فالإبن لا يسير كما ورد في القصة الأصلية خلف والده مطأطئ الرأس متقبلاً المصير الذي حُدّد له، بل هو شاب محارب يحمل المدفع الرشاش في يده. ورغم تسلحه بأحدث الأسلحة إلا أن المستقبل غير مضمون أمامه.. فهو يسير في طريق فيه شرك ولغم، ويتجه الى حرب قادمة مؤكدة.

      وفي عام 1970 عُرضت على المسرح مسرحية "ملكة الحمام" للأديب والكاتب المسرحي الشهير "حانوخ لفين" والتي ضمّنها هجوماً شديداً على المؤسسة السياسية والعسكرية في ''إسرائيل''، التي ضحت بأرواح آلاف الشباب ''الإسرائيلي'' في حرب 1967 من أجل مطامع توسعية، حتى إن السلطات ''الإسرائيلية'' تدخلت في ذلك الحين وأوقفت عرض المسرحية بعد أن أثارت ردود فعل واسعة داخل الشارع ''الإسرائيلي''، وسجلت ظاهرة أدبية فريدة، حيث تعاطف معها المشاهدون ضد السلطة بصورة غير مسبوقة.

 

المثقفون والسلطة في "إسرائيل" بعد حرب 1973:

      كانت حرب 1973 هي الزلزال الذي هز ''إسرائيل''، وأكد زيف الإدعاءات الخاصة بضرورة الإحتفاظ بمناطق واسعة لضمان الأمن ''الإسرائيلي''، كما قضت على أسطورة الجيش ''الإسرائيلي'' الذي لا يُقهر. ومع ضخامة الخسائر البشرية والمادية والمعنوية كان رد المثقفين ''الإسرائيليين'' قوياً وسريعاً، خاصة بعد أن ثبتت صحة تحذيراتهم السابقة من أن حرب 1967 لن تكون آخر الحروب في المنطقة إذا استمر الصلف ''الإسرائيلي'' والتنكر لحقوق العرب والفلسطينيين.

      وفي دراسة عن حرب 1973، أكد المفكر ''الإسرائيلي'' "يشعب هو لايبوفتس، الذي سبق أن حذر من اندلاع تلك الحرب قبل وقوعها بسنوات، أن حرب 1973 قد عمقت داخل الجمهور ''الإسرائيلي'' مشاعر الكآبة وخيبة الأمل والشعور بالإحباط والفشل (4) . وفي مجال الأدب، صدرت العديد من الأعمال النثرية والشعرية التي تناولت الآثار المختلفة لحرب 1973 على المجتمع ''الإسرائيلي'' ومستقبل الدولة. ومن أبرز الروايات العبرية التي تحدثت عن الآثار السلبية المدمرة لتلك الحرب رواية الأديب الشهير، وأحد قيادات "حركة السلام الآن" "أ. ب. يهوشواع" التي تحمل عنوان (العشق)، والتي أكد فيها انزواء الفكر الصهيوني وإفلاسه. كما صدرت العديد من الكتب والدراسات التي لم تكتفِ بكشف جوانب التقصير السياسي والعسكري ''الإسرائيلي'' خلال تلك الحرب، بل عادت في البعض منها الى الوراء لتعيد مناقشة دعوى وجود حقوق تاريخية لليهود في فلسطين تبرر الإستيلاء على أراضٍ عربية وتشريد شعب كامل. وكانت هذه الدراسات النقدية بداية لظهور ما سمّي بـ"المؤرخين الجدد"، والذين سنتناولهم فيما بعد بالحديث.

      ومن أبرز الكتب التي تناولت بالتحليل نتائج حرب 1973، كتاب المفكر الإسرائيلي "لايبوفتس" الذي سبقت الإشارة إليه، وكذلك كتاب "الحساب القومي" لمؤلفه "بوعز عثرون" (ترجم الى العربية على يدي كاتب هذه السطور، ونُشر ضمن إصدارات مركز الدراسات الشرقية بجامعة القاهرة عام 1995)، والذي فنّد فيه العديد من المزاعم والإدعاءات التي تتحدث عن حق تاريخي قديم لليهود في فلسطين، يبرر استمرار هذا الظلم الذي يقع على الشعب الفلسطيني. وأكد "عثرون" في كتابه هذا، أن اليهود لم يشكّلوا أبداً أمة إقليمية طورت نفسها في القديم فوق أرض فلسطين، وذكر أيضاً أن أية محاولة لوصف اليهود بأنهم أمة إقليمية تحولت الى أمة غير طبيعية نتيجة فقدانها الأرض التي وعدوا بها، لا تتفق مع الحقائق القائلة بأن غالبية اليهود لم يحاولوا على الإطلاق التجمع في أي أرض، سواء في فلسطين أو في أية بلاد أخرى. حتى عندما توفرت لهم الفرصة لذلك. ويرفض "عثرون" مقولة إن شعباً يهودياً تبلور فيما يسمى بأرض ''إسرائيل'' (فلسطين) في القديم، ويؤكد في دراسة تاريخية مستفيضة، أن الشعب اليهودي لم يبلور تاريخياً في فلسطين، بل ظهر الى الوجود وتبلور أساساً في بلاد الإنتشار الأخرى، وخارج فلسطين بالذات، كما أن صورته الروحية والثقافية، أي هويته اليهودية، ظهرت الى الوجود في بلاد ما بين النهرين خلال السبي البابلي، أو في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، أو في أوروبا في العصور الوسطى. ومن هنا يتوصل "عثرون" الى الإستنتاج القائل بأنه لما كان اليهود قد عاشوا في الماضي كطائفة منغلقة على نفسها، وكان الدين هو أحد سماتهم الأساسية، فإنهم لم يشكّلوا بحال من الأحوال أمة طردت من أراضيها وحاولت العودة إليها، موضحاً أن اليهود لم يحاولوا في غالبيتهم العظمى الإنتقال الى فلسطين، حتى أن الجانب الأكبر منهم ما زال يعيش خارج فلسطين، ويرفض الهجرة والإستقرار فيها حتى الآن.

 

المؤرخون الجدد في "إسرائيل":

      ظهرت في ''إسرائيل'' مؤخراً في مجال العلوم الإجتماعية، مجموعة من الباحثين والمؤرخين الأكاديميين، أعلنوا تحدّيهم للتاريخ الصهيوني للأحداث، وللصراع العربي - ''الإسرائيلي''، بل شكّكوا في أسس وجود الدولة ذاتها. ويطبّق هؤلاء، الذين باتوا يُعرفون باسم "المؤرخين الجدد"، أسس العلوم الإجتماعية مادة لأبحاثهم، كي يثبتوا أن كلام المتحدثين باسم الصهيونية عن مفاهيم العدل والحرية، لا يتفق مع النشاط الإستيطاني التوسعي المرفوض أخلاقياً، لأنه يؤدي الى طرد الشعب الفلسطيني من أراضيه.

      وأكد المؤرخون الجدد في كتاباتهم، التي سوف نشير إليها فيما بعد، أن موقفهم هذا نابع من التغير الذي أُدخل على نظرية البحث التي كانت مطبّقة في مجال العلوم الإجتماعية والتاريخية، واتهموا مَن سبقوهم في هذا المجال بالتعاطف والإنحياز الأعمى للمشروع الصهيوني، ومن ثم جاءت دراساتهم لتبرير الموقف الصهيوني الرسمي الذي يشوّه الصورة الإجتماعية التاريخية السليمة، وقالوا بأن مؤرخي السلطة تصرفوا على أساس أنهم باحثون مجندون لخدمة الفكرة الصهيونية، ولذلك جاءت مؤلفاتهم لتبرير سياسات الزعامات ''الإسرائيلية''. (5)

      وارتبط بروز المؤرخين الجدد بحدوث تغيرات وتطورات شهدتها الساحة ''الإسرائيلية'' منذ السبعينيات فصاعداً، ومن أبرزها صعود "ليكود" الى السلطة للمرة الأولى عام 1977، وتبنّيه سياسات ومواقف وتوجهات تختلف عن تلك التي ترسخت في ''إسرائيل'' لسنوات طويلة منذ ظهرت الدولة الى الوجود.

      وأمام هذا التحول الذي أدخل المجتمع ''الإسرائيلي'' في مرحلة جديدة، تساءل المفكر والفيلسوف ''الإسرائيلي'' المعاصر "أليعزر شفايد" قائلاً: "في ظل التغييرات التي شهدها المجتمع ''الإسرائيلي'' مؤخراً، كم أمامنا من وقت لكي نصل الى حافة الإنهيار الإجتماعي والأخلاقي من جانب، والإنهيار الروحي والثقافي من جانب آخر؟! ويجيب "شفايد" على ذلك بقول: "من الواضح أن مسيرة التفسخ والتحجر الإجتماعي ستكون سريعة في دولة صغيرة محدودة الحجم والمساحة والسكان مثل ''إسرائيل''. ومع ما تعاني منه ''إسرائيل'' من تقاطب إجتماعي وديني متزايد، ومشكلات على مستوى مسيرة السلام، فإن التفسخ الروحي والثقافي سيكون مصدر خطر شديد على بقاء الدولة كمجتمع مستقل!

      ومن هنا، يخلص "شفايد" الى أن مدرسة "المؤرخين الجدد" جاءت كمبرر أخلاقي وفلسفي لمسيرة التفسخ والتراجع داخل ''إسرائيل''، ليس فقط على المستوى الإيديولوجي بل أيضاً على مستوى المسيرة السياسية والتشريعية، والقانونية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية والروحية. وتوقع "شفايد" إنهيار الهوية السياسية لـ''إسرائيل'' كدولة صهيونية يهودية، وانهيار البنية الأساسية الإجتماعية لها. وانتهى "شفايد" الى استنتاج مفاده أن ظهور ما يسمى بـ"مرحلة ما بعد الصهيونية" يبشر بنهاية الدولة وانهيارها من الداخل. (6)

      وللمفكر ''الإسرائيلي'' "أوري رام" نظرة أخرى في هذه القضية وجذورها، تتخطى المنظور التاريخي والإجتماعي الذي أشار إليه "شفايد" فيقول: "يجتاز المجتمع ''الإسرائيلي'' الآن مرحلة إنتقالية تفصل بين الغروب المحتمل للزعامة القومية الصهيونية، وبين البروز المحتمل لمجتمع مدني متعدد الثقافات"، "كما يرى بأن المناقشات الصاخبة التي تدور الآن بين المؤرخين القدامى والجدد ليست نابعة فقط من تبادل في الأدوار بين الأجيال حيث كل جيل يرثه جيل أحدث منه برؤياه المغايرة للأمور، وليست نابعة أيضاً من الكشف عن حقائق جديدة لم تكن معروفة، بل إن هذا التغيير نابع قبل أي شيء آخر من نشوء روايات ثقافية جديدة تؤكد بلورة هويات أخرى وتعاظمها، بعد أن كانت مقموعة ومستبعدة، وتؤكد كذلك ظهور مواقف إنتقادية تنتمي الى عصر ما بعد الحداثة داخل المؤسسات الأكاديمية في ''إسرائيل''.

 

المؤرخون الجدد وحدود حرية الرأي في "إسرائيل":

      كشف نشاط المؤرخين الجدد في ''إسرائيل'' وما يتعرضون له من هجمات شعواء، من جانب مؤرخي السلطة وأجهزتها المختلفة، أن حرية الرأي المتاحة للمثقفين في ''إسرائيل'' ليست مطلقة وليست بدون حدود.. ونترك مهمة توضيح هذه الحقيقة لأحد المفكرين والمؤرخين ''الإسرائيليين'' وهو الدكتور "بني موريس" وهو أول مَن استخدم مصطلح "المؤرخين الجدد". فقد ذكر "بني موريس" في مقال له نشره في صحيفة "هآرتس" ''الإسرائيلية'' أن ''إسرائيل'' دخلت الى مرحلة تُعرف باسم "مرحلة ما بعد الإيديولوجيات" حيث أخذت المصالح والقيم العلمية والفردية تتغلب على قيم الجماعة. وأشار الى الأبعاد السلبية للممارسات غير الإنسانية من جانب حكومات ''إسرائيل'' المختلفة ضد العرب الفلسطينيين، والتي أكدتها الوثائق التي كشفت عنها مؤخراً، وكانت تقبع في خزائن الدولة وتتصل بأعمال طرد وذبح وسلب، تعرّض لها الفلسطينيون منذ حرب 1948، بالإضافة الى أعمال العنف التي ارتكبتها القوات ''الإسرائيلية'' على امتداد الحدود مع الدول العربية، مع عدم استعداد حكومات ''إسرائيل'' للعمل من أجل تحقيق السلام في المنطقة.

      وكشف "بني موريس" أكذوبة الإدعاء بأن ''إسرائيل'' هي واحة الديمقراطية في المنطقة، حين كشفت عن ممارسات قمعية وإرهابية تعرّض لها كثير من المفكرين ''الإسرائيليين'' من ذوي المواقف النقدية الجديدة، الذين ينتمي هو إليهم، فقال: "في مواجهة المفكرين والمؤرخين الجدد الذين يكتبون تاريخاً جديداً، يوجد كثير من المؤرخين القدامى الذين ما زالوا يسيرون في الطريق القديم لكتابة التاريخ، وهم يفعلون ذلك كأن دور الوثائق في ''إسرائيل'' لم تفتح خزانتها لخروج وثائق جديدة تتصل بالصراع العربي - ''الإسرائيلي''، وما تعرّض له الفلسطينيون من إجراءات غير إنسانية. إن الكثير من المؤرخين الجدد يتعرضون لضغوط شتى، حتى أنهم يخشَون في بعض الأحيان الكشف عن هويتهم والتعبير عن مواقفهم في كثير من الأمور بصورة صريحة، حتى لا يلحق بهم الأذى المادي، وأحياناً يتعرضون للطرد من أماكن عملهم أو تحجب عنهم المنح الدراسية والمهام العلمية وما شابه ذلك".

      وعرض "موريس" تجربته الذاتية في هذا المجال، فقال: "تندرج أغلب الجامعات ''الإسرائيلية'' خاصة في المجالات التي أكتب فيها، ضمن المؤسسات ذات التوجهات التي تتسم بالنمطية والتمسك بمواقف محافظة، ولذلك فإن أغلب الكتب الجديدة، والتي تتسم بالجدية والحياد والموضوعية، والتي صدرت في السنوات الأخيرة، قد كتبها مؤرخون لا ينتمون الى الكادر الجامعي القديم، بل تولت نشرها وإصدارها دُور نشر أجنبية خارج ''إسرائيل''. وقد دفعت شخصياً ثمناً باهظاً يتمثّل في سنوات عديدة ما زلت أقضيها خارج أسوار الجامعة، بسبب كتاباتي التاريخية التي لا تتفق مع الروح السائدة في المؤسسات الرسمية، ولم أكن الوحيد الذي تعرّض لمثل هذه الممارسات. (8)

      والذي حدث حقاً هو أن الذين أُطلق عليهم اسم "المؤرخين الجدد"، نشروا أفضل كتبهم الإنتقادية للتاريخ النمطي للصراع العربي - ''الإسرائيلي'' في الخارج، وباللغة الإنكليزية. فقد أصدر الدكتور "آفي شلايم"، وهو أحد رجال مدرسة المؤرخين الجدد، كتابه الذي يحمل عنوان "عبر نهر الأردن  - الحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين" بالإنكليزية في لندن في عام 1988عن دار نشر "أوكسفورد" البريطانية، بعد أن فشل في نشره في ''إسرائيل''، حيث إن الكتاب يوجه اتهامات شديدة الى زعامات ''إسرائيل'' وحكوماتها المختلفة، ويحمّلها مسؤولية النكبة التي لحقت بالعرب وبـ"الإسرائيليين" أنفسهم على حد سواء.

      والشخصية الثانية التي تنتمي الى مدرسة المؤرخين الجدد هو الدكتور "إيلان بابي" المتخصص في تاريخ منطقة الشرق الأوسط. فقد أصدر "بابي" كتابه الذي يحمل عنوان "بريطانيا والنزاع العربي  - ''الإسرائيلي'' بالإنكليزية عن دار نشر "ماكميلان" في لندن في عام 1988. أما الدكتور "سمحا فلابان"، وهو الشخصية الثالثة في مجموعة المؤرخين الجدد، فقد نشر كتابه الذي يحمل عنوان "مولد دولة ''إسرائيل''" بالإنكليزية في نيويورك في عام 1984، وفيه فنّد الأساطير التي استند إليها المؤرخون القدامى في ''إسرائيل'' لدى تاريخهم لمولد ''إسرائيل''. والشخصية الرابعة في هذه المجموعة، والذي كان أول مَن استخدم مصطلح "المؤرخين الجدد" هو، كما ذكرنا، "بني موريس"، الذي أصدر كتابه "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" بالإنكليزية عن دار نشر جامعة "كمبردج" في عام 1978، وأصدر كتابه الثاني الذي يحمل عنوان "''إسرائيل'' ومعارك الحدود" بالإنكليزية أيضاً عن دار نشر "أكسفورد" في عام 1993، ولأن الكتاب الأخير لا يتعرض مباشرة لممارسات حكومات ''إسرائيل'' ضد الفلسطينيين فإنه الوحيد من بين مجموعة الكتب المشار إليها، الذي ترجم الى العبرية. (9)


الهوامش والمراجع

(1)  "نوريت جوينس": "خربة خزعة وصبيحة اليوم التالي"، دار نشر "الكيبوتس الموحد" عام 1984، ص 78.

(2)  محمد أبو غدير: "قصة القائد الأخير" للأديب "أ. ب. يهوشواع" "وتغلّب دافع الموت على دافع الحياة في المجتمع ''الإسرائيلي''"، مجلة الدراسات الشرقية، العدد الثالث، 1985.

(3)  "أرتسيون برتتا": الملحق الأدبي لصحيفة "معاريف"، 2/2/1990.

(4)  "يشعيا هو  لايبوفتس": "اليهود شعب يهودي ودولة ''إسرائيل''"، إصدار "شوكين" 1975، ص 431.

(5)  "''إسرائيل'' لندرس": "الخطأ الذي وقعنا فيه بإقامة هذه الدولة"، "دافار"، 18/3/1994.

(6)  "إليعزر شفايد": "الصهيونية في مرحلة ما بعد الصهيونية"، "دافار"، 24/6/1994.

(7)  "أوري رام": "صوت ''إسرائيل'' وأصوات أخرى - نظرة إجتماعية الى المناقشات بين المؤرخين"، "هآرتس"، 16/6/1997.

(8)  "بني موريس": "قمت بعمل صهيوني"، "هآرتس"، 16/6/1997.

(9)  لمزيد من التفاصيل أنظر: محمد أبو غدير "''إسرائيل'' ما بعد الصهيونية - دراسة في واقع المشروع الصهيوني ومستقبله"، مجلة "رسالة المشرق"، مركز الدراسات الشرقية بجامعة القاهرة، المجلد الخامس، 1998.