نحو محكمة دولية لمحاكمة مجرمي الحرب "الاسرائيليين"
سمير بدران
ليس فكرة خيالية، انشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب "الإسرائيليين" ، وقد قامت محكمة بالاختصاص نفسه لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة اوائل التسعينات، ودارت اقاويل عن امكانية تشكيل محاكم أخرى لمجرمي الحرب في رواندا.. والعراق. والفكرة بالطبع خاضعة لموازين القوى العالمية، لكن لا شيء يمنع من طروق الموضوع، على الصعيد القانوني النظري، على ما يقترحه سمير بدران في بحثه الجامعي الذي اجراه باشراف الدكتور محمد المجذوب، ومن هذا البحث نقتبس هذا المقال الذي يختصر اهم ما فيه:
الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني بالمدنيين العرب، تحرمها قواعد الحرب المنصوص عليها في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وفي الاعلان العالمي لحقوق الانسان، الذي يحظر جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية. وقد علت اصوات مختلفة تدعو لانشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب "الاسرائيليين"، وذلك لتوفير حماية افضل للمدنيين الخاضعين للاحتلال الصهيوني والذين يعانون اشد أنواع العذاب والاضطهاد، والاقتصاص من مجرمي الحرب على غرار الذين حاكمتهم محكمتا "نورمبرغ" وطوكيو" عقب الحرب العالمية الثانية.
تعريف الحرب
ان دراسة الحرب كظاهرة اجتماعية تستدعي تعريفها وتبيان اساسها القانوني، للتوصل الى عدم مشروعية الحروب العدوانية في ظل القانون الدولي المعاصر، والى ادانة "اسرائيل" لشنها مثل هذه الحروب على الدول العربية. والحرب حسب القانون الدولي التقليدي هي "حالة عداء تنشأ بين دولتين او اكثر، وتنهي حالة السلام بينهما، وتستخدم فيها القوات المسلحة في نضال مسلح، تحاول فيه كل دولة احراز النصر على اعدائها، ومن ثم فرض ارادتها عليها، واملاء شروطها المختلفة من اجل السلام".
واذا كانت الأديان السماوية تحرم الحروب العدوانية، وتشرع رد العدوان فقط، فان لليهود قديما وحديثا موقفا متمايزا، اذ انهم يشرعون العدوان، واحتلال اراضي الغير، بل وارتكاب الجرائم ايضا، واذا كان مفهوم الحرب عند اليهود يعني ارتكاب الجرائم ضد الانسانية ودون مبرر، فما هو المعيار القانوني للحرب في
القانون الدولي المعاصر؟
عندما تقع الحرب بين دولتين او اكثر، يجب ان تسود البلدان المتحاربة قواعد قانون الحرب، سواء وجدت الحرب بمعناها المادي او القانوني، ويكفي ان تنقطع العلاقات العادية والدبلوماسية والتجارية والقانونية بين حكومات الدول ورعاياها. لان احلال قانون الحرب محل قانون السلم في العلاقات الدولية، يعني انه يجب على الدول المتحاربة ان تلتزم بالاتفاقيات الدولية التي تنظم كيفية التعامل مع اسرى الحرب، والحفاظ على ارواح المدنيين وممتلكاتهم، ومنع جرائم الحرب، والجرائم ضد الانسانية، والامتناع عن اعمال الانتقام من المدنيين، والامتناع عن انتهاك الحقوق الاساسية للسكان، وغير ذلك من النصوص التي وردت في اتفاقيات جنيف والاعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبذل فقهاء القانون الدولي جهودا كثيرة لنبذ الحرب، وتجريم الذين يبدؤون الحروب، الى ان اضحت الافعال المنتجة للحرب غير قانونية.
العدوان بنظر القانون
وعرف الفقهاء القانونيون العدوان في عهد عصبة الامم، (قبل قيام منظمة الامم المتحدة)، على انه الانتهاك لاحكام المواثيق والمعاهدات التي تحرم اللجوء الى القوة المسلحة والتي كانت تلزم معظم دول العالم في ذلك الوقت، وقد طالب الكثيرون باعتبار حرب العدوان جريمة تستوجب العقاب، ولكن كل هذه المحاولات لتجريم اللجوء الى الحروب لم تؤد الى شيء. في غياب من يحاكم ويعاقب، وهو ما ادى لاحقا الى اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبعد انتهاء الحرب ونشؤ منظمة الامم المتحدة، ورد في ميثاق الاخيرة ما يحرم استخدام القوة او التهديد بها الا في حالة الدفاع النفسي والجماعي، وحتى هذه الحالة تم تقييدها بامرين:
1- حدوث هجوم مسلح بقوات دولة اخرى، برية او بحرية، على ان يكون هذا الهجوم فعليا، ويشكل
عدوانا على اراضي الدولة او قواتها المسلحة.
2- ضرورة مراعاة قاعدة التناسب عند ممارسة الدفاع الشرعي الذي تجيزه المادة 51 من ميثاق الامم المتحدة (والتناسب يعني ان يكون رد العدوان متلائما مع حجمه).
الحل : محكمة جنائية دولية
وعلى الرغم من تقييد الحروب وتضييق نطاقها قانونا، الا ان ذلك لم يمنع وقوع الحروب ولا ارتكاب الجرائم اثناءها، اما الحل الموضوعي فهو ما يأتي انسجاما مع رأي الدكتور محي الدين عشماوي في كتابه "حقوق المدنيين تحت الاحتلال الحربي"، أي ايجاد محكمة جنائية دولية تقوم بمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، عن طريق اتفاقية دولية تشتمل على العناصر التالية:
1- انشاء محكمة جنائية دائمة ذات اختصاص عالمي تتولى محاكمة مجرمي الحرب من الجنسيات كافة على ما يرتكبونه من مخالفات خطيرة لحقوق الانسان وحرياته الاساسية.
2- تحديد جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية والمخالفات الخطيرة التي تستوجب عقاب مرتكبيها باعتبارهم مجرمي حرب.
3- النص على العقوبات المناسبة لكل جريمة من جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، وغيرها من المخالفات الخطيرة.
4- ايراد الاحكام الخاصة بتسليم المتهمين بارتكاب الجرائم المنصوص عليها في هذه الاتفاقية، بحيث يكون تسليم هؤلاء المجرمين اجباريا وملزما لكل الدول.
5- ويجب ان تنص الاتفاقية على التزام الدول بالنص في تشريعاتها الوطنية على الاحكام الاساسية التي تجيء بها الاتفاقية.
بهذه العناصر الخمسة، اذا وجدت يمكن وضع حد لمجرمي الحرب بصورة خاصة مجرمي الحرب "الإسرائيليين" الذين فاقت جرائمهم كل تصور. والان ما هي جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية؟
جرائم الحرب
نستنتج من الاعراف الدولية والاتفاقيات المعقودة ان جرائم الحرب هي "الافعال التي ترتكب بالمخالفات لقوانين وأعراف الحرب".
ويجب ان تتوفر في جريمة الحرب العناصر التالية:
1- ان يكون الفعل او التصرف مخالفا لقواعد قانون الحرب، وقانون الاحتلال الحربي.
2- ان ترتكب هذه الافعال في زمن الحرب او الاحتلال الحربي.
3- أن يتوافر العنصر الدولي عند ارتكاب الجريمة (أي يجب ان تكون دولة الجاني غير دولة المجني عليه).
4- ان يحصل ضرر، اما لمنشآت الدولة او لاحد الافراد التابعين لها.
واعتبر ميثاق محكمة "نورمبرغ" ان من بين جرائم الحرب:
أ- قتل السكان المدنيين في الأقاليم المحتلة أو إساءة معاملتهم.
ب- اساءة معاملة اسرى الحرب.
ج- قتل الرهائن.
د- هدم المدن والقرى دون سبب، او التخريب الذي لا تبرره ضرورات الحرب.
و"اسرائيل" قتلت السكان المدنيين في الاقاليم المحتلة واساءت معاملتهم، واساءت معاملة اسرى الحرب وقتلت الرهائن وهدمت المدن والقرى دون دافع، فتكون بذلك قد ارتكبت جرائم حرب حسب ميثاق محكمة "نورمبرغ"، وتجب محاكمة مرتكبي هذه الجرائم وانزال العقاب بهم.
الجرائم ضد الانسانية
كما ان القانون الدولي العام حرم الاعمال التي تتصف بالجرائم ضد الانسانية، والتي ترتكبها الدول خلال احتلالها الحربي ضد رعايا وافراد الدول الواقعين تحت الاحتلال، وعرف ميثاق محكمة "نورمبرغ" الجرائم ضد الانسانية على انها "القتل او الاهلاك والاسترقاق والابعاد وكل عمل اخر غير انساني ارتكب ضد أي شعب من الشعوب المتمدنة قبل الحرب او اثناءها او الاضطهادات لدوافع سياسية او متعلقة بالعرق او الدين سواء كانت هذه الاعمال او الاضطهادات تعد خرقا للقانون الداخلي في البلاد التي ارتكب فيها او لا تعد كذلك، وكانت قد ارتكبت تنفيذا لجريمة تدخل في اختصاص المحكمة او كانت لها صلة بهذه الجريمة".
وفي "مشروع قانون الاعتداءات ضد السلم وامن البشرية" الذي وضعته "لجنة القانون الدولي" عام 1951، اتت المادة الثانية فقرة 9 و 10، بتعريف الجرائم ضد الانسانية على انها "قيام سلطات الدول او الافراد باعمال يقصد بها القضاء الكلي او الجزئي على الجماعات الثقافية او الدينية بالنظر الى العرق، وقيام سلطات الدولة او الافراد باعمال غير انسانية ضد شخص مدني كالقتل والاهلاك والاسترقاق والابعاد والاضطهاد المستند الى اسباب سياسية او متعلقة بالعرق او الدين".
جرائم "اسرائيل"
وهذا ما تقوم به "اسرائيل" منذ نشوئها عام 1948 والى وقتنا الراهن، ولعل اشهر ما ارتكبته اولا مجزرة دير ياسين في نيسان (ابريل) عام 1948، وما ارتكبته اخيرا في نيسان (ابريل) ايضا في بلدة قانا" اللبنانية عام 1996.
في المجزرة الاولى، قامت قوة يهودية مؤلفة من 500 فرد من اعضاء المنظمات الصهيونية "شتيرن" ومعناه مناضلو الحرية في "اسرائيل" و "زفاي لئومي" ومعناها المنظمة العسكرية القومية، وغيرهما من المنظمات، باجتياح قرية دير ياسين، واقتادوا الرجال والنساء والاطفال الى ساحة القرية حيث اجهزوا عليهم بنيران الرشاشات والخناجر، وكان بعضهم يراهن رفاقه على جنس الجنين في أحشاء الامهات، فيقدمون على بقر بطون الحوامل، وكان بعضهن على قيد الحياة، وينتزعون الاجنة من أحشائهن كقرينة على كسب الرهان ! وبعد هذه المجزرة كتب متفاخرا مناحيم بيغن، رئيس وزراء العدو الاسبق، ورئيس منظمة "الارغون": "تتقدم القوات "الاسرائيلية" في حيفا بالسهولة التي تمر بها السكين عبر الزبدة، اما العرب فانهم يهربون صارخين: دير ياسين، دير ياسين". كما يقول ايضا: " لولا (النصر) في دير ياسين لما كانت هناك دولة "اسرائيل" ".
وفي حرب عام 1956، ارتكب الصهاينة مجازر مرعبة في قطاع غزة، في "المحرقة" و"خان يونس" و "رفح" بحيث امروا الافا من الرجال بحفر قبورهم بايديهم قبل اطلاق النار عليهم، وتكرر الامر نفسه في القطاع، عقب عدوان 1967.
وجاء في تقرير اللجنة الثلاثية التي شكلتها الامم المتحدة للتحقيق في انتهاكات "اسرائيل" لحقوق الانسان في المناطق المحتلة، ان عددا من الاشخاص قد طردوا بالقوة من قرى ومرتفعات الجولان، انه قد اسيئت معاملتهم على يد القوات المحتلة، وتم اختيار مجموعات منهم قتلوا فورا.
وبعث الممثل الدائم للاردن في عام 1967، برسالة الى الامين العام للامم المتحدة قال فيها: "ان "الاسرائيليين" ضربوا ثمانية من الاردنيين ضربا مبرحا ثم ارغموهم على عبور نهر الاردن سباحة، وفتحوا عليهم النار وهم يسبحون فقتلوا منهم سبعة وجرحوا الثامن".
وانكشف مؤخرا ان قوات "اسرائيل" اقدمت ببرودة اعصاب على قتل الآلاف من اسرى الحرب المصريين عقب عدوان 1967.
وفي نيسان (ابريل) عام 1996، دكت المدفعية والصواريخ مركز القوات الدولية في بلدة قانا بجنوب لبنان، وكان قد التجأ اليه عشرات المدنيين، هربا من القصف الجوي والبري المتواصل، فقضى اكثر من مائة شخص على الفور، واختلطت الاشلاء، بعضها ببعض، واكد التحقيق الدولي باشراف الامين العام الأسبق بطرس غالي، على مسؤولية "اسرائيل" عن المجزرة المروعة.وهذا فضلا عن اساءة معاملة المدنيين في الاراضي المحتلة، رجالا ونساء، واساءة معاملة المعتقلين في السجون "الاسرائيلية"، مما دلت عليه التحقيقات من المنظمات الدولية وتقاريرها الموثقة. وقد اكدت تلك الوقائع والجرائم، والقرارات الصادرة عن الجمعية العامة للامم المتحدة ولجانها المختصة، كما ان "اسرائيل" استعملت الاسلحة والذخائر المحظورة دوليا، والتي تحدث آلاما شديدة وتشويهات فظيعة في اجساد المصابين، فقد استخدم جيش العدو قنابل "النابالم" والقذائف العنقودية والانشطارية والمسمارية، مع ان المادة 22 من اتفاقيات "لاهاي" تنص على ان "حق الدولة في اختيار وسائل ايذاء العدو غير مطلق". والمفارقة، ان "اسرائيل" التي تطالب دوما بمحاكمة مجرمي الحرب الالمان، وتلاحقهم في العالم، بمساعدة اكيدة من الغرب ولا سيما الولايات المتحدة، ترتكب الاعمال الاجرامية اياها التي استوجبت تشكيل محكمتي "نورمبرغ" و"طوكيو". ما ان افعالها منذ قيام دولة الاغتصاب عام 1948، تنطبق تماما على المواصفات والمعايير الجرمية.