* Moustafa Ghareeb * مصطفى غريب * الكيان الصهيوني والمسألة اليهودية

الكيان الصهيوني والمسألة اليهودية

الدكتور حسن حنفي

استاذ الفلسفة في كلية الآداب بجامعة القاهرة


( من اعمال ندوة "الصهيونية بعد مئة عام" المنعقدة بين 25 و 28 تشرين الثاني  بدعوة من "المؤتمر الدائم المناهضة الغزو الثقافي الصهيوني".)

اثيرت "المسألة اليهودية" في الفكر الغربي وحده، فتعرضت اليها معظم التيارات الفكرية مثل الليبرالية كما قال " برونو باور" في كتابه " المسألة اليهودية" عام 1843، او الماركسية كما فعل "ماركس" في "المسألة اليهودية" عام 1843، والوجودية كما كتب "سارتر" "تأملات في المسألة اليهودية" عام 1954.

 اراد "باور" تحرير اليهود في المانيا عن طريق الدولة الالمانية القومية الليبرالية، فلا بقاء للخاص من دون العام، ولا تحرر للجزء الا بتحرر الكل. واراد "ماركس" ان يحقق الهدف نفسه، ولكن عن طريق تحرير المضطهدين في العالم كله، وهذا لا يتم الا عن طريق القضاء على البرجوازية المستغلة وتوحيد جميع المضطهدين. أما "جان بول سارتر" فقد جعل السبب  الرئيسي للمسألة اليهودية هو رؤية الآخرين. فاليهودي ما يراه الآخرون انه يهودي. فالخطأ من الاخر وليس من الذات. ومن ثم فتحرر اليهودي ليس من داخله من بل من خارجه فهو الضحية وليس الجلاد والسبب الرئيسي للمسألة اليهودية هو باختصار المعادة للسامية.

وسبب بروز "المسألة اليهودية" في الفكر الغربي هو عزلة اليهود في المجتمعات الاوروبية. لا هم جزء من المجتمع متساوون مع باقي افراده في الحقوق والواجبات، ولا هم خارج المجتمع، لا هم وطنيون ولا هم غرباء. وقد نشأت المسألة اليهودية في الدول القومية الكبرى مثل روسيا والمانيا وفرنسا. فحركة التطهير العرقي من اليهود انما تمت في روسيا في القرن الماضي فيما عرف باسم " البورغوم"، وفي فرنسا بعد حادثة الضابط "داريفوس" في اواخر القرن الماضي، وفي ألمانيا أبان الحكم النازي في النصف الاول من هذا القرن. كما نشأت المسألة اليهودية في المجتمعات التي تعاني من ازمة هوية مثل مجتمعات اوروبا الشرقية، لذلك خرج كثير من دعاة الصهيونية من تلك الاصقاع.

اصل المسألة اليهودية

توجد نزعتان في تأريخ اليهودية منذ العبرانيين الاوائل حتى الصهيونية المعاصرة، الاولى نزعة خاصة وتظهر في اسفار موسى الخمسة واثناء الاسر البابلي والاحتلال الروماني لفلسطين والصهيونية الحديثة منذ القرن الماضي. وهي نزعة تقوم على عقائد التوراة مثل العهد والوعد وارض الميعاد.

وهو عهد مادي/اخلاقي وجماعي لا فردي. واصل فكرة العهد ان العبرانيين عقدوا حلفا من الاسباط الاثني عشر تقوية لهم مع القبائل السامية، ثم حولوا هذه المعاهدة السياسية بين الاسباط الى عهد الله بين الله وشعبه. تحول الافقي الى رأسي، والسياسي الى ديني والانساني الى الهي.

كانت هناك نزعة عامة تضعف وتقوى طبعا للعصور ومدى قبول العبرانيين ثقافات الشعوب الاخرى وحضاراتهم. فقد ثار الانبياء ضد النزعة الخاصة عودا بالوحي الى شموله لكل الشعوب، الايمان بالله والعمل الصالح، وهو ما ثبته الاسلام، اخر مرحلة للوحي. وعادت النزعة العامة باتصال العبرانيين باليونان عند "فيلون السكندري"، وتأويل اليهودية بما يتفق مع العقل والفضيلة. وظهرت مرة ثالثة مع المسيحية عند "الاسينيين" الذين كانوا يفسرون اليهودية تفسيرا روحيا بعيدا عن العنصرية والعدوان. وقد كان المسيح منهم كما تبين "مخطوطات البحر الميت".

ثم ظهرت النزعة الشاملة داخل الحضارة الاسلامية لدى يهود مصر والعراق واليمن والمغرب العربي واسبانيا. ولم تعرف اليهودية علم كلام او فلسفة او فقها الا بفضل نماذج هذه العلوم في الحضارة الاسلامية.

سعيد بن يوسف الفيومي مثل الفارابي ومعاصريه. "بهيا بن باقودة" مثل مسكويه، و"يهودا هاليفي" مثل الغزالي وموسى بن ميمون مثل ابن رشد. وفي الفلسفة الغربية الحديثة، ظهرت النزعة الشاملة في القرن السابع عشر عند "اسبينوزا". الذي نقد العهد اليهودي المحافظ المادي الاحادي الطرف، المجاني غير المشروط ونادى بعهد اخر اخلاقي تبادلي مشروط نقلا للديكارتية من المسيحية الى اليهودية.

ونقل "موسى مندلسون" الكانطية والفلسفة النقدية الى اليهودية. بل ان بعض التيارات اليهودية المعاصرة مثل الظاهراتية الاشتراكية عند "بوبر" او الوجودية اليهودية عند "روزنزفيغ" تدعو الى التحرر عن طريق تحرير الوجدان والذات والانسان وليس عن طريق الكيان الصهيوني.

كان القرن التاسع عشر هو عصر القوميات الكبرى، أي الوحدة المتجانسة القائمة على العرف واللغة والارض والتاريخ والدين والثقافة، وقد نشأ الفكر القومي اليهودي على هذا المنوال. وتحولت الصهيونية من نزعة روحية تقاوم الذوبان في باقي القوميات والثقافات الى صهيونية سياسية ترى حل المسألة اليهودية على النموذج الاوروبي. ولما كانت هذه الصهيونية من النزعة الخاصة فقد وقع الاختيار على فلسطين. ففيها تتحقق العودة الى الارحام وعليها عقد العهد الاول. وهي ارض المعاد التي بها المدينة والمعبد والهيكل.

الكيان الصهيوني في هذا القرن

كان الهدف من انشاء الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي هو ايجاد نقطة انطلاق للاستعمار الغربي وجسر يمتد اليه. فهو قلعة متقدمة للغرب داخل الشرق. وقد قام الكيان بما اوكل اليه في العدوان الثلاثي عام 1956 بالتعاون مع فرنسا وانكلترا، وفي عدوان 1967 بالاعتماد على الولايات المتحدة.

 تستغل ("إسرائيل") المياه والأرض والتربية والعمالة والاسواق العربية. وتقوم على القوة والمادة والربح ولعب دور الامبراطوريات الكبرى في القرن الماضي، وتقوم وسط افريقيا لحصار مصر والعرب من الجنوب. وتتعامل مع الجمهوريات الاسلامية في اواسط اسيا حتى الصين لتجفيف منابع التأييد العربي عن المسلمين في اسيا، وتتحالف مع تركيا لحصار سوريا من الشمال وتجد التأييد العلمي والصناعي في الغرب والاوروبي الاميركي. وفي الوقت نفسه، ينحسر المشروع التحرري العربي من تحرير فلسطين الى ازالة اثار العدوان، الى الدولة الفلسطينية على مجموع التراب الوطني، الى السلطة الوطنية الفلسطينية. ويحاذر العرب ايران وما يزال مشروعها التحرري لفلسطين هو مشروع العرب الاول، ويخسر العرب باقي دول الجوار في اسيا مثل تركيا وفي افريقيا مثل دول القرن الافريقي.

والسؤال الآن : هل ان قيام الكيان الصهيوني حل المسألة اليهودية؟ هل ساعد الكيان على جعل اليهود اكثر قبولا لهم، او هم اكثر قبولا لجيرانهم؟ لم يحصل اليهود على الامان المطلوب، بل عاشوا في "غيتو" كبير بدلا من "الغيتو" الصغير. يعيشون على معاداة السامية، وبقدر ما تقوى النزعة المعادية للسامية تقوى الصهيونية وتجد مبررا لوجودها. وبدلا من حل المسالة اليهودية نشأت المسألة الفلسطينية: اخراج شعب من ارضه ونهب ثرواته، احضار يهود العالم من ا "الدياسبورا" الى " "العاليا"، وابعاد عرب فلسطين من "العاليا" الى "الدياسبورا".

النموذج الاندلسي

لقد قام الميثاق الوطني الفلسطيني منذ البداية على ان حل المسألة اليهودية والفلسطينية انما يتم في اطار دولة ديموقراطية متعددة الثقافات والملل، يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات. وهو ليس حلما طوباويا بعيد المنال او تكتيكا سياسيا لتصفية الكيان اليهودي، بل هو النموذج الاندلسي القديم الذي عاش فيه المسلمون واليهود والنصارى في طليطلة وغرناطة واشبيلية وقرطبة. وكان هو العصر الذهبي للحضارة اليهودية حيث نشأت علومهم العقلية في الرياضيات والطبيعيات بفضل وجودهم في الحضارة العربية يكتبون بالعربية او بالعربية بحروب عبرية ويعيشون بين المسلمين. بل ان اليهود كانوا يذهبون الى القضاء الاسلامي لانه اكثر عدلا من القضاء اليهودي.

 وما حدث في الاندلس حدث ايضا في مصر وتونس والعراق واليمن، فقد جمع اليهود بين العروبة والثقافة الاسلامية اسوة بالمسلمين والنصارى وكان منهم الأطباء والحكماء والعلماء في بلاط الخلفاء، كان ابن ميمون طبيب السلطان الكامل. ووصل "حسداي بن شيروط" الى منصب وزير التجارة. وراسل "حسداي" ابن باجه. وظهر "حيوي البلخي" داعيا ومصلحا لليهودية قبل "اسبينوزا". وتكونت فرقة "القرائين" على نموذج المتكلمين المسلمين في مقابل "الربانيين" بل ان من كبار فلاسفة التنوير اليهودي في العصر الحديث هم من تلامذة المسلمين مثل "اسبينوزا".

ان الذي يمنع اليهود الآن ان يصبحوا ذوي نزعة عامة هو رد الفعل على التنوير الاوروبي، ونموذج القوميات والتغريب. أصبح اليهودي غربيا  عن تراثه. يتبنى القيم الغربية  تاركا قيمه الموروثة، يستمد هويته من الارض والعرق، ويتصور امنه في الحدود الجغرافية الآمنة، في العلم والنشيد والعلاقات الدولية والقوة.

مأساة اليهودية الآن مأساتان: التغريب، ونموذج الدولة القومية الدينية الطائفية العرقية النازية، لذلك حدث الصدام بينها وبين النازية الالمانية. هذه هي الصهيونية وليست اليهودية. ولا فرق بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية إلا في المنبع وليس في المصب، في الوسيلة وليس في الغاية. وكلاهما صهيونية سياسية تريد العودة الى جبل صهيون لتأسيس الكيان الصهيوني. اما التيارات اليهودية الاخرى فما تزال اقرب الى اليهودية منها الى الصهيونية مثل اليهودية الاصلاحية التي تريد كيانا مسي سياسيا دون صهيونية. واليهودية الارثوذكسية التي ترفض الكيان السياسي.