* Moustafa Ghareeb * مصطفى غريب *التعبئة النفسية في العقيدة العسكرية "الاسرائيلية"

التعبئة النفسية في العقيدة العسكرية "الاسرائيلية"

الدكتور ياسين سويد

(الحلقة السادسة)


في الحلقات الخمس الماضية تعرض الكاتب الى الطبيعة العدوانية وواقع السيطرة والتوسع والسلوك العام في حروب "اسرائيل"، وفي هذه الحلقة، يتناول الكاتب كيفية التعبئة النفسية في الجيش "الاسرائيلي"، والتي على اساسها يتم خوض الحروب ضد العرب.

 

مقدمة

تهدف التعبئة النفسية والمعنوية لجيش ما، وشعب ما، الى "حشد القوى" عن طريق تكثيف التوجيه النفسي والمعنوي للجيش والشعب بشكل يجعلهما متحفزين لخوض حرب وضمان النصر فيها، ويتم ذلك بتحقيق العناصر التالية:

العنصر الاول: خلق الباعث، أي الهدف او الغاية التي تبرر الحرب وتدفع المقاتل للقتال في سبيل تحقيقه، والاستشهاد في سبيله اذا اقتضى الامر، كما تدفع المواطن لذلك الهدف او تلك الغاية.

العنصر الثاني: اعداد الاداة الضرورية لتحقيق الهدف او الغاية، وهي هنا الجيش والشعب، وكلاهما.

العنصر الثالث: خلق المناخ النفسي والمعنوي للحرب، وتحقيق العوامل المؤاتية لايجاد هذا المناخ وذلك بتحريض الجيش وحثهما على القتال لبلوغ الهدف او الغاية.

 

نجد في العهد القديم، توافر العناصر اللازمة، كلها، لهذا الغرض، فهو يتميز باسلوب تعبوي، بل هو اشبه بعمل توجيهي تحريضي يدفع اليهود باتجاه الحرب، ولو عن طريق الاعتداء على الغير، وذلك لما فيه من تعاليم مكثفة ومشحونة، ومحرضة، الى درجة المبالغة، باتجاه هدف محدد هو ارض الميعاد، وبادارة محددة هي شعب بني "اسرائيل"، وبوسيلة محددة هي الحرب.

ويبدو ان الهدف الاساسي من هذا التحريض، في العهد القديم، هو تحقيق العوامل النفسية اللازمة والضرورية لكي يصبح الشعب اليهودي شعبا قويا مقاتلا فيتمكن من تحقيق الغاية التي اوكل "الرب" اليه تحقيقها، وهي احتلال ارض الميعاد، وهذا ما التزم "رب اسـرائيل" التزاما ماديا ومعنويا واضحا، تجاه شعبه اليهودي الذي يبدو، في العهد القديم نفسه، شعبا ضعيفا وخائفا ومترددا.

يقول "لارتيغي" في كتابه "اسوار "اسرائيل": "نريد ان نؤكد حقيقة تاريخية ونحطم اسطورة، وهي اسطورة اليهودي كجندي سيئ وعاجز عن حمل السلاح، فكل التاريخ القديم "لاسـرائيل"، الذي تقصه التوراة علينا، هو، قبل كل شيء، تاريخ عسكري، وجنود موسى ويشوع وداود لم يتخلوا قط عن القتال والصراع حتى فيما بينهم. انهم ليسوا برحومين مع اعدائهم المغلوبين..." (1) .

ولكن كيف يمكن تحطيم اسطورة الجندي اليهودي الذي يصوره لنا العهد القديم، في كل صفحة تقريبا، خائفا ومرتعدا ومذعورا ومترددا، مما يضطر "رب اسـرائيل" الى تحريضه على القتال باستمرار، وتشجيعه وترغيبه والايحاء اليه بانه - أي الرب - يقاتل معه، والى جانبه، بل في مقدمة صفوف شعبه، فيصبح رب "اســرائيل"، رب القوات، قوات بني "اسـرائيل"، والمحارب عنهم والمقاتل معهم كما سبق ان رأينا.

لم يخض، شعب "اسرائيل"، في عهده القديم، معركة، الا كان مترددا، وفي كل مرة كان يقف امام "رب "اسرائيل"، باكيا متوسلا، مقدما "المحروقات والذبائح"، متضرعا اليه ان يقاتل الى جانبه وان يمنحه النصر على اعدائه، فيدفعه "ربه" الى الحرب دفعا، واذا ما انهزم فانه يعود الى ربه، من جديد، باكيا متضرعا متوسلا، حتى يضطر الرب لان يقول له، تكرارا، كما في نصوص العهد القديم كله: اذهب وقاتل فانني سأقاتل معك واحارب عنك، وقد رأينا ذلك واضحا في حديثنا عن الطبيعة الاتكالية في العقيدة العسكرية الصهيونية.

من هنا، بدأت التوجيه المعنوي في التاريخ العسكري لبني "اسرائيل" في العهد القديم ذا أهمية خاصة ومتميزة، وهو في اكثره، تحريض وحث وتشجيع على القتال والحرب للوصول الى الهدف الذي رسمه رب بني "اسرائيل" لشعبه، وهو امتلاك ارض الميعاد، ارض بني كنعان، واستيطانها، وطرد اصحابها الشرعيين منها.

اوليس هو الرب اله "اسرائيل" الذي قال لبني "اسرائيل" : "اسمعوا يا بني "اسرائيل"، انتم اليوم مقتربون الى الحرب على اعدائكم، فلا تتراخ قلوبكم، ولا تخافوا ولا تضطربوا، ولا ترتعدوا من وجوههم، لان الرب الهكم سائر معكم ليحارب عنكم أعدائكم ويخلصكم" (2) .

واذا كان بنو "اسرائيل" قد عرفوا، في حروبهم في العهد القديم، بالقسوة والوحشية فكانوا، كما يعترف "لارتيغي"، غير رحومين "مع أعدائهم المغلوبين"، فليس ذلك اطلاقا دليل شجاعة ولا بطولة، لان الفتك بالضعفاء المقهورين هو من شيم الخائفين والجبناء، وان تحطيم اسطورة اليهودي "كجندي سيئ وعاجز عن حمل السلاح"، في تاريخه القديم، تعني، بكلمة، الغاء العهد القديم كله.

وان نكرر، في مجال التوجيه المعنوي العسكري الذي وجهه الرب لبني "اسرائيل"، في سائر نصوص العهد القديم، ما سبق ان ذكرناه في مجالات سباقة، بل سوف نؤكد على ان بني "اسرائيل" كانوا بحاجة ماسة، في ذلك الحين، الى التوجيه المعنوي الذي يحضهم على القتال ويحثهم عليه، خصوصا وان رب بني "اسرائيل" قد وضع امام اعينهم هدفا وامرهم ان يسعوا لتحقيقه، فترددوا، وتلكأوا، وتقاعسوا، فكان ان بالغ في تحريضهم وتشجيعهم وحثهم على القتال للوصول الى الهدف، ومن ذلك، على سبيل المثال، لا الحصر:

ـ قوله: "ان قلت في قلبك: هذه الامم اكثر مني، فكيف استطيع ان اطردها؟ فلا تخفها بل تذكر ما صنع الرب الهك بفرعون مصر كلها. تلك التجارب العظيمة التي رأتها عيناك، والآيات والخروق واليد القوية والذراع المبسوطة التي بها اخرجك الرب الهك. هكذا يصنع الرب الهك بجميع الشعوب التي انت خائف منها" (3) .

ـ وقوله: "اسمع يا "اسرائيل": انك اليوم عابر الاردن، لتدخل وتطرد امما اعظم واقوى منك، مدنها عظيمة ومحصنة الى المساء... فاعلم اليوم ان الرب الهك هو يعبر امامك كنار اكلة، هو يبيدهم ويذلهم امامك، فتطردهم وتبيدهم سريعا، كما كلمك ربك" (4) .

ـ وما ورد في العهد القديم من انه "لما كان يشوع عند اريحا، رفع عينيه ونظر، فاذا برجل واقف امامه، وسيفه في يده مسلولا، فاقبل عليه يشوع وقال له: "امنا انت ام اعدائنا؟ فقال: كلا، بل انا رئيس جند الرب والان جئت" (5) .

ـ وقوله -أي الرب- ليشوع: "لا تخف من وجوههم، فاني، في مثل هذا الوقت من اجعلهم جميعا قتلى امام "اسرائيل"، فعرقب خيلهم واحرق مركباتهم بالنار" (6) .

ـ وقوله "لقد طرد الرب من امامكم امما عظيمة قوية، ولم يثبت في وجوهكم احد هذا اليوم، الواحد منكم يطارد الفا، لان الرب الهكم هو المحارب عنكم كما قال لكم" (7) . وفي مكان اخر "قد رأيتم ما فعل الرب الهكم بجميع تلك الامم من اجلكم، لان الرب الهكم هو المحارب عنكم" (8) .

ـ وقوله ليشوع : "لا يقف احد امامك طول ايام حياتك، كما كنت مع موسى اكون معك لا اهملك ولا تركك، تشدد وتشجع" (9) .

ـ وفي سعيه الدؤوب لتحريض بني "اسرائيل" وتشجيعهم على القتال، يقول "الرب" لهم: "لا يقف انسان في وجوهكم، فان الرب الهكم يوقع رعبكم وخوفكم على وجه كل الارض التي تدوسونها، كما قال لكم" (10) .

ـ ودعا موسى بني "اسرائيل"، قبيل وفاته، للاستعداد لعبور الاردن ودخول ارض كنعان، الارض التي وعدهم ربهم بها "ميراثا ابديا: كما يدعون، وقال لهم: "تشددوا وتشجعوا ولا تخافوا ولا ترتعدوا امامهم، فان الرب الهك هو السائر معك، ولا يهملك ولا يتركك" (11) . ثم دعا موسى خليفته على بني "اسرائيل"، يشوع بن نون، وقال له، بحضور بني "اسرائيل" جميعا: "تشدد وتشجع، فانك انت تدخل هذا الشعب الارض التي اقسم الرب لابائهم ان يعطيهم اياها، وانت تورثهم اياها. والرب هو السائر امامك، وهو يكون معك، ولا يهملك ولا يتركك، فلا تخف ولا تفزع" (12). ثم قال الرب، نفسه، ليشوع بن نون، بعد ذلك: "تشدد وتشجع، فانك انت تدخل بني "اسرائيل" الى الارض التي اقسمت لهم عليها، وانا اكون معك" (13) .

ـ ثم وقف يشوع، بعد ذلك خطيبا بقومه، يحثهم على عبور الاردن واجتياح ارض كنعان، قائلا: "... تعلمون ان الله الحي هو في وسطكم، وانه يطرد من وجهكم الكنعاني والحثي والحوي والفرزي والجرجاشي والاموري واليبوسي" (14) .

ـ ويهدد رب بني "اسرائيل" الامم كلها، على لسان ارميا، بالدمار والفناء، وذلك في معرض دفاعه عن شعبه الذي سبي الى بابل، اذ يقول: "لا تخف يا عبدي يعقوب، يقول الرب، فاني معك، وسأفني جميع الامم التي دفعتك إليها. " (15) . ثم يهدد، في موضع اخر، وعلى لسان ارميا ايضا، بابل والكدانيين بالدمار والخراب، اذ يقول: "ان بني "اسرائيل" مظلومون... لكن فاديهم قوي، رب القوات معه، فهو يخاصم لمخاصمتهم.. ويرعش سكان بابل. السيف على الكلدانيين، يقول الرب، وعلى سكان بابل، وعلى رؤسائها وعلى حكمائها، السيف على عرافيها فيهذوا. السيف على ابطالها فليفزعوا. السيف على خيلها وعلى مركباتها، وعلى جميع الخليط الذي في وسطها، فليصبروا كالنساء" (16) .

ـ ويتابع الرب وعيده للانتقام من بابل فيقول : "هكذا قال الرب : ها انذا اثير على بابل، وعلى سكان قلب مقاومي، ريحا مهلكة، وارسل الى بابل غرباء فيذرونها ويخربون ارضها..."، ويستطرد، مخاطبا "الامة العظيمة، الآتية من الشمال، لمحاربة بابل واخضاعها" : "لا تشفقوا على شبابها، حرموا (أي اقتلوا) جميع جيوشها" (17) . ثم يناشد شعبه (بني "اسرائيل" ) ان : "اهربوا من وسط بابل (وانجوا كل واحد بنفسه)، لا تهلكوا باثمها، فان هذا وقت انتقام للرب، فهو يجزي مكافأتها" (18) . ويستطرد قائلا: "تسقط بابل هي ايضا، يا قتلى "اسرائيل"، كما انه ببابل سقط قتلى من الارض كلها" (19) . الى ان يقول: "هكذا قال رب القوات: اسوار بابل العريضة تقوض تقويضا، وابوابها الشامخة تحرق بالنار" (20) .

ـ ولا يتورع رب بني "اسرائيل" عن اعلان انه يخرج "ويحارب تلك الامم (التي تحارب اورشليم) كما يحارب في يوم القتال" (21) ، ثم يستطرد قائلا وبغضب شديد: "وهذه هي الضربة التي يضرب بها الرب جميع الشعوب التي حاربت اورشليم، يفسد لحومهم وهم واقفون على ارجلهم، وعيونهم تفسد في وقوبها (احداقها)، والسنتهم تفسد في افواههم" (22).

ـ ثم يقيم رب بني "اسرائيل"، على اسوار اورشليم، حراسا "لا يسكتون نهارا ولا ليلا" (23) ، فلاجلها هو لا يهدأ "حتى يخرج، كضياء، برها، وكمشعل متقد خلاصها"، وهو "لاجل صهيون" لا يسكت (24) .

ـ وجاء في العهد القديم، ان يهوذا المكابي، عندما نهد، بجيشه، قتال "نكانور" قائد جيش بطليموس السلوقي "قائد بقاع سوريا وفينيقية"، هاله منظر جيش نكانور الذي احتشد واصطف "واقيمت الافيال في مواضعها، واصطفت الفرسان على الجناحين"، و "تفرس المكابي في كثرة الجيوش وتوفر الاسلحة المختلفة وضراوة الافيال، فرفع يديه الى السماء ودعا الرب صانع المعجزات،... وصلى قائلا: "انك يا سيد، قد ارسلت ملاكك في عهد قزحيا، ملك يهوذا، فقتل من جند سنحاريب مئة وخمسة وثمانين الفا،...، والان،... ارسل ملاكا صالحا امامنا يوقع الرعب والرعدة"، ثم تقدم جيش نكانور "بالابواق والاغاني الحربية، فنازلهم اصحاب يهوذا بالدعاء والصلوات... فصرعوا لا اقل من خمسة وثلاثين الفا" بينهم "نكانور" نفسه (25) .

ـ وجاء في العهد القديم، كذلك، ان يهوذا المكابي، عندما حشد جيشه لقتال نكانور، وحرض جنده على القتال ان "لا يرتاعوا من الاعداء ولا يخافوا من كثرة الامم المجتمعة عليهم ظلما، وان يقاتلوا ببأس" قائلا لهم: "ان هؤلاء انما يتوكلون على سلاحهم واعمالهم الجريئة، واما نحن فنتوكل على الاله القدير الذي يستطيع بايماءة يده، ان يصرع الزاحفين علينا، بل العالم باسره" (26) . ثم انه، "بعدما شددهم بهذا الكلام حتى اصبحوا مستعدين للموت في سبيل الشريعة والوطن، فسمهم الى اربع فرق... ثم امر عزرا ان يتلو عليهم الكتاب المقدس، وجعل لهم كلمة السر: نجدة الله" (27) .

ـ وفي اثناء حشده لجيشه في "المصفاة" لقتال جيش ليسياس الذي هاجم يهوذا (بقيادة بطليموس بن دوريمانس ونكانور وجرجياس)، اصدر يهوذا المكابي "امر اليوم" لهذا الجيش، عشية الحرب، وقد جاء فيه: "تجهزوا وكونوا ذوي بأس، وتأهبوا للغد لمقاتلة هذه الامم المجتمعة علينا لتبيدنا نحن واقداسنا. فلئن نموت في القتال خير لنا من ان نعاين الشر في قومنا واقداسنا، وكما تكون مشيئته في السماء فليصنع" (28). وبعد اكثر من واحد وعشرين قرنا من ذلك التاريخ، وفي حرب حزيران/يونيو 1967، وقف الجنرال "الاسرائيلي" "عوزي ناكيس" قائد المنطقة الوسطى يتلو "امر اليوم" على جنوده قائلا: "اليوم تحررت القدس. شمال مدينة اجدادنا، وجنوبها، بايدينا، بقي علينا ان نخوض معارك ايضا. وانني انتظر منكم، ايها الجنود، ان تقوموا بواجباتكم بحماسة" (29).

وقد سبق ان مر معنا كيف كان رب بني "اسرائيل" يشحذ معنويات شعبه ويقويها بوسائل غيبية يقتصر الاقتناع بصحتها على الدين فقط، كأن يخرج ملاك الرب ويقتل من عسكر الآشوريين 185 الف رجل (30) ، او ان يظهر ملاك الرب امام يشوع، عند اريحا، شاهرا سيفه وقادما للقتال معه (31) او ان يظهر الملائكة "على خيل لها لجم من ذهب" لكي يساعدوا يهوذا المكابي في حربه ضد طيموتاوس (32) ، او ان يظهر للمكابي فارس يرتدي لباسا ابيض ويشهر سلاحا من ذهب، لكي يقاتل معه ضد ليسياس (33) .

وقد احتلت التعبئة النفسية والمعنوية حيزا كبيرا ومهما من نصوص العهد القديم، وذلك لان شعب "اسرائيل"، وهو الشعب الذي وجه اليه هذا "الكتاب المقدس"، لم يكن في نظر "رب بني "اسرائيل"" على ما يبدو، على مستوى المهمة التي كلفها من قبل ذلك الرب، وذلك وفقا لما ورد في العهد القديم ووفقا لمزاعم الشعب اليهودي نفسه. الا ان ما ورد في الكتاب اثر تأثيرا نفسيا بالغا في هذا الشعب وفي المجتمع اليهودي كله، وظل هذا التأثير مستمرا الى اليوم. وأننا لنلمس مدى هذا التأثير اذا ما رجعنا الى مذكرات كبار القادة "الاسرائيليين" في العصر الحاضر، مدنيين وعسكريين، حيث نجد ان تأثير هذه التعبئة النابعة من نصوص العهد القديم، في طبائع هؤلاء القادة وتربيتهم، هو كبير جدا، حتى لنجد ان بعض هؤلاء القادة "الاسرائيليين" يتوجون مقالاتهم العسكرية بنصوص من العهد القديم تذكر بحروبهم البالغة القدم، والمستمرة، مع الفلسطينيين (34) . وربما كان ذلك ايضا من باب التعبئة النفسية والمعنوية للشعب "الاسرائيلي"، في صراعه المسلح ضد العرب، فلسطينيين وغير فلسطينيين.

ولا تزال التعبئة النفسية والمعنوية تشكل عنصرا مهما من عناصر حشد القوى لدى الدولة العبرية، وقد برعت "اسرائيل" في استخدام مختلف الاساليب لاتقان هذا النوع من التعبئة، سواء اكان على الصعيد الخارجي، بغية كسب الاصدقاء والحلفاء وتحييد الخصوم، وذلك عن طريق "التعبئة الاعلامية" في الدول الكبرى المؤثرة والفاعلة في السياسة العالمية ام على الصعيد الداخلي، بغية حفز المواطنين "الاسرائيليين" على الاستعداد للقتال والتهيؤ للحرب في أي وقت. وقد استخدمت "اسرائيل"، لذلك الوسائل التالية:

1 ـ استراتيجية "الخيار الوحيد" وذلك بقناع المواطن اليهودي في "اسرائيل"، ان "الخيار الوحيد" للشعب اليهودي لكي يعيش في "وطنه" هو الاستعداد للحرب ضد العرب الذين يهددون كيانه وامنه واستقراره، مع المثابرة على حقن هذا المواطن بكل انواع المؤثرات التي تجعله حاقدا، بصورة دائمة، على العرب، وتواقا لقتالهم، كان يقتنع اليهودي انه "ليس هناك خيار اخر لشعب يقاتل من اجل وجوده، وهو على بينة تامة بان هزيمته في الحرب تعني نهايته كأمة" (35).

2 ـ الحض على القتال والاستبسال فيه حتى الموت، ففي مقدمته لكتاب "اسوار "اسرائيل"" الكاتب الفرنسي "جان لارتيغي"، نرى "موشي دايان" يحض العسكريين "الاسرائيليين"، ضباطا وجنودا، على الهجوم والقتال حتى الموت دفاعا عن "اسرائيل"، اذ يقول: "لم تسع "اسرائيل" قط، منذ عام 1948 الى حماية حدودها خلف اسلاك شائكة او خط من التحصينات، فالدفاع بالنسبة الى قادة الجيش "الاسرائيلي" كان، وسيظل دائما، الهجوم، الهجوم على العدو في ارضه هو" (36) .

3 ـ استخدام "خطر الابادة" كحافز معنوي للقتال اذ ظهر القادة "الاسرائيليين"، في مناسبات كثيرة،كمحرضين متطرفين لدفع جنودهم الى القتال، مثلا على ذلك:

أـ قال العميد شارون، في معرض حديثه عن حرب حزيران / يونيو عام 1967، وذلك في حديث له نشرته جريدة "معاريف" "الاسرائيلية" بتاريخ 7/6/1972: "ان حرب الايام الستة كانت حربا تهدف الى منع الابادة. ان هدف العدو المعلن عنه كان ابادة دولة ""اسرائيل". كان هذا هو الشعور الذي رافقنا، وبهذه الروح تحدثنا الى الجنود" (37) . مع ان شارون يعلم، بالتأكيد، انه لم يكن لدى العرب، في حزيران عام 1967، نية لبدء الحرب او شنها على "اسرائيل"، في تلك الظروف.

ب ـ وقال اسحق رابين في المناسبة نفسها وفي حديث له نشر في الجريدة نفسها بتاريخ 2-7-72 "ساد الشعب باسره في "اسرائيل" شعور بان الحرب هي من اجل استمرار بقائنا... ولولا هذا الشعور الصادق والصحيح لما حصلنا على ما حصلنا عليه" (38) .

ج ـ وفي حديث له امام مؤتمر حزب العمل "الاسرائيلي"، في مطلع نيسان / ابريل عام 1971، قال ايبا ايبان: "واجهنا الافناء زمنا طويلا، اما الان، فقد اصبحنا اسياد مصيرنا، ولن نخاطر بهذا الوضع" (39) .

وغير ذلك احاديث وتصريحات عديدة ظهرت في عدد من الصحف والمجلات "الاسرائيلية" (40) . الا ان العديد من القادة "الاسرائيليين" رفضوا منطق "خطر الابادة " هذا وصرحوا ان "اسرائيل" لم تكن، مطلقا، معرضة لهذا الخطر، قبل حرب حزيران، ومن هؤلاء:

أ ـ العميد الاحتياطي "متتياهو بيليد" استاذ تاريخ الشرق الاوسط في جامعة تلك ابيب، الذي صرح، في حديث له نشرته جريدة "هآرتس" "الاسرائيلية" 19/3/72، ان المقولة بان "اسرائيل" تعرضت، في حزيران / يونيو عام 1967 لخطر الابادة "خدعة ولدت ونمت بعد الحرب فقط"، وان "الاسرائيليين" لم يكونوا معرضين لهذا الخطر قبل هذه الحرب (41) .

ب ـ العميد الاحتياطي "عيزر وايزمن" الذي كان رئيسا لشعبة العمليات في الجيش "الاسرائيلي" خلال حرب حزيران / يونيو عام 1967، وقد وافق زميله "بيليد" على ان دولة "اسرائيل" لم تكن معرضة لخطر الدمار قبل هذه الحرب، وذلك في حديث له نشر في جريدة "عال همشمار" "الاسرائيلية" بتاريخ 20-3-1972 (42) .

ج ـ ووافق "يغال الون" الضابطين اللذين سبق ذكرهما على رأيهما في ان "اسرائيل" لم تكون معرضة لخطر الابادة عند شن هذه الحرب (حزيران 1967)، وذلك في حديث له نشرته جريدة "دافار" "الاسرائيلية" بتاريخ 15-6-1972 (43).

وهكذا نرى كم كان عامل "التعبئة النفسية والمعنوية" مهما وحاسما ومؤثرا في هذه الحرب، كما في باقي الحروب "الاسرائيلية" - العربية.

وتظل "التعبئة الاعلامية" احدى اهم ركائز "التعبئة النفسية والمعنوية" لدى "الاسرائيليين"، وقد لعبت التعبئة الاعلامية دورا مهما اساسيا في التحضير النفسي للعديد من القيادات السياسية في العالم كي تنحاز الى الصهيونية في سبيل انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، اذ استطاعت المنظمة الصهيونية ان تستخدم الوسائل الاعلامية، لهذا الغرض، لاستخدامها بارعا. واستمرت الدولة العبرية، بعد انشائها عام 1948، في استخدام هذه الوسائل، بالبراعة ذاتها، سواء، لتجييش الرأي العام العالمي الى جانبها، او لتحريض شعبها على التحفز للحرب.

ولم تغفل "بروتوكولات حكماء صهيون"، بدورها، أهمية الاعلام في تجييش الرأي العام العالمي واليهودي لمصلحة الأهداف الصهيونية فقد جاء في البروتوكول الثاني: "بواسطة الصحف، نلنا القوة التي تحرك تؤثر، وبقينا وراء الستار: (44) . وجاء في البروتوكول الثاني عشر: "ستكون حكومتنا مالكة مقود معظم الصحف... وبهذا التدبير، نكون قد امتلكنا القوة الاولى الموجهة للرأي العام" (45) .

وستظل الدولة العبرية معبأة للحرب نفسيا ومعنويا، ما دامت اطماعها بالارض العربية لم تنته، وما دامت تدرك جيدا ان الصراع بينها وبين العرب لن تنهيه معاهدات فرضتها، على العرب، ظروف من الضعف والتخلف والانهزامية لا يمكن ان تستمر، ذلك ان الصراع العربي "الاسرائيلي" هو، في جوهره واساسه، صراع وجود (بين عقيدتين) لا صراع حدود (بين دولتين).

 

الهوامش:

1)

LARTEGUY, JEAN, LES MURAILLES D'"ISRAEL", P. 46

2- العهد القديم، تث 20: 3-4

3- م.ن.تث 7: 17-19

4- م.ن.تث 9: 1-3.

5- م.ن.تث 5: 13-14.

6- م.ن.يش 11: 6

7- م.ن.يش 23: 9-10

8- م.ن.يش 23: 3

9- م.ن.يش 1: 5-6.

10- م.ن.تث 11: 25

12- م.ن.تث 31: 7-8

13- م.ن.تث 31: 23

14- م.ن.يش 3: 10

15- م.ن.ار 46: 28

16- م.ن.ار 50: 33-37

17- م.ن.ار 51: 1-3، وانظر: ار 50: 41-42

18- م.ن.ار 51: 6

19- م.ن.ار 51: 49

20- م.ن.ار 51: 58

21- م.ن.زك 14: 3

22- م.ن.زك 14: 12

23- م.ن.اش 62: 6

24- م.ن.اش 62: 1

25- م.ن. 2مك 15: 20-28

26- م.ن. 2مك8: 16-18

27- م.ن.2مك3: 58-59

29-

NARDISS, UZI, LA BATTAILLE POUR JERUSALEM, P. 292

30- م.ن. 2اخ 20: 15 واش 37: 36.

31- م.ن.يش 5: 13-14 ويش 6: 2

32- م.ن. 2مك 10: 29-30

33- م.ن. 2مك11: 8

34- صدر العقيد شاول مقالة عسكرية له عن "أجهزة ضبط النيران في الدبابات" بقصة المبارزة التي جرت بين داود وجليات، كما وردت في العهد القديم، اذ جاء فيه: "ومد داود يده الى الكنف واخذ منه حجرا وقذف بالمقلاع فاصاب الفلسطيني في جبهته، وانغرز الحجر في جبهته فسقط وجهه على الارض، وظفر داود بالفلسطيني بالمقلاع والحجر، وضرب الفلسطيني وقتله، ولم يكن في يد داود سيف" ,1 صم 17: 49-50) (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، امن "اسرائيل" في الثمانينات، ص 154).

35- الون، يغال، انشاء وتكوين الجيش "الاسرائيلي"، ص 169-170.

36-

LARTEGUY, OP. CIT. P. 6

37- نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عدد 1/7/1972 ص 396

38- م.ن. عدد 16/6/1972 ص 356

39- اليوميات الفلسطينية، مج 13 ص 373

40- انظر بحثنا الذي نشر عن "الاستراتيجية العسكرية "الاسرائيلية"" في الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، المجلد السادس، ص 406-408.

41- نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عدد 1/4/1972 ص 178

42- م.ن. عدد 1/4/1972 ص178

43- م.ن. عدد 1/7/1972 ص 385-196

44- نويهض، عجاج، بروتوكولات حكماء صهيون، مجلد 1: 191 (البروتوكول الثاني).

45- م.ن. مجلد 1: 235 (البروتوكول الثاني عشر).