الصهيونية وتشويه التراث العربي
جودت السعد
باحث اردني متخصص في الشؤون "الاسرائيلية"
مقدمة:
لا بد بادئ ذي بدء من التساؤل عن ماهية الثقافة المطروحة للدارسة، هل هي ثقافة عبرية ام "اسرائيلية" ام يهودية ام صهيونية، والوقوف لحظة تأمل على صيغ مدرسية تسعى إلى تجسير هذه المفاهيم، باعتبارها "مترادفات" موحدة المدلولات بالنسبة للصهيونية. بل ان التداخل بينها يمارس كحالة اعتيادية عند الكثير من الكتاب العرب والمؤرخين منهم على وجه الخصوص. فكم كاتب يأخذ بالصياغة اليهودية "الهادفة" مثل السامية التي تنساب إلى عقول العرب وغير العرب وكأنها حالة تاريخية صحيحة في حين ان اللفظة نحتها الباحث الالماني شوالتزر عام 1981م للدخول إلى لوائح الامم الاسطورية الواردة في التوراة.
لقد سطت الديانة اليهودية على آلهة سكان العراق القديم وبلاد الشام ومصر، فعبدت ايل، وتموز، دجون، بعل، عشتار وغيرها بل سطت على المفاهيم الدينية والالفاظ والمناسك والاطر العامة لكثير من الديانات فالديانات اليهودية بالمحصلة فرعونية ـ آشورية ـ بابلية ـ كنعانية.
بدأ السطو على تراث المنطقة من قبل اليهود ـ بعد تأسيس اليهودية وكتابة التوراة ـ في القرن السادس ق.م وما بعده، فكانت الاسفار الاولى سرقات للثقافة العربية القديمة واساطيرها، او تشويه، لفلسفة الحياة التي كان يؤمن بها انسان ذلك العصر.
شوهت الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية واحيانا سطت على مفهوم العابيرو ساعدها الباحثون التوراتيون على هذا التشويه او السطو، وهم يعتبرون العبريين انفسهم العابيرو. والعابيرو او الخابيرو لفظة غير اكدية ربما استقرت في الاكدية وغيرها من اللهجات العربية قادمة من اللغة السومرية وقد وردت بهذه القراءة في مخطوطات ماري ورسائل العمارنة وبعض المسلات المصرية يرادفها لفظة (سار جاز) في المصادر الاشورية والبابلية ونعني " قطاع الطرق والمرتزقة" (1)
اطلق اسم العابيرو لاول مرة على المحاربين من نارام ـ سن سنة 2170ق.م من ملوك السلالة الاكدية القديمة. وذكر الاسم ثانية في رسائل ماري في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، والواح نوزي في القرن الخامس عشر ق.م وهذا يدل على ان جذور حركات الخابيرو كانت في العراق ولم تأت من مصر.
وهر مصطلح خابيرون Ha-bi-ru في رسائل العمارنة المكتوبة باللغة الاكدية وبالخط المسماري، وقد اهتز الباحثون التوراتيون طربا وظنوا انهم وضعوا ايديهم على مادة تاريخية تؤكد ما يؤمنون به او ما تذكره التوراة من وجود العبريين.
الباحث (ادوارد كامبل) يطابق كلمة خابيرو حي كتابتها باللاتينية Hcbrcw مع كلمة عبري Hcbrew المكتوبة بالحرف اللاتيني ايضا ليخرج بنتيجة متسرعة وفجة بناء على هذه المقارنة ان الخابيرو هم العبريون. ويرى البرفسور (سايس) A. Henry cayce ان فكرة العابيرو ليست ظاهرة اتحاد بين مناوئين للفرعون، بينما يرى (بترييه) W.M. Flinders Pctric ان كلمة خابيرو مشتقة من كلمة حبرون (2) لكن (كوندر) يرى ان كلمة خابيرو لا تعني الاتحاد ولا يمكن استخلاصها من الحبرونيين لعدم وجود الحرف النون في الاسم.
وتساءل (ايميل كرينغ) Emill G.Kracing على لسان احد الباحثين عن وجود فارق بين كتابة وقراءة Hapiru في رسائل العمارنة وكتابة وقراءة Apcru في الالواح المصرية (مسلة سيتي الاول في بيسان) فمن الواضح ان الاجابة عن هذا التساؤل ستجعل استنباط العبريين من اللفظة صعبا وستكون اسس التشييد فوقها اصعب بكثير.
تؤكد رسائل تل العمارنة ان حركة العابيرو بدأت بالزحف من منطقة حلب وشمال سوريا متجهة نحو الجنوب، حيث سيطر (عبد عشرتا) وهو ملك عموري غير مختلف فيه. (فعشرتا) هي احدى الآلهات الخاصة بالعموريين. وقد كان جادا في انشاء دولة امورية عربية في سورية تقف في وجه فراعنة مصر وحثيي آسيا الصغرى.
سعت الحركة الصهيونية إلى ركوب موجة المكتشفات الاثارية وتجنيدها لخدمة الأهداف اليهودية الدينية والاغتصابية وتشويه كل ما يتناقض معها. فبعد ان عثر احد الاطفال العرب صدفة على مخطوطات في احد كهوف التلال الواقعة على شاطئ البحر الميت عام 1947، قامت الدنيا ولم تقعد، حتى الان، واعتبر هذا الاكتشاف من الإنجازات التاريخية العظيمة التي سترسخ المفاهيم الصهيونيةـ التوراتية وتعطى الحجة المادية على طروحاتها، واخضعت "مخطوطات البحر الميت" للدارسة المعمقة وصدرت مئات الكتب في أطراف الأرض التي تؤذن "للحقيقة التوراتية"، فخطفت الاضواء عن "مخطوطات الجنيزا" التي عثر عليها اثناء ترميم كنيس عزرا في القاهرة عام 1896.
معظم مخطوطات البحر الميت كتبت بلغة اطلق عليها احد الباحثين "لغة سورية قديمة" وباختبارات الراديو ـ كاربون على غطاء الكتان تبين ان عمرها يتراوح بين 168ق.م إلى 233 ميلادية (3) ، ويرى الباحثون ان المخطوطات تعود إلى الفرقة الدينية المعروفة باسم "الاسينيين" واستنتجوا ذلك من وجود مجموعة من القبور لذكور ليس بينها نساء، كما ان سفراستير غير موجود بين المخطوطات مما يؤشر استبعاده قصدا لان هذه الفرقة لا تقبل النساء بين صفوفها وقد ايد هذا الطرح عدد من الباحثين منهم سومر، A.Dupent- Sommer ووليم اولبرايت.
يقول البروفسور (يوجين الريخ) من جامعة توتردام والمحاضر في معهد روكفلر في القدس: ان ما نشر من مخطوطات البحر الميت قد تعرض للتسرع والخطأ، وان 75% منها يعتروه الشكوك، واول من يتحمل مسؤولية ذلك الباحث (جوزيف فيليك) الذي عمل عشرات السنين في دراسة هذه المخطوطات. (4)
اهم المناحي التي اخترقها اليهود المنحى اللغوي: فمن المعروف ان اللغة الآرامية ـ وهي احدى شعب العربية ـ سيطرت على التعامل الدولي من الهند حتى مصر بعد ان ازاحت الاكدية كلغة تعامل، وقد تبنى عزرا احدى اللهجات الآرامية واعتبرها المقدسة لتكون البديل عن اللغة "الكنعانية" "النجسة".
فعندما دخل اليهود ارض كنعان ـ كما تدعي التوراة ـ تحدثوا بلغة أهل البلاد الكنعانيين والأصح انهم تعلموها لإنجاز مهمة أوكلت إليهم من قبل الفرعون تتعلق بحالة الغليان والثورة التي كان يقودها العموريون بقيادة عبد عشرتا وولده عزير والدليل على عدم وجود لغة تحمل اسم العبرية ان هذه اللفظة لم تذكر بكل اسفار التوراة، التي كتبت بعد القرن الرابع ق.م الا بصيغة "اللغة المقدسة". وحتى الحوار الذي تذكره التوراة بين القائد الموالي للاشوريين (الربشاقى) وبين رجال حزقيا لم يرد ضمن أي نص او حوليه لسنحاريب والذي حصل هو المزاوجة بين الرواية كما اوردتها الحوليات وما جاء في التوراة ـ كنوع من التشويه ـ فالحوليات تذكر اخبار الحرب بينما الباحثون الغربيون ذوو الخلفيات التوراتية يفسرون النصوص المسمارية تلك على ضوء ما ورد في التوراة. ومن اهم الكتاب الذين درسوا حملات سنحاريب الباحث (لوكنبل) D.D Luchcnbill ( دانيا ديفيد لوكنبل)، لكن قراءة ولو سريعة لكتاب سنحاريب الذي اعده هذا الباحث ستظهر مدى اعتماده على التوراة في تفسير الأحداث، فعلى سبيل المثال يرد بالنص الاكدي جملة "حزقيا من يهوذا" فيترجمها الباحث إلى الانجليزية Uczekia The Jew ( حزقيا اليهودي)، ومن المؤكد ان المعنى في العبارتين مختلف تماما، فالنص الاكدي يشير إلى مكان كان فيه حزقيا وهذا المكان هو يهوذا كموقع جغرافي معروف وهو الاسم المرادف لمنطقة أورشليم، بينما النص الانكليزي فيربط حزقيا بالديانة اليهودية التي لم تكن قد تبلورت ولم تذكر بالاسم في التوراة ايضا.
اما النص الذي اعتمده الباحثون التوراتيون لإثبات وجود اللغة العبرية فهو: " وقال الياقيم حلقيا وشبنه ويؤاخ لربشاقى، كلم عبيدك بالارامي لاننا نفهمه ولا تكلمنا باليهوذ في مسامع الشعب الذي على السور" (5) لكن الربشاقى ـ وكما تقول التوراة ـ هو من (لخيش) (6) وهي المعروفة بمنطقة (تل الدوير) اليوم وبذلك تتوضح الصورة فلخيش منطقة قرب يهوذا ومحاذية لها وسكانها لا بد ان يكونوا كنعانيين كما هو الحال في يهوذا، فاذا صحت الرواية التي وردها التوراة وتحدث الربشاقى بلغة غير الآرامية فستكون الكنعانية وهي لغة المنطقة، ما ان تتحول الكنعانية إلى العبرية كما يفعل كثير من الكتاب الغربيين وعلى رأسهم وليم اولبرايت الذي يتعمد كتابة (اللغة العبرية) بين قوسين كلما وردت اللغة الكنعانية للايهام انها نفسها.
ويؤكد المؤرخ اليهودي (ابراهام بن يعقوب) ان الذين سباهم الملك الاشوري كانوا يتكلمون الآرامية (7) وهذا يتناقض مع نص التوراة آنف الذكر. فاذا عدنا إلى احداث التوراة نجد ان :
1 ـ محادثات موسى (ع) وهارون مع الفرعون وتكرارها مرارا تدلل انها ـ اذا حصلت ـ فلا بد من ان تكون باللغة المصرية بحكم تربية موسى في البلاط الفرعوني.
2 ـ ان مكوث من تسميهم التوراة الموسويين 430 سنة في مصر (من عصر يوسف وحتى خروجهم مع موسى) يجعلهم مضطرين إلى تعلم اللغة المصرية والتحدث بها، اذا لم تكن لغتهم الاصلية.
3 ـ عدم ورود أية اشارة ولو تلميحا إلى معرفة اليهود أية لغة غير المصرية في اثناء مكوثهم في مصر.
4 ـ اللغة التي تحدثوا بها عند دخولهم إلى كنعان كانت الكنعانية كما قالت التوراة ذلك صراحة.
يقول الباحث ماكلستر R.A.S Macalister : " ان اليهود تكلموا لغة كنعان وخدموا آلهة كنعان (8) فمن الحرف الكنعاني اشتق الحرف الآرامي الذي تطور عن الفينيقي. والنصوص الآرامية القديمة لا تختلف عن الفينيقية من القرن الحادي عشر ق.م حتى القرن السابع ق.م ثم اخذ بالتمايز بسماته الخاصة بعد ذلك. وقد تحدث (عزرا) وجماعة السبي بإحدى اللهجات الآرامية واستعار الحرف الآرامي وسماها "اللغة المقدسة" ومع مرور الزمن تغلب اسم العبرية على الآرامية، وكان ذلك في مرحلة متأخرة جدا. ويقول البرفسور (درايفر) G.A. Driver استاذ اللغة العبرية في جامعة اوكسفورد في مقالة له في دائرة المعارف البريطانية ان كلمة عبري وعبراني هي صياغة من قبل حاخامي فلسطين في وقت متأخر والدليل على ذلك ان كلمة عبري لم تكن مستعملة في روسيا للدلالة على اليهود الا بعد القرن الخامس عشر الميلادي.
ويقول الباحث (هيرمان ستراك) ان موضوع التقديس والدنس بالنسبة للغة العبرية ليس له علاقة بجوهر الاحداث، فاليهود الذين يكنون الكره للكنعانيين اعتبروا اللغة الكنعانية (رغم استعمالها مدة طويلة) لغة دنسة بينما اعتبروا الآرامية لغة مقدسة. (9)
ويؤد الباحث "الاسرائيلي" (موشيه ديفيد كاسوطو) ان بني "اسرائيل" تعملوا طرق الفن نتيجة وجودهم بين امم كبيرة، بين المصريين من جنب والبابليين من جانب آخر. ويقول : "واللغة العبرية ليست سوى لهجة انفصلت عن الجذع الكنعاني، وهذه الفرضية لا يمكن دحضها .(10)
لقد شوه اليهود كل ما يتعلق بقيم وتراث الشعوب وافكارهم فتغلغلوا في الديانات وخربوا جوهرها وعملوا في الاحزاب الاممية إلى درجة القضاء عليها.
اصدر (اسحاق ابيشور) الاستاذ في الجامعة العبرية كتابا عام 1982 تناول فيه ما اسماه "الاهازيج اليهودية في العراق" ورغم ان الكتاب صدر بالعبرية الا ان نصوص الاهازيج كانت بلغة مشوشة ومختلفة بالعربية، والاهازيج سرقة علنية للتراث العربي في هذا المجال، فالعراقيون مازالوا يتغنون بها ويتلونها في اثناء مواسم زيارة المراقد والاضرحة وهي نفسها اقتبسها اليهود وهم يزورون قبور انبيائهم وحاخاماتهم مع تغيير الاسماء… فبدلا من الحسين بن علي(ع) يذكر عزرا وحزقيال العباس بن علي بين ابي طالب (ع) وهكذا.
تركز الآلهة العنصرية على تشويه تراث "الاخر" عن طريق التربية الموجهة للاطفال اليهود الذين يحصلون على حيز واسع من التوجيه عن طريق الصحافة والتلفزيون والراديو والسينما والمسرح اضافة للتدريس، واهم القضايا التي تطرحها هذه المؤسسات انهم افضل من غيرهم، لانهم ابناء الشعب المختار، وانهم فوق الجميع وتماديا في الهر والسطو على القيم والتراث كان كبار العنصريين الصهاينة هم الذين انتدبوا انفسهم لموضوع تربية الطفل اليهودي وتوجيهه، فالصهيونية المغرقة في عنصريتها (جيئولا كوهين) عضو الكنيست السابق عن حزب "هاتحيا" متخصص في الكتابة للاطفال اليهود. كما ان (مائير كاهانا) كان ايضا كاتبا للاطفال. وليس مستغربا ان صحيفة هاتسوفيه وهي الناطقة بلسان حزب المفدال الديني تصدر ملحقا اسبوعيا واسعا خاصا بالاطفال، وكذلك صحيفة هاموديع الدينية. والتشويه ليس مقتصرا على التاريخ الحديث بل شمل الادب العربي منذ ما قبل الاسلام.
فكلنا قرأ المقولة " مروءة السموأل خلدت فكره" وهي مقولة وفكرة سربها اليهود إلى الفكر العربي عن طريق حفيد السموءل (دارم بن عقال) والتي تظهر ان السموءل هو يهودي اسمه (صموئيل) رفض تسليم "الامانة" التي وضعها الشاعر امرؤ القيس عنده قبل ذهابه إلى القسطنطينية، ويرفض السموءل ـ كما تقول الرواية اليهودية ـ تسليم الامانة للحارث بن مظالم مما ادى إلى قتل ابنه. والحقيقة ان امرأ القيس استدان اموالا بالربا من السموءل مقابل رهن دروع ونساء واولاد. وقال الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان ان السموءل رفض تسليم هذه الرهينة للحارث الا اذا دفع له ماله الذي اقرضه لامرىء القيس. مما ادى إلى قتل ابنه ليس مروءة بل بسبب حبه للمال اكثر من ولده.
ويواصل اليهود تشويه وسرقة الذات، فقد اتيحت لي فرصة الاطلاع على اعداد من مجلة Bublical Arcologist وفيها يظهر الزي الفلسطيني المعروف بالثوب الفلسطيني الذي يتميز بالتطريز والتزريق على انه تراث يهودي، كما ذكرت بعض الاكلات الشعبية مثل الفلافل والبصارة والمجدرة على انها انحدرت اليهم من جدودهم الاوائل.
الهوامش:
1ـ The Assyrian Dictionary. Chcago 1956 Vol 6
2 ـ W. Flinders Petric, History of Eygpt p. 315
3 ـ Edmand Wilson, The Dead Sea Scrolls 1969 p. 54-55
4 ـ J.A. Sanders, The Dead Sea Psalis Scrolls 1965
5 ـ الملوك الثاني 26:18
6 ـ الملوك الثاني 17:18
7 ـ الطوائف اليهودية في كردستان. ابراهام بن يعقوب. القدس (عبري)
8 ـ A Century of Excavation In Palestine p.161
9 ـ Humann L. Strack, Hebraica Vol 2 Number 1 Octo 1885. July 1886 p 214
10 ـ الالهة عنات (عبري) ص 19.