ما بعد الانسحاب الإسرائيلي
الصهيونية بين الواقع والأسطورة
عدنان حب الله
السفير 22/8/2000
والآن بعدما انحسم الصراع، وتم الاندحار الاسرائيلي وانهار مبنى العملاء، بعد ان أمضت إسرائيل عشرين سنة على تأسيسه، كيف ستتعامل إسرائيل مع هذا الواقع الجديد؟ وكيف ستوفّق بينه وبين الصورة الاسطورية التي كونتها عن نفسها: بأنها <<جيش لا يقهر وشعب لا يقهر>>؟
فـ "الشعب الاسرائيلي "بحاجة ماسة الى هذه الاسطورة البطولية، ونراه في كل مناسبة تعرضت فيها إسرائيل الى الخلل، يحرك آلتها العسكرية وبصورة خاصة طيرانها، لكي يضرب من دون رحمة، يترك وراءه المآسي والدمار والخراب، لشعب جريمته الوحيدة ان الآخر فرض نفسه عدوا له واستباح أرضه وحقه في الحياة.
مما لا شك فيه ان الحملة الاسرائيلية في لبنان قد شوهت صورة جيشها أمام مواطنيها وقد أدت الى انهيار مشروع عشرين سنة من العمل المستمر، تلاعبت خلالها عبر عملائها على جميع التناقضات اللبنانية، والإغراءات والوعود والتهديد والتهويل والتسليح وزرع الفتن، وعدم الانتفاضة في صفوف اللبنانيين. كل هذه الخطط المرسومة باءت بالفشل، وتبين في آخر المطاف، وهذه عبرة لمن يعتبر، ان كل من يتعامل مع إسرائيل نهايته ستكون محزنة، لأن إسرائيل لا تأخذ بعين الاعتبار الا ما يخدم مصالحها. وكل ما هو معاهدات وصداقات وعواطف ودعم، ليست إلا حسابات تدخل في ترقيم الكمبيوتر كما تخرج منه.
ففشل هذه الاستراتيجية، الى جانب فشلها العسكري، يشكل تطورا مهما في الصراع الدائر، لا يقل أهمية عن أي انتصار عسكري.
وهذا ما يبين النضوج السياسي للشعب اللبناني وإدراكه أكثر من غيره البعد الفكري للمشروع الاسرائيلي. وكي أكون صادقا مع التاريخ يجب ان أشيد بالدعم السوري للصمود اللبناني، ويعود الفضل الى حنكة، وذكاء، وبعد الحس السياسي، وإتقانه للعبة الاستراتيجية وإخلاصه للقضية القومية العربية التي لم تغب عن ذهنه، للرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي وقف باستمرار الى جانب لبنان ليجنبه المطبات والخدع التي كانت تحيكها إسرائيل باستمرار. حتى ولو اعترفنا بأن الرئيس الاسد كان يخطط الى أبعد من ذلك وهو تحرير الجولان.
وأمام بوادر فشل مشروع اختراق الصف اللبناني في الداخل، لم تجد إسرائيل سوى تحريك آلتها العسكرية لتضرب المنشآت الحيوية اللبنانية، انتقاما من الشعب اللبناني بأكمله دون التمييز بين طوائفه. فأتت النتيجة معاكسة لما كانت تتمناه وتنتظره، فانتفض المجتمع اللبناني صفا واحدا ضد الاعتداء والعدو، وتجلت عنده روح وطنية جامعة تشد أفراده بعضا الى بعض، وتحرك الشارع العربي لكي يؤازر الوحدة الوطنية، ويستنكر الاعتداء. لأن انقطاع التيار الكهربائي لم يكن تحيزا بين مسلم ومسيحي.
وهكذا خرج لبنان بفضل المقاومة وبفضل صمود شعبه رافع الرأس مسجلا تحولا تاريخيا في الصراع العربي الاسرائيلي.
السؤال الآن: كيف ستتصرف إسرائيل أمام هذا الفشل الذريع الذي يؤكده اندحارها؟
هنالك احتمالان، اما ان يدفع سياسيوها في حال تبنوا البرغماتيكية السياسية اي إدخال هذا الواقع الجديد في حساباتها، وإما التخطيط لانتقام شنيع، تغلب عليه روح الاستعلاء والاستكبار والقفز الى واقع الخيال الاسطوري النرجسي.
شاء القدر ان يكون تحقيق بناء إسرائيل في جيلنا الحاضر من بقية الأجيال. فكتب علينا العذاب والظلم والتحدي والمقاومة لمحاربة هذا الاغتصاب التاريخي؟
كيف يمكن ان نتعامل مع هذه الحال الاسرائيلية؟ وهل سنبقى دائما في حالة قلق وانتظار وترقب الاحداث؟
الواقع يفرض علينا ان نكون واقعيين: فصراعنا مع إسرائيل طويل الأمد وقد يمتد لأجيال عدة، كما حدث لاجتياحات سابقة في التاريخ مثل التتر (المغول) والصليبيين. ولكن خلافا لهذه الاجتياحات، فإسرائيل تدخل معها تحديا حضاريا، ومشروعا ثقافيا غربيا، أصبحنا ملتزمين به تجاه العالم الحديث؟ فإما ان نخلي ساحة المعركة ونعود الى الماضي لنحتمي به من مواجهة الحاضر، وإما ان نرفع التحدي وندخل المعركة مسلحين بحضارتنا وثقافتنا.
من هنا يتبين لنا أنه الى جانب المقاومة العسكرية هنالك وهي لا تقل أهمية، المقاومة الثقافية والعلمية أي رجال الفكر ورجال العلم والاعلام هم رجال المقاومة في المستقبل. وعليهم يتوقف مصير الأجيال أمام هذا المد العولمي للحضارة التقنية الحديثة.
الخطاب السياسي يركز بصورة خاصة على الصراع العسكري واغتصاب الأرض وحقوق الشعب، ويتجاهل المشروع الثقافي والحضاري وتأثيره على المجتمعات العربية في المستقبل.
إسرائيل تحمل بالإضافة الى مشروعها الصهيوني، مشروع الحضارة الغربية دون التمييز بين مساوئها وحسناتها. فهي كما نعرف تحظى بتأييد غربي وأميركي شامل. وأسباب هذا الدعم يعود لأسباب عدة: منها مرتبط بتاريخ اليهود في أوروبا والشعور بالذنب الناجم عن الاضطهاد والتشريد، وبصورة خاصة محارق النازية التي جعلت كل أوروبي مسؤولا عنها، ومنها ما هو متعلق بالمشروع الثقافي والحضاري الذي تعتمده إسرائيل. فهي تعتبر بنظر الغرب الوحيدة التي تتمتع بنظام ديموقراطي، يبشر بالقيم الحضارية الغربية. ومما يدعم هذا الموقع سياسة اميركية أوروبية لحفظ المصالح الاقتصادية، بالإضافة الى سيطرة النخبة اليهودية على التحكم بالإعلام والاقتصاد، مما يمكنها من تمويه الحقائق كلما سنحت الفرصة.
فإسرائيل تتحرك ضمن لعبة تعرف قوانينها، وتتقن فنونها. فهي تستطيع متى تشاء ان ما شعرت بالخطر المحدق بأن تخاطب الضمير الأوروبي والاميركي وتحرك الشارع باتجاه دعمها.
فمثلا في حرب الخليج، فان الاعلام الغربي يتحدث بإسهاب عن <<تهديد إسرائيل والخوف الذي يطال شعبها أكثر مما يتحدث عن دولة الكويت، وهي الدولة المحتلة والمشرد شعبها>>.
فكرة بناء إسرائيل نشأت في أواسط القرن التاسع عن طريق Hiss أستاذ كارل ماركس، والتي تبناها Herzel فيما بعد.
فهي فكرة أتت من منطلق الفكر الغربي، مطابقة لتطلعات يهود الغرب، أي ان هجرة يهود الشرق إلى إسرائيل كانت نتيجة وليست سببا.
ومن هنا تكمن المشكلة الأساسية مع العرب.
فإسرائيل لها مشكلة واحدة مع العرب. أما العرب فمشكلتهم مع إسرائيل مزدوجة:
أولا: الاعتداء الاسرائيلي واغتصاب الأرض والحقوق.
ثانيا: مشكلة إسرائيل مع نفسها.
إسرائيل موحدة طالما هناك صراع عربي إسرائيلي. أما في الداخل: فكل المعلقين يؤكدون بأنه لا يوجد رباط او تواصل ثقافي او رؤية واحدة لفلسفة الوجود: ما بين اليهودي الغربي واليهودي الشرقي او اليهودي الروسي، او الفلاشا أخيرا، وخطر إسرائيل بأنها كلما شعرت بتهديد الانفجار الداخلي، نقلت الصراع الى الخارج، لكي تطلب من العرب بحربهم معها، من ان توحدهم في الداخل.
نقطة الضعف الأساسية في إسرائيل تكمن في غياب مشروع ثقافي وحضاري موحد خاص بها. كل فريق يحمل ثقافة البلد الذي نشأ فيه. لذلك عندما أسست دولة إسرائيل أسست على نمط الانظمة الغربية، لأن حكامها كانوا جميعا من Arkarous. والتراث الثقافي كما يعرف في البلدان العريقة له جذور تعود الى آلاف السنين، من شعر وأدب وفلسفة ولغة وعلوم وعادات وموسيقى وطقوس، الخ... كل شخص هو امتداد أفقي لتاريخه وامتداد عمودي لمعاني وجوده. فإسرائيل تحاول بشتى الوسائل إخفاء هذه الحقيقة عن نفسها، اي غياب التراث الحضاري والثقافي، وتتوهم عبر مفكريها ووسائل إعلامها كما لو ان التاريخ لم ينقطع منذ ألفي سنة حتى الآن.
لا يمكن ان يبنى تراث حضاري خلال خمسين سنة، كما لا يمكن القفز فوق تواصل التاريخ في كتابة حضارة الشعوب. فإسرائيل لا زالت حبيسة نصها الديني التوراتي عند حدود النص المقدس يكمن العنف المتولد، لأنه يخلط ما بين الأسطورة والواقع، ولا يقبل المناقشة او التسوية. وهذا الواقع ناجم حسب تعريف هيجل عن تمخفض التاريخ. والنص المقدس المعتمد في تبرير بناء إسرائيل، هو كناية عن وقف عجلة التاريخ والقفز فوق كل سياقه خلال ألفي سنة، كما لو أنها لم تحصل او لم توجد وللتاريخ قوانينه وحقائقه وهي ليست ملك جيل او أجيال، وإنما ملك تحرك الزمن ضمن السياق التاريخي.
المشكلة مع إسرائيل ليست فقط مشكلة حدود، إنما مشكلة كيف سنتعامل مع التاريخ ومع الحضارة الناجمة عنه.
ما من شك ان هنالك علماء من أصل يهودي في الغرب قد ساهموا مساهمة فاعلة في تطوير الحضارة الحديثة. ولكن هل يعتبر هؤلاء جزءا من الحضارة الغربية نموا ؟ أم يتبعون للحضارة اليهودية وهم لم يعرفوا او يتكلموا حتى لغتها؟
لذلك نرى العديد من المحاولات الاسرائيلية الحديثة، للاستعانة بالموسيقى والألحان العربية، وحتى استلابها بغية تكوين ثقافة موسيقية خاصة بهم وحتى اقتناء بعض العادات والتقاليد العربية بغية خلق تيار شعبي مميز.
والمشكلة التالية التي تواجه شعب إسرائيل بالتعامل مع العرب او في اي مكان وجدوا هو النص الديني الذي يقول: ان الشعب اليهودي هو شعب الله المختار؟! وهذا حكما اذا آمنا بهذا النص فانه سيؤدي: إلى أرض الله المختارة، اي الارض المقدسة، اي ان المعادلة تصبح: شعب الله المختار على قياس أرض الله المختارة.
هل هذا النص هو الآن واقع أم أنه أسطورة تطغى على الواقع؟
سؤال يجب مناقشته لأنه قد يفسر لنا الكثير من المتناقضات ويبين لنا الأبعاد النفسية الإسرائيلية إذا ما اعتمدته كواقع او اعتمدته كأسطورة، لأن هذه العلاقة المميزة مع يهوه، تجعله عرقا مميزا عن بقية الشعوب وله حقوق وواجبات عليها دون العكس.
والخلاف الكبير بين الدين اليهودي والأديان السماوية: المسيحية والاسلام، ان الدعوة الى وحدة الخالق هي دعوة محصورة في حدودها العنصرية. والهوية الدينية هي نفسها الهوية القومية والهوية العنصرية. أما بقية الأديان فقد انتفضت على هذه الدعوة المحصورة في إطارها العنصري، وتحولت الى التبشير الإلهي والمساواة بين البشر في عبادة الخالق. وقد ذهب الاسلام الى تجريد العربي من نرجسية انتمائه، الى وضع التميز والافضلية بينه وبين الاجنبي في التقوى.
فهذا التميز الآتي من وراء السماوات، يترتب عليه الكثير من النتائج التي تتحكم بنظرة اليهودي لنفسه وللغير.
ونتيجة هذا المعتقد الذي يميز الشعب الاسرائيلي ويستفز الآخرين في محاربتهم لا يزال سائدا حتى الآن في عقول بعض المفكرين والعلماء.
ففي حرب الخليج سمعت الكثيرين المفكرين، يتداولون فكرة: ان الله حفاظا على شعبه قد كرس جميع شعوب العالم حتى أعدائه لكي يدافعوا عنه، دون ان يطلق رصاصة لأن هذا الشعب هو المحبب والمميز والمختار عند الله.
وأتساءل هنا كيف يمكن التعامل مع هذه النظرة العنصرية التي تحاول ان تظهرنا بشكل متخلف ومهما تقدمنا نبقى دون مستوى فهمها وعلمها لأنها إرادة إلهية.
هنا نقطة النهاية والبداية: عندما يختلط الأمر بين الأسطورة والواقع عندئذ يصبح العنف ثالثهم.
لذلك أقول: ان صراعنا المستقبلي مع إسرائيل سيكون صراعا فكريا ثقافيا وحضاريا.
واذا كان هناك وزارة للمقاومة فأنا أقول بأنها ستكون وزارة الثقافة. والمقاومة في المستقبل، ستكون مسؤولية رجال الفكر والعلم والدين المستنير. مما لا شك بعد حل عقدة الخوف من الديمقراطية .