تحولات الاستراتيجية الاسرائيلية في جنوب لبنان 1993-2000
نهاية الجدار الطيب
محمود ابراهيم حيدر
باحث وصحافي لبناني
الاتحاد الاماراتية 8ـ9/8/2000
تهدف هذه الدراسة الى مقاربة للتحولات التي طرأت على الاستراتيجية الاسرائيلية في لبنان· ضمن الفترة الممتدة من 1993، وهي السنة التي شهدت صيفاً مدوياً في ما عرف حرب تصفية الحسابات، مروراً بالعام 1996 الذي شهد هو الآخر ربيعاً أكثر عنفاً وتدميراً بالحرب التي شنتها اسرائيل وعرفت بـعناقيد الغضب وصولاً الى السجال الذي احتدم حتى الشهور الأولى من العام 2000 داخل المجتمع الاسرائيلي الذي تمحور حول وجوب البحث في سبيل مناسب لمغادرة جغرافية الموت في جنوب لبنان، وصولاً الى الانسحاب المدوي في الرابع والعشرين من مايو/أيار المنصرم·
لم تكن حصيلة السنوات المنقضية على الاحتلال المستمر لجنوب لبنان سعيدة بالنسبة الى اسرائيل· فلا حرب تصفية الحسابات في يوليو/تموز 1993 ولا حرب عناقيد الغضب في ابريل/نيسان 1996 افسحتا في المجال لادخال لبنان في سلام سياسي معها وعلى طريقتها··· ولا تيسّر لاستراتيجية الامن الاسرائيلية المتحركة ان تعثر على مخرج ناجز ومريح يمكّن جيش الاحتلال من الحفاظ على خرائط انتشاره بالحد الأدنى من الأكلاف والخسائر· الذي حصل هو استغراق بعيد في دوامة الاحتلال، مع ما استتبع ذلك من ادامة لحروب الاستنزاف، ومن تواصل لحركة المقاومة بفاعلية ملحوظة·
في حربي يوليو/تموز 1993 وابريل/نيسان 1996، سعت العسكرية الاسرائيلية للخروج من انضغاط مجال المناورة، لكنها لم تفلح· فقد استمرت حرب الاستنزاف، وبلغ الانقسام في الرأي العام الاسرائيلي درجة باتت تهدد الاجماع القومي الذي يعد من الثوابت العليا ل (ا لدولة العبرية ) منذ نشوئها· ثم عاد السجال لينطلق من المعادلة التي بدت فيها دواعي الانسحاب ومغادرة لبنان مساوية لدواعي البقاء واستمرار الاحتلال·
لقد ظهر الخط الاسرائيلي في التعاطي مع لبنان على صورة متوالية هندسية مركبة الاتجاهات· وهو غالباً ما حدا بالخبراء الى توكيد الحقيقة الاستراتيجية الآتية: لقد اصبح جنوب لبنان مبعث حيرة بالنسبة الى القيادة الاسرائيلية وسيزداد الامر حدة وكثافة كلما مر الوقت على حرب الاستنزاف أو ندرت الفرص الى مخارج أمنية وسياسية وعسكرية توفر لاسرائيل القدرة على فرض الأسماء التي تريدها في مقابل الخروج من الأراضي اللبنانية المحتلة·
سبق وعبّر الخط الاسرائيلي عن نفسه بالاكثار من مشاريع وخطط الانسحاب الاّ ان واحداً منها لم يفارق الغاية الأصلية التي حملت فريقاً واسعاً من الجنرالات والمسؤولين على الاجتهاد في تقديم النموذج الانسحاب الأقل إيلاماً وتكلفة· وبدا هذا واضحاً في الشبكة الواسعة المتحركة من المواقف الداعية الى الانسحاب من طرف واحد، والتي ظهرت على قوتها واتساعها منذ اليوم الأول لولاية رئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي، ايهود باراك·
الا ان الجدل الاسرائيلي حول لبنان لم يستقر على رؤية موحدة وواضحة على امتداد الفترة التي انقضت على وجود باراك في السلطة· كل الذي حصل، هو توسع في مجال المناقشة لاطروحة الانسحاب، حيث اظهر الزعيم الاسرائيلي الجديد قدرة اكبر على صوغ خطاب ممتليء بالغموض، ومكتظ بلفظية سياسية غايتها ستر الآثار المترتبة على استحالة اخذ قرار حاسم بالانسحاب في ظروف غير مناسبة ووقف غير ملائم· كما لو ان الاحساس بـانفلات عنصر الزمن من دائرة السيطرة أخذ يتحول الى ظاهرة مؤثرة تعبّر عن نفسها بالطرائق المتعددة التي تدار فيها لعبة الاحتلال في جنوب لبنان·
ويمكن القول ان خطاب الانسحاب الذي بلغ ذروته في أواخر عام 1999 ومستهل عام 2000 ينطوي في حقيقته على غاية سياسية تقتضيها لعبة تمديد الزمن مع ان ضرورات الانسحاب وموجباته تحفر مجراها الفعلي في مركز القرار الاسرائيلي· وهي حتمية في نهاية المطاف، الاّ ان هذه الضرورة ظلت خاضعة أيضاً لأحكام اللعبة الاسرائيلية التي لم يفتأ منطقها الداخلي يمسك بثوابت لا جدال فيها وهي عدم مغادرة لبنان من دون ثمن· وتلك هي عينها ثوابت الاجماع الاسرائيلي التي احتفظت بها حكومات العمل والليكود، وهي ظلت محفوظة في الحكومة الاسرائيلية الحالية· أما الرأي الذي ظل متفقاً عليه على قاعدة الاجماع هو انه من غير الوارد قيام الجيش الاسرائيلي بانسحاب أحادي الجانب من دون الحصول مسبقاً على ترتيبات سياسية مع لبنان· وانّ انسحاب القوات الاسرائيلية حتى الحدود الدولية يمكن ان يضع خليج حيفا في مرمى كاتيوشا حزب الله كما سبق وصرح رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، قبل مغادرته السلطة بأسابيع·
من تصفية الحسابات الى عناقيد الغضب
خلت الفترة التي أعقبت غزو لبنان صيف 1982، فسحة زمنية لاستراحة المحارب كما أريد لها اسرائيلياً· فقد انتقلت الجبهة اللبنانية - الاسرائيلية الى طور جديد من المواجهة بين المقاومة وقوات الاحتلال· وعاد الجنوب والبقاع الغربي الى أحواله المعهودة: جغرافيا سياسية، أمنية، مفتوحة على المؤثرات المحلية والاقليمية والدولية· وظلّت هذه الجغرافيا، حتى السنوات الأولى من التسعينات محكومة بمعادلة أمنية اقتصرت المواجهات فيها على حروب استنزاف محدودة·
طوال هذه الفترة بقيت المعادلة الأمنية على حالها، حرب عصابات من جانب المقاومة، وضربات وقائية واسعة نسبياً من جانب اسرائيل، الاّ ان نظاماً أمنياً يرسي أسساً واضحة لقواعد اللعبة من خلال اتفاقات أمنية جزئية لم يكن قائماً·
وكان هذا بديهياً، حيث راحت اسرائيل تراقب التحولات الهائلة في قواعد اللعبة الدولية التي اتضحت ملامحها في مستهل التسعينات بنهاية مدوية للحرب الباردة بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفيياتي·
وكانت سياسة الضربات الوقائية المحدودة في الجنوب ترجمة متحركة لواحدة من أبرز ثوابت استراتيجية الانسحاب الاسرائيلي في لبنان· الاّ ان حركة التصعيد بقيت مضبوطة ضمن عمليات عدوانية لم ترق الى الاجتياح الميداني بفعل استمرار التوازن السياسي - الامني الذي أفرزته تفاهمات يوليو/تموز 1993 ثم تفاهم ابريل /نيسان1996· حيث استطاعت المقاومة ان تفرض نوعاً من التهديد الميداني للمستوطنات الصهيونية في شمال فلسطين· ومع هذا فانّ المعادلة التي أنشأتها التفاهمات ظلّت عرضة للانهيار· فتفاهم ابريل بحكم طبيعته الموقوتة، واقتصاره فقط على الجانب الامني المتعلق بعدم تعريض السكان المدنيين لقصف المدافع والصواريخ، يشبه الى حدّ بعيد ما آلت اليه نتائج حرب الأيام السبعة، أو ما سمي بعملية تصفية الحساب في 25-31/7/1993·
غير ان ما سمي تفاهمات ما بعد حرب يوليو 1993 سرعان ما فتح على تأويلات وتفسيرات ومواقف متناقضة· ففي الجانب الاسرائيلي، لم تفلح النتائج التي تم التوصل اليها في اقناع جزء وازن من قوى الضغط السياسية والمدنية· وذهب ياسرائيل هارئيل، أحد زعماء المستوطنين، الى ان النتائج السياسية لاتفاق التفاهمات ضحلة ومخيبة للآمال· وتساءل: لماذا لا يسري ما تحقق لسكان المطلة وكريات شمونة على مرجعيون والقليعة (في منطقة الحزام الأمني) · بينما دافع المعلّق العسكري البارز، زئيف شيف، عن موقف رابين، شارحاً خلفيات قرار العملية والتفاهمات التي أسفرت عنها· ولكي يمنح قرارات حكومته أبعاداً إضافية من المشروعية بهدف وقف حملات معارضيه، بيّن رابين في تصريح أمام لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست يوم الأول من اغسطس/آب 1993 إنّ التفاهم الذي أتاح وقف اطلاق النار أوجد قواعد لحوار مع سوريا ولبنان، وأشاد باحترام سوريا لالتزاماتها سواء أكانت شفهية أم مكتوبة ·
القيادة السورية حرصت على وضع تفاهمات ما بعد حرب يوليو/تموز ضمن حدود المهمة المعطاة لها· وحتى لا تأخذ المبالغة الاسرائيلية مداها في إعطاء هذه التفاهمات أحجاماً غير صحيحة، نقلت أوساط صحافية في بيروت عن الرئيس الراحل حافظ الأسد قوله ان الاتفاق محدد جداً ومحدود جداً: يتوقف العدوان الاسرائيلي فتتوقف صواريخ الكاتيوشا· آخذاً في الحسبان ان الكاتيوشا استخدمت للرد، ولم تكن هي السبب، بل الذريعة، ولقد حاول الاسرائيليون ان يوهموا العالم· والجنود الذين قتلوا قبل ذلك بأيام انما قتلوا في مواجهات شنها المقاومون، وليس بصواريخ الكاتيوشا، وفوق الأرض اللبنانية وليس داخل الكيان الصهيوني·
ولقد بات معلوماً ان الاتفاق الذي اطلق عليه اسم تفاهم وتم بوساطة اميركية كان بدء تنفيذه مساء 31/7/1993 ويقضي بوقف اطلاق الكاتيوشا على شمال فلسطين المحتلة في مقابل تعهدها بعدم قصف القرى الآهلة والمدنيين اللبنانيين، وهو اتفاق سارع حزب الله الى التقليل من أهمية التزامه به، اذ سبق له ان أعلن اكثر من مرة انه لا يحبذ سياسة قصف الكاتيوشا، وانه لم يلجأ اليها الا رداً على الاسلوب الاسرائيلي بقصف القرى والمدنيين عقب أي عملية ينفذها رجال المقاومة·
مع اتفاق تفاهم يوليو/تموز حلّت معادلة أمنية عسكرية وسياسية ستؤسس - على ما يبدو - لقواعد جديدة للعبة المفتوحة على الجبهة اللبنانية - الاسرائيلية· واذا كان الجانبان اللبناني (حكومة - مقاومة) والسوري، قد أظهرا القيمة الأمنية المحدودة لاتفاق يوليو، فان الجانب الاسرائيلي بقي على خطابه الملتبس حيال الاتفاق، لجعله، نافذة لمفاوضات متعددة الطرف مع لبنان وسوريا في اطار مفاوضات مدريد للسلام في المنطقة·
لكن المعلّق في صحيفة عال همشمار الاسرائيلية، يؤاف كسبي، سيحدّد القواعد الجديدة للعبة في لبنان بقوله: ان المعارك التي ستدور منذ الآن، داخل منطقة الحزام الامني ستكون معارك مشروعة، يمكن استخدام كل الوسائل والأساليب فيها، باستثناء القصف بصواريخ الكاتيوشا نحو المستوطنات الشمالية، كذلك سيكون من حق الجيش الاسرائيلي الرد في أي مكان، حتى خارج حدود منطقة الحزام الأمني·
وهكذا، وبعد أقل من شهر واحد على الاتفاق، أخذت المواجهات العسكرية تستعر وفقاً لقواعد اللعبة الجديدة· ففي الأول من اغسطس/آب استأنفت المقاومة أعمالها - كالمعتاد - من دون كاتيوشا· واستأنفت اسرائيل غاراتها على قواعد المقاومة· وقد أصبح في إمكان وزير الخارجية الاميركية آنذاك، وارن كريستوفر، ان يبدأ جولته في المنطقة سعياً وراء تذليل الصعوبات التي تعترض طريق السلام، شاهراً التهديد بأنّ ما جرى في الجنوب اللبناني يجب ان يشكل تحذيراً لما يمكن ان يحدث في المنطقة اذا فشلت عملية السلام· وقد أتاحت الديبلوماسية الاميركية لاسرائيل الوقت الكافي لممارسة ضغوطها، وتحقيق أفضل ما تستطيع من نتائج، على ألاّ تؤدي هذه الضغوط الى تخريب مفاوضات السلام، وهو أمر تحرص القيادة الاسرائيلية عليه في أي حال·
لكن على الرغم من الرعاية والدعم الاميركيين للحكومة العمالية، فقد واجه رئيسها، اسحق رابين، انقساماً في المجتمع السياسي وبخاصة من جانب زعيم الليكود، بنيامين نتنياهو، (سيصبح في ما بعد رئيساً للحكومة بعد انتخابات 1996)· فالى الدعوة التي وجهها رئيس حركة تسومت اليمينية، رفائيل ايتان، لتوسيع منطقة الحزام الأمني واستقالة رئيس الأركان ايهودا باراك راح آرييل شارون وبنيامين نتنياهو يهاجمان الاتفاق الذي يعطي الاذن لحزب الله لقتل الجنود الاسرائيليين·· فيما اقترح آخرون الانسحاب من لبنان وانتشار الجيش الاسرائيلي على الحدود· غير ان نتنياهو قال يومها ان على اسحق رابين ان يعترف بأنّ لا قيمة للتفاهمات التي توصل اليها مع سوريا· ولا يجوز ان تكون أيدي الجيش الاسرائيلي مكبّلة في حربه ضد حزب الله بسبب تفاهمات فارغة من المضمون، على الحكومة ان تغيّر سياستها كي تعيد الأمن الى الشمال·
عناقيد الغضب 96: تجديد يائس للتفاهمات
لم تمض سنوات ثلاث على ما عُرف بتفاهمات يوليو/تموز 1993 حتي اشتعلت الجبهة الجنوبية وتبددت التفاهمات· فالتطورات التي أعقبت تفاهم يوليو/تموز 93 وصولاً الى تفجير عدوان عناقيد الغضب في 11 ابريل/نيسان 1996، كانت محكومة بسياق منطقي سوف يؤدي بالضرورة الى ما آلت اليه الامور· صحيح ان الحكومة العمالية، ظلّت هي نفسها تحت زعامة شيمون بيريز الا انها لم تستطع ان تغادر سياسات الحكومة السابقة حيال جنوب لبنان بعد اغتيال اسحق رابين· فمنذ أواسط عام 1995 نحت المواجهة في الجنوب منحى تصعيدياً عبّر عن ضيق الجيش الاسرائيلي بالقيود التي فرضها تفاهم تموز· وهو يرى ضباطه وجنوده يتساقطون داخل المنطقة المحتلة تحت ضربات مقاومة كفؤة وواثقة، ويتطور أداؤها ويصبح أكثر فاعلية في المواجهات الهجومية المباشرة والكمائن وزرع الألغام والعمليات الاستشهادية وغير ذلك من أشكال المقاومة المسلحة· وفي هذا الصدد، علّق المحلل العسكري الاسرائيلي، زئيف شيف، بالقول ان الاعمال الصغيرة لم تعد كافية بعد نجاح حزب الله في تحسين أدائه وازدياد جرأته· فالعمليات العسكرية التي يقوم بها تحاذي الحدود مع اسرائيل، وعندما يرد الجيش الاسرائيلي يقصف الحزب مستوطنات الجليل· وقد أدى ذلك الى تآكل تفاهم يوليو/تموز·
عكست عملية عناقيد الغضب ذروة المواجهات الميدانية بين جيش الاحتلال والمقاومة· وحين اتخذت الحكومة الاسرائيلية قرارها ببدء العدوان كان هاجسها الأول وقف حرب الاستنزاف التي يتعرض لها جيشها بأي ثمن· الاّ ان الاستهدافات الاجمالية من وراء هذه الحرب المحدودة ظلّت خطوطها الاستراتيجية على أحوالها المعهودة· وهي:
1- أمن مستعمرات الشمال: وأمن الجنود الاسرائيليين في المنطقة المحتلة·
2- نزع سلاح حزب الله أو، على الأقل، تحجيمه وتقييد نشاطه (عبر الضغط على القيادتين اللبنانية والسورية من خلال أعمال التدمير والتهجير) وقد أوضح ذلك الجنرال عميرام ليفين، قائد المنطقة الشمالية، قائلاً ينبغي ان نجعل حزب الله يشعر بشدة بطشنا (···)
3- اضعاف سوريا ودفعها الى الانضمام الى العملية السلمية بأقل ما يمكن من الشروط من خلال إنهاء أو اضعاف ورقة المقاومة·
4- تحسين صورة رئيس الحكومة، شمعون بيريز، كرجل قوي كفء في مجال الأمن كما في مجال السياسة، وان لم يسبق له ان خدم في الجيش· وكذلك دعم حزب العمل في انتخابات الكنيست·
5- الحد من تآكل هيبة الجيش الاسرائيلي·
6- رفع معنويات ميليشيا جيش لبنان الجنوبي وسائر حلفاء اسرائيل في المناطق المحتلة الذين يعيشون حال ارتباك وقلق وخوف على المصير·
بعد سبعة عشر يوماً من الحرب العدوانية واسعة النطاق على الجنوب والبقاع الغربي وقع الاسرائيليون مجدداً في دوائر الخيبة· فالاستهدافات السياسية الأمنية لحرب عناقيد الغضب لم تغادر منطوقها النظري الذي دأبت عليه استراتيجيات الاحتلال منذ آخر انسحاب لجيشها في العام 1985· بل ان النسبة الأعظم من هذه الاستهدافات لم تنجز مع وقف العمليات الحربية فجر السابع والعشرين من ابريل 1996·
وفور توقف عملية عناقيد الغضب، اشتعل السجال على أشده داخل المعسكر السياسي الاسرائيلي· فالذي سرّع في وقف النار هو المجزرة الرهيبة التي ارتكبها جيش الاحتلال في بلدة قانا وذهب ضحيتها أكثر من 109 من المواطنين اللبنانيين فضلاً عن عشرات الجرحى والمشوهين بعدما استهدف القصف الاسرائيلي أحد عنابر الكتيبة الفيجية التابعة لقوات الأمم المتحدة· وكان على حكومة شمعون بيريز وقيادة أركانه ان تتلقى غضب الرأي العام الدولي وادانته للمجزرة وان ترضخ بالتالي لجهود الأمم المتحدة والمساعي الأوروبية والاميركية في هذا السياق· وقد نجحت المبادرة الفرنسية في تثبيت الصياغة النهائية لتفاهم ابريل بعد جدال عسير مع الاميركيين والاسرائيليين، وفي دخول فرنسا كعضو في لجنة المراقبة ثم في التناوب على رئاستها مع الولايات المتحدة·
جاء تفاهم ابريل /نيسان الذي اعلن بشكل مكتوب في السادس والعشرين منه ليلغي تفاهم يوليو /تموز1993 الشفهي ويحل محله· وبهذا المعنى وجدت اسرائيل نفسها توقع على هدنة أمنية ذات دلالات سياسية من دون ان تكون مهيأة لها· صحيح ان اتفاق التفاهم قد سدّ ثغرة مهمة في جبهة الحكومة التي كان يرأسها الزعيم العمالي، شمعون بيريز، لناحية وقف التورط المتزايد في حرب غير مضمونة النتائج، يتعرض فيها المستوطنون اليهود في الجليل لحمم الكاتيوشا· لكنه من الصحيح ايضاً ان عناقيد الغضب لم تلبث ان استولدت المزيد من اختلال العلاقة بين التيارات المؤثرة في القرار الاسرائيلي· ثم عادت لتطلق سجالاً مزمناً حول جدوى البقاء في لبنان والأثمان المطلوبة سياسياً وأمنياً في حال الاقدام على الانسحاب من طرف واحد·
لقد ظهرت في المجتمع الاسرائيلي تساؤلات عميقة عن الجدوى من حرب لم تبدل من قواعد اللعبة لا على المستوى السياسي ولا على المستوى العسكري بما يختلف او يخالف روح تفاهم عام 3991· وقد نقلت وسائل الاعلام الاسرائيلية عن العميد احتياط رافي نوي، الرئيس السابق لهيئة اركان قيادة المنطقة الشمالية، انتقاده الشديد لأداء الجيش واعتبر ان العملية فاشلة وأهدافها لم تتحقق، فقد ظل مقاتلو حزب الله يطلقون صواريخ الكاتيوشا طوال 16 يوماً على المستوطنات، ولم يكن الجيش قادراً على إسكات النار، وهذا أمر يحدث لأول مرة منذ حرب 1948 اذ لم تكن المستوطنات تبقى عرضة لاطلاق النار أكثر من يومين أو ثلاثة·
ويقول المعلّق الاسرائيلي، عوديد غرانوت ان حزب الله استوعب الصدمة الأولى وردّ بوابل من الكاتيوشا، ووافق وزير الخارجية السوري على العودة الى تفاهم يوليو/تموز 1993 من دون التلميح الى امكان الذهاب الى أبعد منذ لك·
مثلما حدث بعد عدوان يوليو/تموز 1993، شهدت مرحلة ما بعد تفاهم ابريل تطورات لافتة في حرارة الموقف السياسي الاسرائيلي لجهة فتح باب التفاوض مع لبنان· وراح المسؤولون الاسرائيليون وفي مقدمهم رئيس الحكومة، شمعون بيريز، يقترحون امكان الانسحاب من الجنوب اللبناني في مقابل شروط لم تتبدل مضامينها عما سبق وقدموه غداة عدوان يوليو 1993· وما قدمه بيريز في هذا الخصوص يقوم على تجديد الدعوة الى البدء بمفاوضات حول تسوية مرحلية مع لبنان تنسحب اسرائيل بمقتضاها من المنطقة الامنية الى الحدود الدولية في مقابل تجريد حزب الله من قواه وأجهزته العسكرية وسلاحه وضمان مستقبل أفراد ميليشا لبنان الجنوبي وسلامتهم على ان يترافق ذلك مع نشر وحدات الجيش اللبناني في المناطق الحدودية في اطار ترتيبات أمنية ثابتة ومستقرة·
وجد لبنان في هذه الافكار ما يؤدي في حال القبول بها الى زعزعة وحدته وتعريضه مجدداً للانقسام الوطني· وخصوصاً ان دخول الجيش اللبناني للانتشار على النحو المطلوب اسرائيلياً وتبعاً التعقيدات وتناقضات المعادلة اللبنانية الداخلية، سيفضي الى صدام لا تحمد عواقبه مع الرافضين للترتيبات الأمنية وخاصة مع حركة المقاومة·
لقد اكتفى اللبنانيون بحدود تفاهم ابريل/نيسان بوصفه إطاراً ممكناً ومعقولاً كما قال وزير الخارجية آنذاك، فارس بويز، مضيفاً انه يسمح بتمرير مرحلة عبر حصر نطاق العمليات وبشكل أساسي عبر عدم تجاوز العمليات العسكرية الاطار العسكري ووصولها الى أي اطار مدني·
أما حزب الله فرغم حرصه على التفاهم وديمومته، فقد بيّن أمينه العام السيد حسن نصرالله ان التفاهم لا يقيد حركة المقاومة من اجل تحرير الارض، وان المقاومة لا تطلق هجماتها من المناطق المأهولة· وهذا قيد وضعناه على أنفسنا منذ سنوات· لكن التفاهم يبقى محاولة جديدة وجادة لحماية المدنيين اللبنانيين·
على قاعدة هذه المعادلة التي عادت وجدّدت نفسها بعد تفاهم ابريل/نيسان لم يطرأ تحول جذري على قواعد اللعبة الاسرائيلية في الجنوب باستثناء الحملة السياسية الديبلوماسية التي اطلقتها حكومة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو وتتعلق بالمنطلقات الجديدة للانسحاب من لبنان، وفي مقدمها اعتبار القرار رقم 425 أساساً للتفاوض حول هذا الانسحاب·
حقبتا نتنياهو - باراك: جدل الانسحاب مستعاد
كشف الجدل المفتوح في اسرائيل حول المستقبل الأمني في جنوب لبنان، عن رغبة محمومة في تغيير قواعد اللعبة التي اطلقها تفاهم ابريل 1996· ولقد ورثت حكومة ايهود باراك خلاصات هذا الجدل، وخصوصاً لجهة السعي لخلق وقائع عسكرية - سياسية تطيح العناصر الأساسية التي أنتجت تفاهم ابريل· كما تطيح العناصر التي أنتجها التفاهم اياه ومثلت على امتداد ثلاث سنوات عقبة ذات شأن في وجه الادارة الاسرائيلية للعبة الاحتلال·
وجرّب جنرالات المرحلة الانتقالية - بين حكومة بنيامين نتنياهو المنقضية وحكومة باراك المنتخبة - قلب المعادلة بالقول فلم يفلحوا· وكان ثمة إجماع اقليمي ودولي، بما في ذلك الولايات المتحدة الاميركية، على وجوب حماية التفاهم، والتعامل معه كقاعدة إحتواء لأي تفجير عسكري يكون خطراً على الأمن الاقليمي وعلى عملية السلام·
لم ينه فشل تجربة العنف الاسرائيلي في 23 يونيو/حزيران 1999 على البنية التحتية اللبنانية، الجدل المفتوح حول ازالة جدار تفاهم ابريل/نيسان· وبداً واضحاً ان المجتمع الامني في اسرائيل، سواء في شطره الموجود في الحكم أو الذي هو خارج الحكم، يضغط لحمل باراك على الدخول مجدداً في تجربة تغيير قواعد اللعبة والقضاء على اتفاق التفاهم· واذا كان الشطر الحاكم يخفي على العموم نيّاته حيال الاتفاق، وذلك لاعتبارات تكتيكية محضة، فان الشطر الذي هو خارج السلطة يترجم بوضوح لافت حقيقة السجال الدائر، ويظهره الى العلن· ها هو وزير الدفاع السابق في حكومة نتنياهو موشي ارينز يرى ان لا خيار امام باراك سوى تطبيق سياسة رادعة تقوم على تجميد العمل بتفاهم ابريل/نيسان، وبتوجيه ضربات موجعة الى لبنان في كل مرة يتعرض الجنود الاسرائيليون في الحزام الامني لهجوم من حزب الله، وليس فقط عندما تتعرض المستوطنات في الجليل لقصف الكاتيوشا ·
الى ذلك، فقد أجمع كبار الجنرالات على ان رجال حزب الله تعلموا بسرعة بالغة كيف يعملون تحت غطاء التفاهم وتسمع في المؤسسة العسكرية الاسرائيلية من يوجه انتقادات لا حصر لها لأداء لجنة المراقبة، ففي رأيهم ان آلية العمل فيها مختلة· وسوريا ولبنان تجعلان منها أضحوكة ·
وما ولّد الحيرة لدى المواقع المختلفة في المجتمع السياسي/العسكري في اسرائيل ان تصريحات من مثل ما أطلقه وزير دفاع حكومة نتنياهو، موشي أرينز، في معرض انتقاده سلوك حكومة باراك، لم تثر القلق في لجنة مراقبة تفاهم ابريل· ومرد ذلك ان صيف 99 وخصوصاً الفترة التي زامنت حكومة باراك الى السلطة، كان وقتاً غير ملائم لاسرائيل لتغيّر فيه قواعد اللعبة· وساد اعتقاد أنّ حكومة باراك لن تسمح لنفسها بالتنازل عن هذه اللجنة·
هذا وجه من أوجه السجال الذي راح يستقطب أحيازاً مختلفة من المواقع السياسية الاسرائيلية المعارضة لرئيس الوزراء· وبدا بوضوح أن المجتمع العسكري ممثلاً برئاسة الأركان وقيادات المناطق وخصوصاً المنطقة الشمالية المحاذية للبنان، يحاول توريط باراك في الوقت غير المناسب لشن حملة عسكرية على لبنان·
ولئن كان باراك يريد ان يعطي فسحة من الهدوء النسبي في الجنوب تمشياً مع رغبة الادارة الاميركية في اعادة بعث الحيوية في مؤسسة المفاوضات، فهو في العمق لم يغادر التوجهات التي وضعها المجلس الوزاري المصغّر للحكومة الليكودية في مستهل العام 1999، وهي على الشكل الآتي:
1- استمرار الوجود الاسرائيلي في الظروف السياسية القائمة في الحزام الأمني ·
2- تغيير نظرية القتال الاسرائيلية في جنوب لبنان بحيث تغدو أكثر هجومية·
3- تغيير سياسة الرد على صواريخ الكاتيوشا ·
أمام أهم عناصر هذا التغيير ومكوناته فهي:
أ- تأليف غرفة عمليات دائمة وخاصة بالوضع اللبناني تجتمع اسبوعياً برئاسة وزير الدفاع·
ب- تغييرات تكتيكية في الانتشار العسكري في جنوب لبنان للحد من الخسائر· (وهذا ما حصل بالفعل بعد الانسحاب من منطقة جزين)·
ج- توسيع مدى الأهداف الانتقامية في لبنان وانتقاؤها بشكل لا يكون فيه خروج على تفاهم ابريل/نيسان الذي يقضي، بحسب التفسير الاسرائيلي، بعدم المساس بالمدنيين فقط ولا يحظر ضرب أهداف بنى تحتية·
د- توسيع نطاق التفاهم بشكل لا تعود غارة اسرائيلية تؤدي الى رد فعل تلقائي من حزب الله ضد اسرائيل·
هـ- اعتبار أمن الحدود في المستوطنات الشمالية مثابة خط أحمر والرد بشدة ضد أهداف في لبنان في كل مرة يتعرّض فيها شمال اسرائيل لقصف كاتيوشا·
ان اكثر الذين راقبوا حركة رئيس الوزراء الاسرائيلي، ايهود باراك، حيال لبنان، لاحظوا خطاباً مركباً يبعث أكثر فأكثر على الغموض والالتباس· وهذا عائد الى الحيرة في التوفيق والمواءمة بين استراتيجية العنف، وضرورات التفاوض مع العرب· غير ان هذه الحيرة لم تطاول المسافة التي تتجاوز حدوداً معينة يعود باراك معها الى حقول المواجهات المكشوفة·
رؤية للبنان
منذ بلوغه مواقع المسؤولية في الجيش أخذت تتكون رؤية بعيدة المدى لدى ايهود باراك· ففي العام 1994 كان رئيساً لهيئة الأركان· وكان له - في محاضرة ألقاها - في النادي التجاري - الصناعي في تل أبيب (12-3-1994) رؤية عن لبنان يقول فيها: ليس لدينا، عملياً مع اللبنانيين أي مشكلة، سوى المشكلة الأمنية، التي يرتبط حلها الى حد كبير بالسوريين، اما من طريق غض النظر، على الأقل، وإما من طريق سماحهم للبنانيين بالعمل، وعملياً، فاذا ساد الهدوء في منطقة الحزام الأمني، وعلى الحدود الشمالية، لبضعة شهور، فسنكون مستعدين - في سياق اتفاق شامل مع اللبنانيين، وضمان مستقبل أفراد جيش لبنان الجنوبي - لأن نخلي منطقة الحزام الأمني بالتدريج· ومن ذلك الوقت، كان باراك مهجوساً بترابط المسار اللبناني مع المسار السوري، ولذلك رأى ان من الممكن للحكومة اللبنانية ان تذهب - على حد زعمه - الى الاستجابة الفعلية للرؤية الاسرائيلية وتعمل على فرض الهدوء في جنوب لبنان، ولو كان العمل وفقاً لاعتباراتها المستقلة فقط ممكناً·
رؤية ايهود باراك للبنان وآليات التعامل مع الجبهة المشتعلة في الجنوب، استوت على خطاب جديد بعد وصوله الى رأس القرار في اسرائيل· فوجود باراك في رئاسة مجلس الوزراء، فرض عليها تحويل التصورات الاستراتيجية الى مواقف سياسية يومية، الامر الذي ولّد انطباعات متفاوتة ومتناقضة أحياناً حيال الاتجاهات المقبلة لحكومته في جنوب لبنان·
لكن التقرير الذي أصدره مركز جافي للدراسات الاستراتيجية في اغسطس/آب 1999 يقدّم الصورة الاجمالية لتوجهات باراك المنظورة· يقول التقرير: ان أفضل سبيل للحفاظ على الهدوء على طول الحدود الشمالية هو بالاتفاق مع سوريا· وان أي انسحاب من طرف واحد سيقلص الخسائر في صفوف الجيش وسيزيد الخسائر في صفوف المدنيين من سكان المستوطنات في الجليل · ويخلص التقرير الى ان استمرار الوضع القائم في الجنوب هو أهون الشرور، لان الانسحاب من طرف واحد لن يؤدي تلقائياً الى وقف العمليات ضد اسرائيل ما دامت لم تنسحب من هضبة الجولان· او على الأقل لم تتضح الملامح الاخيرة للتسوية بين الاسرائيليين والسوريين·
مع ان باراك لا ينأى عن أجواء واضعي هذا التقرير الاّ انه لم يكف عن الاخذ بخط الحفاظ على الامر الواقع من دون ان يعدم خطي النشاط الاسرائيلي اللذين أعقبا تفاهم ابريل وهما:
- العمل سياسياً وعسكرياً من أجل توليد وقائع تطيح التفاهم·
- مواصلة خطاب التفاوض، على أمل احتواء ما يمكن احتواؤه من أنشطة المقاومة في جنوب لبنان·
بداية العام 2000: السجال على أشده
شهد الشهر الأول من العام 2000 مأزقاً اسرائيلياً اضافياً· واللافت ان هذا العام كان رمزياً بالنسبة الى أمهات الجنود الاسرائيليين بعد الذي سمعوه من رئيس وزرائهم من ان السنة الجديدة ستكون زمناً صافياً للتفاؤل وستنبىء بعهد السلام الكامل على الحدود الشمالية·
في هذا المناخ، بالذات جاء مقتل العميل، عقل هاشم·، المسؤول في الجيش الجنوبي· وهذا الحدث سيدخل دخولاً عميقاً في الدوائر الضيقة لأمن الاحتلال، ذاك ان الترتيب الميداني والاستخباري من جانب القيادة العسكرية الاسرائيلية في المنطقة الشمالية كان يقضي باجراء هادىء لنقل قيادة الميليشيات من لحد الى هاشم· والحرص الاسرائيلي من هذا الوجه ينطوي على رغبة شديدة في اجتناب ما من شأنه التأثير على أجواء المرحلة الانتقالية التي نشأت غداة استئناف المفاوضات مع سوريا· والذي زاد من خشية القيادة الاسرائيلية هو ان عملية قتل العميل هاشم تزامنت مع وصول مفاوضات شيبرد ستاون بين سوريا واسرائيل الى طريق مسدود·
كان من الطبيعي ان يجري الاتهام الاسرائيلي لسوريا كمحرض ومشجع وداعم للمقاومة الاسلامية، مجرى العادة المحفوظة عن ظهر قلب· لكن الحركة الميدانية لنشاط المقاومة ضمن الفترة التي شهدت بداية وختام مفاوضات واشنطن بين المفاوضين السوري والاسرائيلي، لم تهدأ· بل على العكس فقد استمرت على وتيرتها التصاعدية خلال شهر رمضان الذي شهد عمليات خاصة ذات طابع موازٍ للمناسبة من ناحية معنوية وثقافية، ودينية، الامر الذي يسقط الفرضية الاسرائيلية القائلة بوجوب إخضاع عمليات المقاومة في اللجنوب لمقتضى العمليات التفاوضية·
كيف بدت الرؤية الاسرائيلية لواقع ميليشيا جيش لبنان الجنوبي ومستقبله، وخصوصاً بعد مقتل أحد كبار قادته عقل هاشم؟
لا يخفى على أحد، ان جيش لبنان الجنوبي هو ورقة مساومة اسرائيلية في أي مفاوضات مع لبنان· وهو أحد الأثمان التي يعتقد الاسرائيليون ان على لبنان تقديمها في مقابل جلاء الاحتلال عن أراضيه· ثم ان القيادة الاسرائيلية على اختلاف اتجاهاتها، لا تجد من مصلحتها تحت أي ظرف، رفع اليد عن هذا الجيش او التخلي عنه في اطار صفقة تسوية غير مضمونة النتائج· فهي وجهة نظر استراتيجية، تعتبر أي صفقة على حساب عملائها، مثابة سابقة تنطوي على ضرر بالغ بتحالفاتها وسياساتها على هذا الصعيد·
أياً يكن الأمر، فان القيادة العسكرية الاسرائيلية تشعر بأن اختراقاً خطيراً قد حصل لمنظومتها الأمنية باغتيال هاشم· فهي ترى ان الوضع الأمني والعسكري لـ جيش لبنان الجنوبي مرتبط بشبكة علاقات انتشار قوات الاحتلال، وان ما يتعرض له قادة ومجموعات هذا الجيش يمكن ان يطاول جنودها في أية لحظة وأي مكان من الشريط المحتل· وترى كذلك ان نجاح حزب الله في قتل أحد أبرز المسؤولين في الجنوبي الذي يتمتع بثقة المسؤولين الاسرائيليين طرح مجدداً حدود قوة المقاومة الاسلامية ومدى قدرتها على إحداث اختراقات كبيرة في نظام الأمن الاسرائيلية· ذلك ان عقل هاشم كان يخضع لمستوى عال من الأمن الشخصي تشارك فيها قوات اسرائيلية مباشرة اضافة الى عدد كبير من أفراد الجنوبي · والتساؤلات القلقة التي يطرحها قادة المنطقة الشمالية للاحتلال على أنفسهم تتمثل في كيفية مواجهة القدرة المتنامية للمقاومة على تشخيص وتحديد وتنفيذ عملية نوعية في هذه الأهمية والضخامة، وهو ما يثير الكثير من الشكوك التي ستكون مبعث قلق لدى القيادتين السياسية والعسكرية في اسرائيل اللتين تحرصان على عدم حصول انهيار كبير في جيش لبنان الجنوبي قبل الموعد الذي ضربه رئيس الوزراء ايهود باراك للجلاء عنه لبنان حتى الحدود الدولية في يوليو/تموز من صيف العام 2000· على ان مقتل عقل هاشم في غياب أي دور فاعل لانطوان لحد الذي عاش حال اعتزال لمهماته القيادية، يؤكد حقيقة ان ميليشيا هذا الجيش باتت أقرب الى الانهيار من أي وقت مضى· ما يعني ان تفكيك هذا الجيش سيضع قوات الاحتلال الاسرائيلي وجهاً لوجه مع رجال المقاومة· بعدما كانت استبدلت تكتيكها العسكري بالاعتماد على ما وصف بتكتيك العقاب والأفعى بحيث تقتصر عملياتها ضد المقاومين على استخدام سلاح الطيران للحد من الخسائر بين صفوف أفرادها، وهي خسائر دفعت بالاسرائيليين الى ممارسة ضغط هائل على القيادة السياسية لاجراء انسحاب عاجل من لبنان·
سيناريوهات متجددة
رد الفعل الاسرائيلي، بوجهيه العسكري والسياسي، كشف في تلك الفترة مدى الحيرة التي تعصف بالخيارات المطروحة في جنوب لبنان، وخصوصاً انه لم تمض ساعات على مقتل كبير عملائها، حتى منيت وحدة من الجيش الاسرائيلي بمقتل وجرح عدد من الجنود والضباط في عملية نفذتها مجموعة للمقاومة في تلة العزية التي تبعد 2 كلم من الحدود الفلسطينية· لقد كانت التصريحات التي اطلقها ايهود باراك عقب هذين الحدثين مركبة الى حد كبير حيث تهدّد وتوعد بالثأر معتبراً ان سوريا تدعم حزب الله كي ينتزع تنازلات من اسرائيل، وأضاف ان السوريين وليس حزب الله من يقف وراء خطوط التموين ويؤمنون حرية الحركة وقال: لقد عرفنا في الماضي ونعرف الآن كيف نضرب في المكان والزمان المناسبين··· واسرائيل لن تسمح باستمرار الوضع الحالي ·
باراك المنشغل بالتفاوض مع سوريا والفلسطينيين فاجأه التحول الأمني الصاعق في جنوب لبنان· ولذا فقد كان أمراً بديهياً ان يفسّر المراقبون مواقفه على انها رد فعل حذرة وموجهة الى تهدئة الرأي العام الاسرائيلي، وخصوصاً ان باراك ينتظر كل لحظة ان تأتيه من المعارضة ضربة سياسية ما ترغمه على انتخابات مبكرة قد تضع حداً لمستقبله السياسي في سدة القرار الاسرائيلي·
ولولا الاجتماع الطارىء للمجلس الوزاري المصغر، وهو مجلس طوارىء لا ينعقد الاّ في الأحوال الصعبة والاستثنائية، لكن الشعور السائد لدى الرأي العام الاسرائيلي هو المزيد من الاحباط والاحتقان· لكن الأجواء التي تحدثت عن سيناريوات للرد رفعت نسبياً من المستوى المعنوي، أبرزها اعتماد سلسلة من الاهداف المحتملة مثل محطات الكهرباء وشبكات الاتصال مثل الجسور والطرق· ولكن وزير الاتصالات، امنون شاحاك، ما لبث ان ذهب الى التشكيك في جدوى الغارات الجوية على البنى التحتية، وما اذا كانت الهجمات على البنى التحتية ستكون كافية لوقف مثل هذه العمليات·
ستاتيكو قواعد اللعبة
قبيل الاعتداء الجوي على محطات الكهرباء في لبنان صيف 99 كان ثمة جدل داخل المجلس الوزاري الاسرائيلي المصغر، فضلاً عن قيادة الأركان الاسرائيلية حول الطريقة الشرعية والناجعة للرد على حرب الاستزاف التي تخاض بين جيش الاحتلال وما تبقى من بنية جيش لبنان الجنوبي ·
لقد طرحت عدة سيناريوات تدخل في اطار ما يسمى الضربات الردعية لقوات المقاومة ، فضلاً عن ممارسة ضغوط أمنية وسياسية على كل من الحكومة اللبنانية وسوريا· كانت العناوين العامة لهذه السيناريوات تنصب على توجيه ضربات لمواقع انتشار القوات العربية السورية في بيروت والجبل والبقاع او تحقيق اجتياحات جزئية كما حدث في الماضي ما يولّد أجواء احتقان وتوترات اقليمية ودولية تنذر بعاصفة اقليمية داخل المثلث اللبناني السوري - الاسرائيلي، الامر الذي سيضع مفاوضات التسوية المتوقفة في شيبرد ستاون بين سوريا واسرائيل داخ ثلاثجة لوقت طويل·
غير ان التطورات السياسية والديبلوماسية التي أعقبت العدوان على البنية التحتية اللبنانية كشفت عن ملامح جدية لتغيير قواعد اللعبة التي حكمت المواجهات في جنوب لبنان· طبقاً لتفاهم ابريل 1996· وقد كان الاتجاه الاسرائيلي لاحداث تحول جذري في قواعد اللعبة الأمنية في جنوب لبنان واضحاً· والهدف من وراء ذلك متعدد الاغراض القريبة والبعيدة·
في المدى القريب، وجدت اسرائيل نفسها أمام حرب استنزاف بلغت ذروتها مع التفكك اليومي في هيكلية جيش لبنان الجنوبي وكذلك مع تعرض مواقع انتشار قواتها المحتلة لضربات يومية موجعة من جانب المقاومة· وذلك من دون ان يشكل تفاهم ابريل/نيسان أي حماية، ولو في حدها الأدنى، لأمن جيشها في الجنوب· وفي ازاء هذا الواقع، أرادت حكومة باراك، تماماً كما حصل مع حكومة سلفيه، بنيامين نتنياهو، وقبلها حكومة شمعون بيريز، ان تعيد الثقة المفقودة الى جيشها الذي لا تناسبه سياسة ضبط النفس التي فرضتها العمليات التفاوضية في شيبردستاون مع سوريا· هذا فضلاً عن اضطرارها لاعادة الثقة المتناقصة باستمرار مع جمهورها المطالب بمغادرة لبنان والانتقام للخسائر المتلاحقة في صفوف جنود الاحتلال·
أما في المدى البعيد، لم تلبث الحكومة الاسرائيلية ومثلما فعلت سابقاتها ان وجدت نفسها أمام ضغوط لا حصر لها من معارضيها بسبب استمرار المعادلة الأمنية السياسية تحت سقف تفاهم ابريل 1996· وذلك فقد اتجهت حكومة باراك الى فتح ملف الردع العسكري·
لقد سعت اسرائيل الى توريط المقاومة في الرد على خرق التفاهم باطلاق الكاتيوشا على المستعمرات الشمالية في الجليل بما يسمح بتصعيد عسكري مكثف وعالي الوتيرة يطيح نهائياً بأسس تفاهم ابريل· غير ان إحجام المقاومة عن اطلاق الكاتيوشا وابقاء عملياتها ضمن نطاق حرب الاستنزاف العسكرية في مواقع انتشارها في المناطق المحتلة أسقط ذريعة الانقلاب على التفاهم، وأعاد الكرة الى المرمى الاسرائيلي حين أجمعت دول تفاهم ابريل/نيسان على تعويمه من جديد كاطار وحيد وأخير لاستقرار المنظومة الأمنية في جنوب لبنان·
واذا كانت الخطة الاسرائيلية الجديدة هي الاطاحة بتفاهم ابريل/نيسان كهدف أمني مركزي، فلأن هذا التفاهم يشكّل اعاقة حقيقية تحول دون تحقيق أغراضها السياسية والأمنية في حال اضطرت للانسحاب من لبنان من طرف واحد· فلو تمّ مثل هذا الانسحاب من دون ان يترافق مع مفاوضات لبنانية - اسرائيلية فسيؤدي ذلك حكماً الى خسارة سياسية صافية، ناهيك بعدم اطمئنانها الى أمن جنودها سواء أثناء عمليات الانسحاب او الانتشار او في حال تمركزها في مناطق جديدة على مقربة من الحدود الدولية·
مهما يكن من أمر، فالوضع في جنوب لبنان بدا في الشهور الأولى من العام 2000 على الصورة اياها التي سبق الانفجار الأمني والسياسي قبل ابريل /نيسان 1996، حيث اطلقت آلة الحرب الاسرائيلية حرب عناقيد الغضب ضد لبنان· وحتى نهاية شتاء العام 2000 لم يظهر ثمة خيارات أخرى أمام القيادة الاسرائيلية سوى فتح سلسلة متجددة من الحروب العدوانية لقلب المعادلة القائمة والاحاطة بقواعد اللعبة الحالية وتوازناتها·