ايهود باراك والسلام (الحلقة الثانية)
عبده معروف
كاتب فلسطيني
مقدمة:
في الحلقة الاولى، تم استعراض العناوين العريضة لحكومة ايهود باراك والتاريخ العسكري للرجل، فضلا عن مواقفه العامة من التسوية على جميع مسارات التفاوض وتبين من خلال ذلك، ان باراك مثل غيره من القادة "الاسرائيليين" لا يريدون السلام.
في هذه الحلقة، استعراض لمواقف باراك من التسوية على المسار الفلسطيني وخاصة موقفه من الدولة الفلسطينية، والتي يراها تشكل اكبر الاخطار على امن "اسرائيل"، ومع ذلك، لا ينفك باراك من الحديث عن "السلام" مع الفلسطينيين.
أي سلام واي دولة فلسطينية ؟ سؤال واجه باراك طوال المرحلة التي حكم خلالها، أي منذ ايار 1999 ولغاية اشهر، وحيث كان يردد، ان الدولة الفلسطينية لا يمكن ان تقوم بغير الموافقة "الاسرائيلية"، وهذا يعني مخالفة ابسط الحقوق التي تفرضها القوانين الدولية.
باراك والسلام على المسار الفلسطيني
دخلت عملية السلام في منطقة الشرق الاوسط مرحلة جديدة بعد تأليف الحكومة "الاسرائيلية" الحالية برئاسة ايهود باراك زعيم حزب العمل، واستعداد هذه الحكومة تحريك المفاوضات على المسارات المختلفة وفي مقدمتها المسار الفلسطيني، من خلال تنفيذ اتفاق واي ريفر والوصول إلى مفاوضات الوضع النهائي.
واذا كان المسار الفلسطيني ـ "الاسرائيلي" قد واجه العديد من العقبات خلال السنوات الاخيرة، فان عودة حزب العمل إلى الحكم في "اسرائيل"، جعل الاطراف الاقليمية والدولية المعنية بقضية الشرق الاوسط اكثر تفاؤلا بامكانية ازالة هذه العقبات وتنفيذ الاتفاقات التي كانت قد وقعت سابقا بين السلطة الفلسطينية والحكومة "الاسرائيلية"، ووضعت هذه الاطراف احتمالات الوصول إلى الحل النهائي للقضية الفلسطينية في عهد باراك واقامة الدولة الفلسطينية خاصة وان تنامي (الواقعية عد الجمهور "الاسرائيلي" ادى إلى تزايد الرغبة في التسوية، والى ارتفاع نسبة "الاسرائيليين" المستعدين للتخلي عن الاراضي العربية التي احتلت العام 1967، وتزايد الاصوات "الاسرائيلية" غير المعترضة على اقامة دولة فلسطينية) وتشعر ان اقامة هذه الدولة سيؤدي إلى حل شامل للصراع في المنطقة.
وكانت قيادة حزب العمل "الاسرائيلي" من بين الاوساط "الاسرائيلية" التي لم تعد تعترض على اقامة دولة فلسطينية خاصة بعد مؤتمر مدريد عام 1991. وخاض الحزب حملته الانتخابية عام 1992 على اساس برنامج لا يعارض اقامة دولة فلسطينية، كأساس لحل القضية الفلسطينية، الا انه وضع ذلك ضمن (اطار اردني فلسطيني بديلا عن الدولة المستقلة ويكون هذا الاطار على استعداد لتعاون واسع النطاق مع "اسرائيل"). واكد البرنامج على رفض حزب العمل اقامة دولة فلسطينية مستقلة، وطالب بالاتفاق على حل لكيان فلسطيني (قائم على علاقة اندماجية او فدرالية مع الاردن وربما "اسرائيل" ضمن صيغة معينة)، كما اكد البرنامج على ابقاء جميع المستوطنات "الاسرائيلية" في الضفة الغربية وقطاع غزة، واقامة علاقات اقتصادية وثيقة بين هذا الكيان واسرائيل، من خلال ارتباط سياسي بين الاردن واسرائيل والكيان الفلسطيني وتقاسم وظيفي للمسؤوليات والصلاحيات.
ولم تخرج تصريحات قادة حزب العمل عن هذا الموقف العام والاساس للحزب من اقامة دولة فلسطينية، الا ان هذه المواقف اتخذت اشكالا وتعابير مختلفة، تتأرجح بين رفضها للدولة الفلسطينية المستقلة، وعدم معارضتها لاتحاد كونفدرالي مع الاردن ولم تحدد قيادة الحزب شكل هذا الكيان وحدوده وصلاحياته بشكل ثابت ففي وقت كان فيه اسحاق رابين زعيم حزب العمل السابق يدعو إلى اقامة دولة فلسطينية، كان ايضا يرفض استقلال وسيادة هذه الدولة، ويضع شروطا وقيودا تنفي عنها السيادة ويدعو إلى ارتباط هذه الدولة باطار كونفدرالي مع الاردن، ويعود اسحاق رابين للتراجع عن موقفه هذا رافضا الكونفدرالية بين الكيان الفلسطيني والاردن وقال: "انا لا اجد الحل الدائم في الكونفدرالية، لان الكونفدرالية تتكون من دولتين ذوات سيادة، والذي ينادي بالكونفدرالية بين الاردن والفلسطينيين، يعني انه ينادي بدولة فلسطينية مستقلة، لذلك انا اعارض الفكرة".
وجاء في ملحق الاتفاق الائتلافي بين حزبي العمل وميرتس بان الحزبين يعارضان حتى تقرير المصير للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وجاء في الملحق (سنعمل على مساعدة الشعب الفلسطيني لاقامة اطار فدرالي او كونفدرالي مع الاردن او اقامة دولة فلسطينية مجردة من السلاح).
ومن ابرز مواقف حزب العمل ايضا حول فكرة الكيان الفلسطيني، ما جاء في الاتفاق بين حزب العمل وتكتل الليكود في كانون الثاني 1997 حيث اكد الطرفان في اتفاقهما ان الحوار مع الجانب الفلسطيني يجب ان يبقى مفتوحا لانجاز اتفاق يؤدي إلى انشاء كيان فلسطيني تحدد سيادته في المفاوضات النهائية، ويكون هذا الكيان منزوع السلاح وبلا جيش ويؤسس الكيان الفلسطيني قوة شرطة لتلبية حاجات الامن الداخلي. وليس لاي جيش اجنبي ان يتخذ له مواقع داخل حدود الكيان الفلسطيني، وليس لهذا الكيان ان يوقع أي اتفاق عسكري او أي اتفاق اخر يهدد امن "اسرائيل" ويقول الاتفاق ان التزام الفلسطينيين بهذه الشروط يؤدي إلى الاعتراف بحقهم في تقرير المصير.
ويرى قادة حزب العمل ان الكونفدرالية هي (نوع من الحكم الذاتي في اطار اردني) فالاردنيون حسب وجهة نظرهم قد يتولون الشؤون الخارجية والامنية والدفاع، وتكون الضفة الغربية مجردة من السلاح على ان تركز "اسرائيل" فيها تجهيزات امنية وتنشر بعض القوات لرصد واحتواء أي هجوم عربي من الشرق، واعطاء الجيش "الاسرائيلي" الوقت الكافي للتعبئة. وترتفع اصوات "اسرائيلية" اخرى تشعر ان قيام مثل هذه الدولة سيؤدي إلى اخطار امنية وخيمة وستكون بمثابة مرحلة من مراحل استراتيجية عربية وفلسطينية نحو ازالة "اسرائيل". لذلك فان اوساط واسعة في "اسرائيل" ترى ان قيام دولة فلسطينية مستقلة ولو لفترة وجيزة امر غير معقول.
واذا كان قادة حزب العمل يرون ان قيام دولة فلسطينية سيساهم في حل القضية الفلسطينية فان هذه القيادة تضع شروطا معقدة لقيامها وفي مقدمة هذه الشروط ان لا تتمتع بالسيادة والاستقلال وان ترتبط باطار كونفدرالي مع الاردن. وتضمن عدم عودة اللاجئين، وتجريدها من السلاح وعدم ازالة المستوطنات "الاسرائيلية" واتخاذ اجراءات امنية وعسكرية "اسرائيلية" داخلها. وظل خيار الدولة الفلسطينية المستقلة مرفوضا لدى الاغلبية العظمى من "الاسرائيليين"، وهذا الرفض يستند لاعتبارات امنية، وتاليا فان الاعتراض على قيام دولة فلسطينية لا يرجع إلى التشبث العنيد برقعة معينة من الاراضي أي تمسك (ايديولوجي بفكرة ارض "اسرائيل" الكبرى).
واذا كان بعض قادة حزب العمل يرى ان قيام دولة فلسطينية ربما يعمل على حل القضية الفلسطينية، ويشرع ابواب الدول العربية للمشاريع والمخططات "الاسرائيلية"، الا ان هذه القيادة تضع لنفسها تصورا ومفهوما وشكلا خاصا لهذه الدولة، ربما لا ينطبق على المنطق والقانون الدولي لمفهوم الدولة، بل يكون مجرد اسم لكيان يتفق على تسميته (دولة).
لهذا فان احدا من قادة حزب العمل وفي مقدمتها اليوم ايهود باراك، لم يحدد بشكل واضح وثابت أي مستقبل ينتظر الفلسطينيين في الضفة الغريبة وقطاع غزة، ولم يحدد بشكل نهائي شكل الدولة الفلسطينية وصلاحيتها وحدودها.. التي يرضى بقيامها الحزب والتي لا تتجاوز باحسن الاحوال اطار كونفدراليا مع الاردن.
لذلك فان لمستقبل العلاقات مع الفلسطينيين مفهوما ووضعا خاصا لدى قادة حزب العمل "الاسرائيلي" يقوم على رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، ولا يمانع من قيام كيان فلسطيني ما يرتبط باطار كونفدرالي مع الاردن.
وعلى خلفية برامج حزب العمل وقراراته ومواقف قادته وتصريحاتهم، خاصة مواقف زعيمه السابق اسحاق رابين، يحمل زعيم حزب العمل ورئيس الحكومة "الاسرائيلية" الحالي ايهود باراك مواقف محددة وثابتة وصقرية في جوهرها وضبابية من خلال تصريحاته، التي تأرجحت بين قبول لهذه الدولة وعدم معارضتها، من خلال اطار كونفدرالي مع الاردن، وبين رافض لها اذا ما اعلنت من طرف واحد، وسيعارض قيام اية دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، وبين مؤيد لهذه الدولة اذا ضمنت المصالح الامنية لـ"اسرائيل" وابقت المستوطنات اليهودية وارتبطت بشكل كونفدرالي مع الاردن.
واوضح ذلك باراك خلال سنوات نشاطه السياسي والعسكري وقبل نجاحه وبعده في الانتخابات "الاسرائيلية"، حيث اكد مرات عدة انه لن يقف في وجه قيام دولة فلسطينية، كما انه لن يوافق على اعلان احادي الجانب للدولة الفلسطينية وعارض باراك في تصريح آخر فكرة انشاء دولة فلسطينية مستقلة وقبوله لفكرة كونفدرالية مع الاردن وربما "اسرائيل"، لان قيام دولة فلسطينية مستقلة كما قال باراك لن يكون هدفا اسرائيليا، واذا زادت الضغوطات الدولية (يضيف باراك) لقيام مثل هذه الدولة فان "اسرائيل" ستفرض عليها قيودا امنية وسياسية حفاظا على مصالح "اسرائيل" الامنية، كما قال باراك في تصريح لصحفية هآرتس ان دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة تماما ستعقد فرص التوصل إلى اتفاق وان مثل هذه الدولة لن يكون تهديدا لوجود "اسرائيل"، لكنه سينشئ واقعا ينطوي على نزعة تحرير قومية فلسطينية، كما سيولد سلسلة من المشكلات الاخرى المعقدة جدا. لذلك يقول رئيس الحكومة "الاسرائيلية" ان مسألة دولتين لشعبين ليست بهذه البساطة، وهي قضية شائكة، ولذلك يجب ان نطالب بان يكون للفلسطينيين كيان اقل من دولة، وينشأ في الوقت المناسب وبطريقة طبيعية، واقامة كونفدرالية بين هذا الكيان والاردن.
وخلال سؤال لباراك حول تصوره للحل الدائم اجاب (ان الحل الدائم يجب ان يشتمل على القدس موسعة وموحدة تحت السيادة "الاسرائيلية"، وايضا مناطق واسعة من الضفة الغربية وخاصة المرتفعات، ووجود استيطاني في غور الاردن، وفي الاماكن الحيوية واعالي الجبال).
بذلك يكون باراك قد وضع قيودا وشروطا تعجيزية لقيام دولة فلسطينية تفقد هذه الدولة سيادتها وحريتها واستقلالها، وهذه (الدولة) التي لا يرفض قيامها باراك وقادة حزب العمل "الاسرائيلي". لذلك هناك ضرورة لعدم الافراط بالتفاؤل بعد عودة حزب العمل بزعامة ايهود باراك إلى السلطة في "اسرائيل" والتصريحات والوعود الحمائمية التي اطلقها قبل حملته الانتخابية الاخيرة وخلالها والتي اشاع فيها جوا من التفاؤل بامكانية تحريك عملية السلام في المنطقة وتطبيق الاتفاقات التي وقعت سابقا مع الجانب الفلسطيني، ثم ان التفاؤل بقيام دولة فلسطينية مستقلة امر غير محتمل في ظل حكومة باراك او غيرها من الحكومات "الاسرائيلية" التي لا يمكن لها ان توافق على قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في ظل موازين القوى الحالية التي تميل لمصلحة "اسرائيل" والولايات المتحدة الامريكية. فبعد اشهر قليلة على استلام باراك السلطة في "اسرائيل"، فان وعوده السابقة تحتاج اليوم إلى الكثير من الامعان.