*Moustafa Ghareeb* * مصطفى غريب *المشروع الصهيوني في إفريقيا

المشروع الصهيوني في إفريقيا

أ.د. إبراهيم نصر الدين


مقدمة (رؤية نقدية)

تعدَّدت وتنوَّعت الدراسات التي تناولت علاقات "إسرائيل" بإفريقيا، وراح كل منها يركِّز على جانب أو أكثر من أوجه هذه العلاقات، فمنها ما انصبّ اهتمامه على تتبُّع مسار العلاقات "الإسرائيلية"- الإفريقية منذ نشأة الكيان الصهيوني، وذلك عبر مراحل تاريخية ترتبط في بدايتها ونهايتها بإحدى الحروب العربية "الإسرائيلية" الأربعة، ومنها ما حاول من جانب آخر التركيز على دراسة السياسة الخارجية "الإسرائيلية" في إفريقيا: أهدافها، وإرداتها، وأساليبها باعتبار أن "إسرائيل" فاعل، وإفريقيا مفعول به (التغلغل "الإسرائيلي" في إفريقيا، التسلل "الإسرائيلي" في إفريقيا) والبعض الثالث من هذه الدراسات انصرف اهتمامه إلى دراسة ما يمكن تسميته بالتكالب "الإسرائيلي"- العربي على إفريقيا سعيًا من جانب كل طرف لتحقيق أهداف له في إفريقيا في إطار الصراع "الإسرائيلي"- العربي لتنتهي هذه الدراسات إلى تقييم نجاح وفشل كل جانب في تحقيق أهدافه، أما البعض الأخير من هذه الدراسات فإنه سعى للكشف عن طبيعة الكيان الصهيوني العنصري الاستعماري، وذلك باعتباره أحد روافد الحضارة الغربية من جهة، وباعتباره فصيلاً أفرزته الظاهرة الاستعمارية الغربية من جهة أخرى، وذلك في محاول للكشف عن طبيعة علاقة ذلك الكيان بالغرب، هل هي علاقة تبعية بالإمبريالية العالمية؟ أم هي علاقة مشاركة بين ندَّيْن لكل منهما مصالحه التي يسعى لتحقيقها في إفريقيا؟ أم أن الكيان الصهيوني بات يتصرَّف باستقلالية نسبية لتحقيق مصالحه في إفريقيا، وبالتالي فإن هذه المصالح قد تصطدم مع المصالح الغربية في مرحلة معيَّنة؟ أم أنه قد أصبح لهذا الكيان قدرة ولو جزئية على تحريك المخطَّط الإمبريالي العالمي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق مصالحه بأقل قدر من التكاليف؟

وسط هذا الكم الكبير والمتنوِّع من الدراسات الأجنبية والعربية حول الموضوع، والتي يقدِّرها الباحث، فإن الكتابة في نفس الموضوع في هذه العجالة تُعدّ نوعًا من المغامرة، اللهم إلا إذا اكتفى الباحث بنقل بعض الأفكار المتناثرة هنا وهناك، وفي ذلك نوع من المقامرة غير المقبولة علميًا، على أن القراءة المتأنية من جانب الباحث لمعظم ما كُتب تكشف عن عدّة ملاحظات في الدراسات السابقة ولا نقول أوجه قصور، نذكر منها:

أولاً: أن الدراسات التي تناولت تطور العلاقات "الإسرائيلية"- الإفريقية عبر مراحل زمنية قد نظر بعضها إلى كل مرحلة وكأنها منفصلة عن غيرها، وأن كل مرحلة أفرزت أهدافًا جديدة للكيان الصهيوني، وأساليب جديدة تعيَّن الأخذ بها لمواجهة ظروف كل مرحلة وهو أمر يصعب التسليم به، ذلك أن رسم السياسة الخارجية -أهدافًا وأدوات- إنما يتمّ ارتكانًا إلى بعض المحدّدات أغلبها يتّسم بالثبات النسبي، وبعضها يتّسم بالتغيّر.

ثانيًا: أن الدراسات التي اتخذت لها مرتكز السياسة الخارجية "الإسرائيلية" في إفريقيا قد اجتزأت لهذه السياسة أهدافًا تتعلق بإفريقيا فحسب، دون أن تضعها في سياق الأهداف العامة للكيان الصهيوني، بل أكثر من ذلك فهي حين حدّدت أهداف هذه السياسة فقد شابها كثير من الخلط بين الأهداف الإستراتيجية والأهداف التكتيكية، وتناست أن هناك اتفاقًا مستقرًا الآن بين علماء السياسة الدولية والعلاقات الدولية، على أن هناك هدفين أساسيين (إستراتيجيين) للدولة -أيِّ دولة-، يتمثّلان في الأمن والتنمية بمفهومهما الشامل، فضلاً عن هدف ثالث يتعلَّق بالدول الكبرى وهو هدف الهيمنة أو إقامة مناطق النفوذ، وأية أهداف أخرى غير ذلك تُعد أهدافًا فرعية مرحلية لتحقيق الهدفين الأساسيين، بل إنه وحتى في حالة الكيان الصهيوني- وبحسب كونه ظاهرة متفردة في التاريخ الحديث؛ حيث يقوم غرباء باقتلاع شعب كامل من أرضه- فقد كان يتعيَّن البحث عما إذا كان يمكن لهذه الظاهرة الصهيونية غير الطبيعية أن تكون لها نفس الأهداف المستقرة للدول أم كان ولا بد أن تغرز أهدافًا متفردة غير طبيعية؟

ثالثًا: وأما الدراسات التي اهتمّت بالصراع العربي- "الإسرائيلي" في إفريقيا، فقد نظر بعضها لإفريقيا باعتبارها مفعولاً به فقط وليس فاعلاً، بل إن بعضها الآخر تجاهل وجود فاعلين دوليين آخرين قد تتفق وقد تتعارض مصالحهم مع مصالح أي من الطرفين في مرحلة معيَّنة، ثم إن غالبيتها افترض وجود سياسة عربية واحدة في مواجهة سياسة "إسرائيلية" واحدة في إفريقيا، وهو أمر يجافي الواقع، خاصة ونحن نرى أحيانًا أنّ تصارُع سياسات الدول العربية في إفريقيا بعضها مع بعض قد يكون أكثر حدة في بعض المواقف من تصارعها مع السياسة "الإسرائيلية" في إفريقيا!

رابعًا: وإذا كان هناك اتفاق على أن الظاهرة الصهيونية هي ظاهرة غربية استعمارية عنصرية، وهو ما يؤكد تلك الرابطة العضوية بين الصهيونية والإمبريالية الغربية فإن الصعوبة ما تزال قائمة في الكشف عن طبيعة هذه الرابطة؛ هل هي علاقة تبعية؟ أم تعاون؟ أم استقلال نسبي؟ وذلك أمر يصعب التوصل إليه دون محاولة التوصل إلى فهم لمخططات الصهيونية، ورُؤى منظِّريها لطبيعة الكيان الصهيوني وأهدافه المستقبلية، ورغم أن باحث العلوم السياسية يتعيَّن عليه محاولة فهم الواقع على نحو ما يجري وتحليله، إلا أن قدرًا من الخيال "الموضوعي" يصبح مطلوبًا لفهم كيف يفكر الطرف الآخر؟ وعلى أيِّ أسس من المدركات والتصورات يتصرَّف؟ كما يستطيع رسم إستراتيجية للمواجهة؛ إذ لم يكن أحد -غير اليهود- يحلم في بداية هذا القرن بإقامة دولة "إسرائيل" بعد خمسين عامًا من الإعلان عن الرغبة في إقامتها، كما لم يكن أحد في العالم العربي يتوقع عقد معاهدة صلح بين مصر وإسرائيل، وبنفس القدر لم يكن أحد يتصور انهيار المعسكر الاشتراكي عن نحو ما آل إليه، من هنا فإن قدرًا من الخيال "الموضوعي" يصبح مطلوبًا، ويتعيَّن إدراجه في قائمة الاحتمالات الممكنة عند رسم أي إستراتيجية للمواجهة.

خامسًا: وإزاء كل ما تقدَّم، ووسط ذلك الكم الكبير والمتنوع من الدراسات السابقة التي نقدرها حق قدرها فلأصحابها قصَب السبق في التتبع والتحليل، فإن الباحث سيحاول أن يبحث عن بعض الثوابت "النسبية" في المشروع "الإسرائيلي" تجاه إفريقيا، متجاوزًا لا متجاهلاً الدراسات السابقة ليركز على محورين:

أولهما: الأهداف الإستراتيجية للكيان الصهيوني.

ثانيهما: خصوصية التعامل "الإسرائيلي" مع إفريقيا.

 

أولاً: الأهداف الإستراتيجية للكيان الصهيوني

 ركَّزت معظم الكتابات التي تناولت أهداف السياسة الخارجية "الإسرائيلية" في إفريقيا على أن هذه الأهداف تكاد تنحصر فيما يلي :

1- الدفاع عن بقاء "إسرائيل" ووجودها وضمان أمنها، وذلك من خلال فك طوق العزلة العربية المفروضة عليها سياسيًا واقتصاديًا، كي تتمكن من الخروج من هذه العزلة المفروضة عليها إقليميًا (عربيًا) لتتجاوز المسرح الإقليمي إلى ما وراءه (إفريقيا) والحصول على أكبر تأييد دولي لوجودها وسياساتها من جانب؛ ثم العمل على تطويق الدول العربية وبخاصة مصر لتهديد أمن مياه النيل، وتأمين موانئ البحر الأحمر، والتأثير على اقتصاديات الدول العربية وعرقلة نموها من جانب ثانٍ. فضلاً عن السعي لخلق تيار مناهض للعرب ومؤيد لإسرائيل في إفريقيا من جانب ثالث.

2- خلق مجال حيوي لطاقاتها وإمكانياتها الإنتاجية والفنية، على نحو يؤدي إلى تحقيق مكاسب اقتصادية من زيادة التبادل التجاري، وخلق سوق واسعة للصادرات الصناعية "الإسرائيلية"، وضمان مورد هام للخامات، وخلق مجالات عمل جديدة للخبرات الفائضة لدى "إسرائيل".

3- توثيق الروابط بينها وبين الاستعمار لضمان المصادر التمويلية، وخدمة مصالح الاستعمار ومواجهة نشاط الكتلة الشيوعية في إفريقيا.

غير أنه يلاحظ أن الكتابات السابقة في تحديدها لأهداف السياسة الخارجية لإسرائيل في إفريقيا قد تجاهلت وضع هذه الأهداف في منظومة أولويات السياسة الخارجية "الإسرائيلية" بعامة من جهة، ثم إنها أغفلت فرز هذه الأهداف لتحدد أيها ذو طبيعة تكتيكية مرحلية، وأيها ذو طبيعة إستراتيجية طويلة المدى من جهة أخرى، خاصة بعد أن أصبح وجود "إسرائيل" مؤكدًا، وأمنها مضمونًا، بل وأصبحت تهدِّد أمن الآخرين والاعتراف بها قائمًا، وعزلتها الاقتصادية والسياسية مقوَّضة، وعلاقاتها الاقتصادية مع الدول الإفريقية مؤمَّنة ومتنامية. وقد أدرك الدكتور مجدي حماد بحقٍّ هذا القصور حين راح يحدِّد أهداف السياسة الخارجية "الإسرائيلية" بصفة عامة، ويفرز منها ما يُعدّ ذا طبيعة إستراتيجية كلية كهدف في ذاته، وبين ما يُعدّ ذا طبيعة تكتيكية إقليمية كوسائل لتحقيق أهداف أخرى، ليقرر بعد ذلك أن الأهداف الإستراتيجية للسياسة الخارجية "الإسرائيلية" بعامة تتمثل في ثلاثة أهداف هي:

1- الأمن القومي: المتمثِّل في ضرورة التأكيد على "تأمين الوجود"، حيث يتميز هذا الوجود بخاصتين:

أ  ) أنه يسعى إلى المحافظة على الشخصية النقية للدولة.

ب) وأنه وجود ديناميكي متمدد تحت ضغط الهجرة المتزايدة التي تأتي إعمالاً "للوعد الإلهي" وفكرة "أرض الميعاد".

2- الشرعية السياسية: والتي تنطوي على تأمين وضمان الوجود دوليًا، والاعتراف القانوني والواقعي بالوجود والأمن "الإسرائيلي" في المنطقة العربية، ومن قبل الدول العربية.

3- الهيمنة الإقليمية: ويعدّ الأمن والشرعية مقدمات ضرورية لا غنى عنها لتحقيق الهدف الأساسي طويل المدى للوجود "الإسرائيلي". وهو ما يمكن تلخيصه في الهيمنة على الإقليم باعتباره يمثِّل "المجال الحيوي" للوجود "الإسرائيلي" من ناحية، ولضمان ألا يتجاوز في نموه وتوجهاته حدًا يعرِّض المصالح الغربية لخطر أو لتهديد جديد.

ثم يرتِّب د. مجدي حماد أهداف السياسة الخارجية "الإسرائيلية" في إفريقيا في سُلم الأولويات السابق الإشارة إليه، لينتهي إلى تحفظ مفاده أن سُلم أولويات هذه الأهداف يختلف من مرحلة إلى أخرى، كما يختلف الوزن النسبي لكل منها في إطار نفس المرحلة. فالترتيب السابق لأهداف "إسرائيل" الاستراتيجية -الأمن فالشرعية ثم الهيمنة- يعكس إلى حد كبير تدرجًا تاريخيًا في أولويات الحركة "الإسرائيلية": فالفترة اللاحقة على قيام الدولة حتى منتصف الستينات تقريبًا كان التركيز فيها على مطلب الأمن، أما الفترة الممتدة من منتصف الستينات حتى مطلع السبعينات فهي تتميَّز بالتركيز على مطلب الشرعية بعد توطيد دعائم الأمن. وهنا تجدر الإشارة إلى أن قطع العلاقات الدبلوماسية مع "إسرائيل" من قبل الدول الإفريقية في غمار حرب أكتوبر 1973 لم يرتفع مطلقًا إلى حد التشكيك في "شرعية" الوجود "الإسرائيلي"، وعلى ضوء ذلك يمكن القول: إن المرحلة التالية ستشهد تركيزًا إسرائيليًا على مطلب الهيمنة.

ولعل ذلك هو ما دفع بالأستاذ حلمي شعراوي إلى التوصل إلى نتيجة مفادها أن تطبيق مفهوم "الإمبريالية الفرعية" أو "الصغرى" على الوضع الراهن لإسرائيل هو أكثر المفاهيم مصداقية، حيث هو يفسِّر الطبيعة العالمية للحركة الصهيونية في أعلى مراحلها، وعلاقتها البنيوية -مجسَّدة في "إسرائيل"- بالنظام الإمبريالي الدولي، ويفسِّر أيضًا الاختلاف الذي يبدو أحيانًا مع المركز، ونتائج كل ذلك في الدور الإقليمي لإسرائيل وعلاقاتها في العالم الثالث وخاصة إفريقيا.

ونحن نتفق مع ما أورده د. مجدي حماد في أن المرحلة الحالية ستشهد تركيزًا من جانب "إسرائيل" على تحقيق هدف "الهيمنة" على الإقليم العربي المجاور في إطار مشروع "إسرائيل" الكبرى. ويؤكِّد ذلك تزايد عملية التنسيق الصهيوني- الأمريكي في المشرق العربي منذ عقد اتفاقات كامب ديفيد من جهة، وإصدار "إسرائيل" في أواخر عام 1989 خريطة لحدودها الجديدة المتصوَّرة من جهة ثانية، ثم ما أسفرت عنه حرب الخليج من تمهيد لتحقيق هذا المخطط، وذلك بحصار من جانب القوات الأمريكية لمعظم المنطقة التي حدَّدتها الخريطة "الإسرائيلية" الجديدة من جهة ثالثة. فهذه الخريطة تضم النصف الشرقي لسيناء وشمال المملكة العربية السعودية، وشمال الكويت، والعراق حتى حدوده مع إيران باستثناء الجنوب الشيعي، والشمال الكردي، وثلثي سوريا ما عدا شمالها، ومعظم الأراضي اللبنانية باستثناء شريط ساحليّ في الشمال، وكل الأراضي الأردنية، ومن الملاحظ في هذا المقام أن القوات الأمريكية متواجدة في النصف الشرقي لسيناء، وشمال المملكة العربية السعودية وكل الكويت وجنوب وشمال العراق، ولم يبقَ إذن لأحكام الحصار الأمريكي الصهيوني حول منطقة المخطط "الإسرائيلي" سوى شمال سوريا وشمال لبنان، ويبدو أن المخطط الإمبريالي الأمريكي الصهيوني يسير حاليًا في هذا الاتجاه، ولكن وفي موضوع دراستنا هذه يظل السؤال قائمًا: أين موقع إفريقيا في هدف "الهيمنة" "الإسرائيلي"؟ وهل إفريقيا لا تدخل في هذا المخطط؟ أم أنها مؤجَّلة إلى مرحلة تالية في سُلم أولويات أهداف السياسة الخارجية "الإسرائيلية"؟ لقد ألمح الأستاذ حلمي شعراوي عن دور إمبريالي فرعي لإسرائيل في العالم الثالث وخاصة إفريقيا، ولكنه لم يفصح عن طبيعة وأبعاد هذا الدور، هذا ما سنحاول التعرف عليه.

إن قراءة متأنية لكتاب ""إسرائيل" إلى أين؟" والذي ألفه ناحوم جولد مان -رئيس المنظمة الصهيونية العالمية بين عامي 1956، 1968- والصادر في يونيو 1975 قد تكشف لنا طبيعة وأبعاد الدور "الإسرائيلي" في إفريقيا، والذي يتجاوز كثيرًا الأهداف السابقة.

يقول جولدمان ".. أكَّد كل المفكرين الآخرين والآباء المؤسسين للصهيونية على الصفة الإنسانية والكونية لهذه الدولة، وبالقدر نفسه على صفتها الوطنية والخاصة، ولم يقم طموح هؤلاء المحرِّكين الأيديولوجيين للحركة الصهيونية على إيجاد أرض غالبيتها من اليهود فقط، حيث يصبح اليهود أسياد مصيرهم، بل استخدام هذه البقعة لتطبيق الأفكار الأساسية في التاريخ اليهودي" ويضيف جولدمان أن "الخطر الكبير الذي تقع فيه "إسرائيل" هو نسيان صفتها الفريدة؛ إذ أنشئت في محاولة لخلق دولة وحيدة من نوعها.. من المؤكد أن دولة "إسرائيل" لا يمكن أن تبقى إلا إذا شكّلت ظاهرة لا مثيل لها في العالم، ويرفض جولدمان أية محاولة لجمع كل يهود الشتات في داخل دولة "إسرائيل" لأن لهم مهمة خارج "إسرائيل" قائلاً: "ما يمكن تسميته تطبيع الحياة اليهودية، لن يكون بإلغاء التشتت وجمع الشعب بأكمله على أرضه، بل نوعًا من الحياة المركبة من "إسرائيل" في الوسط، والمناطق المتاخمة على السواء، وأحدهما مرتبط بالآخر، ويمثلان معًا الشعب الموحد نفسه، ويؤكد جولدمان أن حل مشكلة العلاقة بين "إسرائيل" والدياسبورا" يبقى للشعب اليهودي مهمة فريدة لا مثيل لها في الزمن الحاضر ولا في الماضي".

… ويتَّضح مما تقدم عدة حقائق نذكر منها:

 1- الاستمرار في تأكيد الصفة العنصرية والاستعمارية للكيان الصهيوني وللشعب اليهودي، يظهر ذلك من التأكيد على "الصفة الكونية" للدولة، وعلى الصفة "الفريدة" لها وعلى كونها "دولة وحيدة من نوعها"، وأنها تشكِّل "ظاهرة لا مثيل لها في العالم"، وأن "للشعب اليهودي مهمة فريدة لا مثيل لها".

2- الإصرار على انتهاك سيادة الدول الأخرى، بالزعم بأن اليهود أينما وجدوا يشكلون جزءاً من الشعب اليهودي، وأن ولاءهم لدولة "إسرائيل" يتوازى -إن لم يكن يجب- مع ولائهم للدول التي يعيشون فيها، مع التأكيد على استمرار قطاع كبير من يهود الشتات خارج أرض "إسرائيل" في رفض واضح لمبدأ حق تقرير المصير بالمفهوم الحديث حيث يعبر عن حق كل أمة أن يكون لها دولة. فالشعب اليهودي أينما وجد يشكل أمة تعمل بتوجيه من المركز ("إسرائيل").

3- ويظهر مما سبق استمرار "عقدة الحصار"؛ إذ رغم رغبة القادة الصهاينة في تجمع الشعب اليهودي في "إسرائيل"، إلا أن الخوف من نتائج هذا التجميع تبدو واضحة، خوف من توجيه ضربة عسكرية لكل الشعب اليهودي المتجمع في "إسرائيل"، وخوف من فقدان التأثير على سياسات الدول المتواجد فيها يهود الشتات، وخوف من فقدان مصادر التمويل الخارجية. وهكذا يتضح أن مفكري الصهاينة قد آثروا التركيز على فكرة "المركز- "إسرائيل"" الذي يتم فيه تجميع بعض اليهود لتأهيلهم، ثم إعادة نشرهم للقيام بمهام خارجية لخدمة الشعب اليهودي. وقد ترتب على هذه الفكرة -وبلغة العسكرية- ضرورة وجود مركز "احتياطي" تحسبًا لضرب المركز الأصلي، أو مركز "تبادلي" يستخدم في حالة ضرب المركز الأصلي، حتى يظل مركز قيادة الحركة الصهيونية مؤمَّنًا في كل الأحوال.

ويبدو أن منطقة شرق أفريقيا -والتي كانت مطروحة في السابق كوطن قومي لليهود تشكِّل المركز "الاحتياطي" أو "التبادلي" للحركة الصهيونية، ويظهر ذلك جليًا من النشاط "الإسرائيلي" المكثف في المنطقة بعون أمريكي- في كل الظروف والمتغيرات، وهو نشاط استهدف في جانب كبير منه تطويق العالم العربي من الجنوب، وتقليص المد الإسلامي على أطرافه، بالتعاون مع المسيحية العالمية، ابتداء من افتعال الصراع الموريتاني- السنغالي والتهديد بضرب القدرات العسكرية للجزائر، والتواجد العسكري الأمريكي- الصهيوني في تشاد، والمساعدات لحركة التمرد في جنوب السودان من جانب "إسرائيل" والولايات المتحدة، ومجلس الكنائس العالمي، ثم التدخل في أحداث القرن الأفريقي لترتيب الأوضاع لصالح الإمبريالية الأمريكية والصهيونية. وكل ذلك في تقديري تمهيدًا لتعزيز مركز "تبادلي" أو احتياطي آمن للحركة الصهيونية يحقق لها الأغراض الدفاعية المذكورة من جهة، والأغراض الهجومية المتمثلة في تقليص الوجود الإسلامي في إفريقيا، والتحكم في منابع مياه النيل، ومدخل البحر الأحمر من جهة ثانية.

ويؤكد ما تقدم ما ذكره الدكتور علي مزروعي من: "أن مؤسس الصهيونية واصل التفكير في إفريقيا على أنها امتداد ممكن لإسرائيل أكثر من كونها وطنًا لليهود، ولمّا كانت هناك أعداد كبيرة من اليهود الذين أرادوا الاستقرار معًا في مناطق يستطيعون فلاحتها بأنفسهم، ويسمونها وطنًا مشتركًا، فقد اعتبرت فلسطين مكانًا غير مناسب لكل اليهود الذين أرادوا الاستقرار معًا بهذه الطريقة. ولذلك فإن هرتزل -مثله مثل وزارة الهند في العشرينات والثلاثينات- رأى أن شرق أفريقيا يعتبر مكانًا مناسبًا للموجة الثانية من الاستعمار اليهودي لا الموجة الأولى".

وهكذا يتضح مما تقدم أن "إسرائيل" تشكل ما يمكن تسميته "الفاتيكان المسلح"، حيث أصبح لليهود مركز قيادة مستقل للصهيونية العالمية في أرض فلسطين، يتولى تنسيق نشاطات الجماعات اليهودية في مختلف أرجاء العالم، والتي من المتصور أن يبقى معظمها خارج "إسرائيل" ليتولَّى مهمة تعبئة التأييد السياسي والمالي لها، وإن كان ذلك لا يمنع من وجود مركز تبادلي أو احتياطي للمركز في شرق إفريقيا.

 

ثانيًا: خصوصية التعامل "الإسرائيلي" مع إفريقيا

ينفرد التعامل "الإسرائيلي" مع القارة الإفريقية بدرجة عالية من الخصوصية يتَّضح ذلك في جانبين؛ أولهما: يتمثَّل في عملية الربط الأيديولوجي والحركي بين الصهيونية وحركة الجامعة الإفريقية والزنوجية، وثانيهما: يتمثّل في التعمد "الإسرائيلي" التعامل مع جماعات إفريقية بعينها تدعيمًا لاستمرارها في السلطة إن كانت حاكمة، أو توسيعًا لدورها في نشر حالة عدم الاستقرار السياسي في بعض الدول الإفريقية، وهذا ما سنتناوله بشيء من الإيجاز أملاً في أن تتوجه إليه الدراسات في المستقبل.

أولاً: عملية الربط الأيديولوجي والحركي بين الصهيونية وحركة الجامعة الإفريقية والزنجية:

وتظهر علمية الربط هذه -والتي حاكتها الصهيونية العالمية- في عدة أوجه نذكر منها:

1- الزعم بخضوع كل من اليهود والأفارقة (الزنوج) لاضطهاد مشترك، فكلاهما ضحايا للاضطهاد وللاثنين ماضٍ مؤلم، وأنهما من ضحايا التمييز العنصري، وبينهما بالتالي تفاهم متبادل، ويزيد من تلاقي تطلعاتهما أن لهم جذورًا ممتدة في ماضيين متشابهين جوهرًا، وبالتالي فإن سياسة "إسرائيل" في إفريقيا تعدّ تطلعًا أصبح لا يتمثل في الرغبة "الإسرائيلية" في مساعدة الذين عانوا المآسي كالشعب اليهودي. ويؤكد موسى ليشم -والذي كان رئيسًا للإدارة الإفريقية في الخارجية "الإسرائيلية"- على أن العلاقات القوية التي تطوَّرت بين "إسرائيل" وإفريقيا إنما تتصل بالروابط التي قامت بين اليهود والإفريقيين، فجذور التعاطف بينهما تتمثل أساسًا في أن المدنية السائدة اعتبرت اليهود الزنوج أجناسًا منحطة على حد سواء، وأن التجربة التاريخية والنفسية متشابهة بينهما، وتمثَّلت في تجارة الرقيق وذبح اليهود، وهذا التماثل ليس ذا طبيعة تاريخية أو مجردة فقط، ولكنه يتأكد من خلال التطلع اليهودي لتجديده ما أسماه وجودهم القومي، وكذلك من خلال كفاح الإفريقيين للتعبير عن أنفسهم في ظل الاستقلال، أي من خلال رغبة كل من الشعبين في حفظ قيمه الثقافية.

2- إضفاء المسحة الصهيونية على حركة الجامعة الإفريقية، فمنذ أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي ومع أخذ الحركة الصهيونية، وحركة الجامعة الإفريقية إطارهما التنظيمي فقد أطلق على حركة الجامعة الإفريقية اسم "الصهيونية السوداء"، وأطلق على أحد زعمائها المتصدرين لفكرة "عودة الزنوج الأمريكيين إلى وطنهم الأصلي إفريقيا" -وهو ماركوس جارفياسم- "النبي موسى الأسود"، بل إن تشبه الزنوج بين "إسرائيل" وإضفاء طابع ديني على حركتهم للعودة إلى إفريقيا يوضِّح هذا التأثير بالفكر الصهيوني إلى حد بعيد. فقد كان الأسقف ألكسندر وولترز -أحد أساقفة كنيسة صهيون الأسقفية الميثورية الإفريقية- أكبر سند لسلفستر ويليامز -أول داعية لحركة الجامعة الإفريقية-، والذي نظَّم أول مؤتمراتها في لندن عام 1900 بمساعدة ودعم من كنيسة صهيون، وكان معروفًا أن زعماء هذه الكنيسة يستندون إلى العهد القديم من الكتاب المقدس، وخاصة عندما "عدوا للهروب من العبودية على مثال ما حدث لبني "إسرائيل"، واستعانوا بالآيات الخاصة بالحياة الأخرى من موت وبعث وخلود ليسبغوا على حركاتهم نوعًا من هالة قدسية، أو رضا إلهي".

3- أن عملية الربط بين الصهيونية وحركة الجامعة الإفريقية قد استهدفت من بين ما استهدفت مواجهة الإسلام في إفريقيا من جهة، وضرب العلاقة بين حركة التحرر العربية والإفريقية من جهة أخرى؛ إذ صرح عديد من القيادات الدينية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية مبكرًا أن الهدف من تهجير الزنوج الأمريكيين إلى إفريقيا إنما يستهدف نشر المسيحية فيها من خلالهم، والوقوف أمام انتشار الإسلام في القارة. وبعد الحرب العالمية الثانية فقط، أدركت "إسرائيل" والقوى الاستعمارية أهمية "القيادات الوطنية" والمثقفة في إفريقيا مع المد التحرري الذي بدت عليه الحياة السياسية الإفريقية؛ فكان اقترابها البارز في البداية من نكروما ونيريري وسنغور أكثر من غيرهم. وقد كان وزن هؤلاء في حركة التحرر الإفريقية ضروريًا لإسرائيل والغرب عامة لتحجيم صلة هذه الحركة بحركة التحرر العربية، وبالطبع فقد أفاد في هذا الأمر ميراث الصهيونية والزنوجية المبكر من جهة بل وطبيعة ميراثهم من الفكر الليبرالي وحتى اليساري الأوروبي في توجهه نحو "إسرائيل" من جهة أخرى.

4- وكان من نتائج ما تقدم أن ظهرت "إسرائيل" إلى الوجود متمتعة برصيد من التعاطف المنبثق عن العوامل الدينية والثقافية، دون أن يثقل كاهلها شيء من سلبيات الصدام أو التعامل العدائي بينها وبين القارة الإفريقية وأهلها، على عكس العرب الذي اتُّهموا في هذا السياق بممارسة تجارة الرقيق في إفريقيا. وقد كانت استجابة الزعماء الإفريقيين للتعامل مع "إسرائيل" في كافة المجالات سريعة وودية. فمن المعروف أن ليبريا كانت أول دولة إفريقية تعترف بإسرائيل وثالث دولة اعترفت بها في العالم (بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) عام 1948.

وقد ابتعث نكروما  -بعد استقلال بلاده مباشرة- عددًا من وزرائه لإسرائيل، حيث عقدوا العقود والاتفاقيات، هذا في الوقت الذي حذّر فيه نكروما من "التوسع المصري المباشر أو الاختراق الشيوعي غير المباشر للمناطق الإفريقية من خلال موافقة مصر ورغبتها". بينما عبَّر عدد من القادة الأفارقة عن انجذابهم لإسرائيل وترحيبهم بمعوناتها، من ذلك قول الزعيم الكيني توم مبويا: "إن أي إفريقي يزور "إسرائيل" سيعجب لا محالة بالإنجازات التي حققتها في فترة وجيزة رغم قحل أرضها، وشح مواردها الطبيعية، ولذلك فقد كنا جميعًا منتشين ومتشوقين للنسج عن منوال تلك التجارب في بلادنا.

وعلى النمط نفسه قال الرئيس نيريري: ""إسرائيل" بلد صغير.. ولكنه يستطيع أن يقدم الكثير لبلد مثل بلدي. إننا نستطيع أن نتعلم دروسًا نافعة من "إسرائيل" نظرًا لتشابه المشاكل التي نواجهها.. وعلى رأسها مشكلان هامان هما:

بناء الأمة وتوحيدها، ثم إعمار الأرض وتغييرها ماديًا واقتصاديًا. وقد قطع د باندا -رئيس مالاوي- شوطًا كبيرًا في معاداة العرب وفي تأييده لإسرائيل، ومن أقواله المشهورة بعد حرب يونيو 1967: إن "إسرائيل" لم تكن معتدية، وإن مصر دولة عاجزة لم تكن لتقدر "حتى على مقاتلة امرأة" وأضاف: "إن "إسرائيل" قد فعلت الشيء الصحيح، وإن اقتراحًا باعتبار "إسرائيل" معتدية هو بمثابة تحريف ومتاجرة بشرف الحقيقة".

ورغم مضي الأعوام وتوطد أواصر العلاقات العربية- الإفريقية أثناء وعقب حرب أكتوبر 1973 فإن هذا الموقف الإفريقي المتعاطف مع "إسرائيل" استمر قائمًا، ففي مذكرة قدّمها مائة وستة نواب بالبرلمان الفيدرالي النيجيري في مايو 1982 يطالبون فيها الدول الإفريقية ومعها نيجيريا بإعادة العلاقات الدبلوماسية الطبيعية مع "إسرائيل" نجد فيها نفس النغمة، "فالعرب يريدون حل المشكلة "الإسرائيلية" بالتصفية الكاملة لإسرائيل كدولة، إنهم يرونها فرضًا إمبرياليًا"، وإن مصالح إفريقيا السوداء ليست هي نفس مصالح الدول العربية، فمن الناحية الفلسفية فإن الإفريقانية تختلف عن العروبة"، "وقد عانى "الإسرائيليون" مثلما عانى الإفريقيون،  فمثلما عانى الأفريقيون من العبودية وتجارة الرقيق والاستعمار والإمبريالية والاستعمار الجديد والتمييز العنصري، والسيطرة الاقتصادية والتآمر الدولي فإنهم يجب ألا يعزلوا "إسرائيل" التي كانت ضحية نفس القوى، دولة هربت توًا من التصفية الدموية في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وأن نيجيريا ستعانى من عزل "إسرائيل"؛ إننا نحتاج "إسرائيل" أكثر مما تحتاجنا هي". و"إذا أردنا المجد فعلينا أن نتطلع إلى الأحسن، إذا ارتبطنا بإسرائيل فسوف نتطلع لأسلوبهم في الحياة ونحسن حياتنا، لأن الإنسان يُعرف بأصدقائه، إننا سوف نتشرب منهم القومية الصحيحة والنظام الصحيح.. الخ.

ثانيًا: التركيز على دعم العلاقات مع جماعات إفريقية بعينها:

وتتضح هذه الخصوصية في التعامل "الإسرائيلي" مع القارة الإفريقية، والتي تعدّ من ثوابت السياسة الخارجية "الإسرائيلية" في إفريقيا، والتي تتجاوز التعامل المؤقت مع أنظمة الحكم الإفريقية -بافتراض عدم استقرارها- إلى التعامل المستقر وشبه الدائم مع جماعات بعينها تتَّسم بثقل عددي وسياسي، فتقوم بمساندتها إذا كانت تشكِّل قاعدة للسلطة القائمة دعمًا للاستقرار السياسي وتوطيد الأواصر والعلاقات مع "إسرائيل"، أو تقوم بمساندتها إذا كانت خارج السلطة السياسية لإشاعة حالة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي في دولة تعدّ معادية لإسرائيل. ولم تغفل "إسرائيل" في هذا المقام أهمية الربط الأيديولوجي بين التقاليد الصهيونية وتقاليد هذه الجماعات، والأمثلة على ذلك عديدة: استمرار مساعدة "إسرائيل" لجماعة الدنكا في جنوب السودان -والتي يقدِّر البعض عددها بنحو خمسة ملايين نسمة- لإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في السودان لإجهاضه اقتصاديًا وسياسيًا، وخلق عقد للكراهية بين العرب والأفارقة، بصورة تُعيق السودان عن أداء دوره العربي والإسلامي، وحتى الإفريقي، باعتباره يشكل أنموذجًا للتعايش العربي الإفريقي المنشود.

وفي الوقت نفسه فقد ظلت "إسرائيل" على تعاملها الوثيق مع جماعة الأمهرا الحاكمة في إثيوبيا؛ سواء في ظل هيلاسيلاسي أو منجستو دعمًا لسيطرة هذه الجماعة على غيرها من الجماعات -ومعظمها إسلامية-، وتعزيزًا لتواجد "إسرائيل" في منطقة حوض النيل، وفي مدخل البحر الأحمر، وقد استغلَّت "إسرائيل" في ذلك البعد الأيديولوجي لتقوية صلاتها بجماعة الأمهرا، ذلك أن هذه الجماعة لديها مزاعم بالانتماء إلى "الأسرة السليمانية"، وقياداتها يسمون أنفسهم "زعماء "إسرائيل""، ثم إن الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية قد ظلَّت تقوم بدور هام في تعزيز الهيكل الاجتماعي القائم، فهي لم تسهم فقط في تعزيز سلطة الأمهرا وإضفاء الشرعية عليها، ولكنها كانت أيضًا مصدرًا لتماسك ووحدة شعب أمهرا، خاصة عندما ركَّزت في دعايتها على أن شعب الأمهرا هو "شعب الله المختار".

وفي نيجيريا فقد قامت "إسرائيل" بمساعدة جماعة الايبو التي تقطن في الإقليم الشرقي لنيجيريا (سابقًا) لمواجهة الإقليم الشمالي (سابقًا) المسيطر على السلطة المركزية -ويضمّ أغلبية مسلمة- حتى وصل الأمر إلى حد إعلان استقلال الإقليم الشرقي تحت اسم جمهورية بيافرا عام 1967 والتي اعترفت بها "إسرائيل" تحت دعوى أن الايبو يشكلون قومية متميزة، وزادت على ذلك بأن أعلنت أجهزة دعايتها أن الايبو هم "يهود إفريقيا".

وفي جنوب إفريقيا فإن عملية الربط الأيديولوجي بين الصهيونية والقومية الأفريكانية البيضاء قد آتت أكلها في تعزيز الروابط بين "إسرائيل" وجنوب إفريقيا، ذلك أن البيض (البوير - الإفريكارز حاليًا) الذين اعتبروا أنفسهم أبناء الله، بعد أن تمكَّنوا من الهجرة من مستعمرة الرأس في عام 1936 هربًا من الحكم البريطاني قد عقدوا مقارنة بين خروجهم هذا وخروج بني "إسرائيل" من مصر، ومثلما أن اليهود خرجوا بقيادة موسى -عليه السلام- هربًا من فرعون، فإنهم خرجوا من مستعمرة الرأس بقيادة بيتر ريتيف إلى ناتال والترنسغال هربًا من بريطانيا، وهكذا صارت بريطانيا في نظرهم فرعون، وصارت بلاد المهجر "أرض الميعاد"، وصاروا هم أنفسهم "شعبا مختارًا"

هذه مجرد نماذج "إسرائيل" مع بعض الجماعات الإفريقية تفتح المجال أمام دراسات أكثر عمقًا، لتتبع المخطط "الإسرائيلي" في إفريقيا، أبعاده، وأهدافه، والذي ينصرف بالدرجة الأولى إلى تعزيز المصالح "الإسرائيلية" في إفريقيا، حتى ولو كان ذلك على حساب تهديد السلامة الإقليمية لبعض الدول الإفريقية (السودان/ نيجيريا) من جهة، أو تكريس التفرقة العنصرية ضد بعض الشعوب الإفريقية (جنوب إفريقيا) من جهة أخرى.

خلاصة وتقويم

نخلص مما تقدَّم وبصرف النظر عن قضية الصراع العربي- "الإسرائيلي" إلى أن القارة الإفريقية بذاتها مستهدفة بالدرجة الأولى داخل المخطَّط الصهيوني الذي يضع بعض مناطقها كمواقع "تبادلية" أو "احتياطية" في حالة تهديد المركز الأصلي (فلسطين)، أو حتى في حالة تعرُّض بعض الجماعات اليهودية في مناطق أخرى من العالم للخطر، وإن كنا قد أشرنا إلى أن منطقة شرق إفريقيا (إثيوبيا - جنوب السودان- شمال أوغندا) تشكِّل أحد هذه المواقع، فليس هناك ما يمنع من أن تشكِّل جنوب نيجيريا موقعًا ثانيًا (حيث مناطق الايبو)، وأن تشكِّل جنوب إفريقيا موقعًا ثالثًا في شكل يشبه المثلَّث لاحتواء المد الإسلامي في إفريقيا تمهيدًا للقضاء عليه، وليس من شك في أن عملية الربط الإيديولوجي بين الصهيونية وفكرة وحركة الجماعة الإفريقية ثم الربط الأيديولوجي بين الفكر الصهيوني، وتقاليد وتراث بعض الجماعات الإفريقية من شأنه أن يخدم فكرة "المواقع التبادلية" تلك، ويضمن لها إمكانية التحقيق.