بنية العقلية اليهودية المستغلقة على السلام

بنية العقلية اليهودية المستغلقة على السلام

د. عزت السيد احمد
استاذ في جامعة دمشق / سوريا


لا شك في ان نشدان السلام مطلب انساني نبيل، ولا شك في ان السلام بحد ذاته امل يملء قلب كل انسان. ولكن هذا الامل النبيل، للاسف الشديد يصطدم بصراع رغبات الاقوياء والضعفاء فيحيله إلى سراب، ولن نتحدث عما يستحق ان يسمى بجدارة اسطورة السلام لان السلام بوصفه اسطورة، وبوصفه خرافة، اكثر واقعية، واقرب الى القبول باضعاف مضاعفة من المشكلة التي يصطدم بها المنطق والعقل حتى يفقد كل ما يمتلكه من اتساق وانسجام وتماسك.

من السهل علينا تماما، وان خالف ذلك المنطق والعقل، ان نفهم او نقبل ان المعتدي الجبار القوي يدعي بانه اعتدى على الضعيف المنتهك من اجل ان يحمي مصالحه، او خوفا من اعتداء الضعيف عليه، او لان الضعيف كان يفكر او سيفكر في الاعتداء على هذه القوي الجبار.. او غير ذلك مما لا يستسيغه منطق ولا عقل.. وعلى الرغم من ذلك فاننا نجد ما يدعو إلى الرضوخ له، وقبوله على كره ومضض ولكن الذي لا يمكن ان يقبله عقله، ولا يستسيغه ميزان، ولا يهضمه منطق، بل ما يضرب بالحقيقة والتاريخ العقل والمعقولية والمنطق عرض الحائط، إلى الدرجة التي تضع العقل في الكف كما يقولون هو آلية تعامل العقلية اليهودية مع العرب على مختلف مستويات التعامل، مع الحكومات، مع الناس، مع التاريخ، مع كل ما يخص العرب والذي يستحق الحديث عنه في هذا الاطار اكثر من الكثير بكثير!!!

 

سننطلق من آخر الاحداث وهو المجزرة اليهودية التي اقامها جند الاحتلال للفلسطينيين في الحرم القدسي الشريف قبل اشهر، التي طالت الاطفال قبل الرجال، وبصورة وحشية لا اظن ان التاريخ شهد لها مثالا او شبيها، ففيما يحتج الفلسطينيون بالحجارة والهتاف يقابلوهم جند الاحتلال بالرصاص الحقيقي والمدافع والمروحيات.. وعلى الرغم من ذلك تصدر الصورة إلى العالم على ان هناك مواجهات من العنف بين الفلسطينيين واليهود وكأننا في معركة حقيقية متكافئة السلاح والعدد والعتاد، وليصبح الضعفاء المنتهكون المعتدى عليهم هم المعتدون والامثلة التي تستحق الذكر جد كثيرة منها تصريحات كيلنتون واولبريت التي اظهرت الاحداث الدامية التي يفتعلها رصاص الغدر الصهيوني على انها احداث عنف متبادل: وكأن ثمة معركة متكافئة السلاح تدور بين العزل الفلسطينيين وجنود الاحتلال، بل المصيبة الاكبر من ذلك هي تصوير بل كلينتون ومادلين اولبريت لمصرع الطفل محمد الدرة على انه كان ضحية لتبادل اطلاق النار على الرغم من وضوح الصورة وضوحا يفقأ عين كل زيف او توشيه او حرف للحق عن مساره.

والادهى من ذلك كله ما حدث يوم الخميس 12/10/2000م عندما اسقط الثائرون الفلسطينيون قتيلين صهيونيين مقابل نحو مئتي شهيد فلسطيني فصرح الامين العام للامم المتحدة كوفي عنان قائلا: "ان قتل الجنديين جريمة بشعة لا يمكن السكوت عنها".. فسوغ بذلك للحكومة "الاسرائيلية"، وصرح ايهود باراك بمنتهى الصفافة ان مقتل هذين الجنديين فرض عليه استخدام كل الاسلحة في ضرب الشعب الفلسطيني بما لا يقل عن أي حرب ابدا!!! دون ان يخطر في بال أي منهما ذكر نحو مئتي شهيد اسقطهم رصاص الاحتلال وهمجية المستوطنين.. وكأن جنود الصهاينة وحدهم من البشر، وليس العرب من البشر ابدا. ان تركنا جانبا، ولن يسامحه التاريخ ابدا على ذلك، افيعقل ان يصدر مثل هذا عن الامين العام للامم المتحدة؟ ايعقل ان يتجاهل ارواح مئتي شهيد فيعدها نسيا منسيا اغتالتهم يد الغدر وهم عزل من السلاح عراة الصدور، اطفال ابرياء وشباب ابرياء.. ويثور لمقتل جنديين مدججين بالسلاح لو اتيح لهما لقتلا العشرات من الابرياء؟؟!! ايعقل الا تحتج وسيلة اعلام عربية على هذا التصريح الذي صدر عن ممثل الشرعية الدولية؟

واذا ما عدنا إلى التاريخ قليلا فكثيرا لوجدنا ان التاريخ اليهودي في الارض المحتلة، والمنطقة العربية ليس الا تاريخ مجازر واغتيالات من السهل البدء بعدها، ولكن من الصعب التوقف عن العد بحصر كل هذه المجازر، الحكومية المنظمة، والتي قام بها المستوطنون ، ولكن على كل حال لا يجوز ان يغيب عن اذهاننا مجازر: دير ياسين، قبية، غزة، اللد، الرملة، نحالين، كفرقاسم، الفاكهاني، صبرا وشاتيلا، قانا، الجنوب اللبناني، الحرم الابراهيمي اكثر من مرة وفي مقابل ذلك لم يقم العرب ابدا باي مجزرة من هذا النوع، ولا من نوع اقل وحشية من هذه المجازر بألف الف مرة، بل ان تعامل العرب مع اليهود على الرغم من احتلالهم الارض، وانتهاكهم العرض، تاريخ مليء بالرحمة والانسانية، ولا يمكن ان ينسى التاريخ سلسلة الحروب العربية اليهودية التي تفقأ عين كل جاحد بانسانية العرب ووحشية اليهود، فما من انتصار عربي الا واجهض بوقف اطلاق النار بهدنة تؤدي إلى تسلح اليهود وتحرم العرب من التزود باي سلاح، ليستمر القتال بحالة فاقعة من عدم التكافؤ. وما من انتصار يهودي امكن ان يتوقف الا بمجزرة او شبه مجزرة بحق العرب، والفلسطينيين منهم بشكل خاص وفي كل مرة تبدو الصورة امام العالم على ان العرب هم المعتدون، وان اليهود انما يدافعون عن انفسهم، على الرغم من سطوع الحقيقة سطوع الشمس في رابعة النهار.

إلى هذا الحد يظل الامر مقبولا في اطار علاقة الظالم بالمظلوم، والقوي بالضعيف، على عدم امكانية استساغته من الناحيتين المنطقية والعقلية. ولكن الذي لا يقبله ابدا أي عقل، ولا يمكن ان يقره أي منطق هو العقلية اليهودية التي لا تتصور العرب ولا تتحدث عنهم الا على انهم هم القتلة، هم المجرمون.. على انهم وضيعون، حقراء، لا يستحقون العيش..!! على الرغم من هذا التاريخ الطويل للمجازر اليهودية في حق العرب، والانسانية المفرطة من العرب في تعاملهم مع اليهود!!

الحق ان الذي دعانا إلى هذا القول هو ان غالبية الحكام العرب مصرون على تحقيق السلام مع اليهود مهما كلف ذلك من ثمن، ويضغطون على ياسر عرفات لتقديم التنازلات ما امكن لارضاء اليهود حتى ولو كان ذلك على حساب الكرامة العربية لا الفلسطينية وحسب.

هذا على الرغم من ان الحكومة اليهودية، واليهود في فلسطين يعلنون عدم رغبتهم في السلام، ورفضهم القاطع له، وعدم اعترافهم بامكانية تحقق السلام، إلى درجة تدعو حقا إلى الذهول التام، ففي تحقيق مصور مع اليهود في فلسطين، في برنامج حمل اسم (النار القادمة) عرضته قناة الجزيرة الفضائية يوم الثلاثاء 3/10/2000م، ظهرت المفارقات التي تفقأ عين المنطقة في الافكار والمواقف التي يحملها اليهود وتعشش في العقلية اليهودية في صلاتهم مع العرب فكل الذين التقاهم البرنامج: يرفضون السلام مع العرب ولا يؤمنون به. وكلهم تماما متفقون على طرد العرب لا تهجيرهم من فلسطين من دون تعويضات، ولعل واحدا فقط هو الذي وافق على دفع بعض التعويضات لهم ولننظر إلى بعض هذه النماذج لا كلها لانها شبه متماثلة ولا حاجة إلى التكرار:

ــ سئل احدهم عن رأيه في السلام مقابل الارض فقال بصفافة لا حدود لها: "اذا كان العرب يريدون السلام فيجب ان يعيدوا لنا جنوب لبنان والضفة الغربية والقطاع ودمشق وسيناء حتى النيل". وكأن اليهود هم الذين يمنون بالسلام على العرب، وكأن العرب هم المحتلون، المعتدون

ــ كل الذين سئلوا عن رأيهم في مصادرة الاراضي العربية لاقامة المستوطنات اليهودية وافقوا بشدة على مصادرة الارض العربية، وقال احدهم بالحرف الواحد: "يجب مصادرة الارض العربية من اجل اقامة المستوطنات لليهود.. والا فاين يمكن ان يعيش اليهود؟".

ــ سئلت احداهن عن السلام مع العرب، والمستوطنات فقالت بعقلية عدوانية متأصلة: "لقد اخطأ اليهود في عام 1967م لانهم لم يقوموا بطرد العرب كلهم من كل فلسطين، وقد كان بامكانهم ذلك.. لقد اخطأ موشي دايان عندما لم يقم بطرد العرب، لانه لو طردهم لعاش اليهود مرتاحين".

ــ سئل احدهم عن رأيه بامكانية قيام سلام مع العرب فقال بوقاحة غير غريبة: "نعم السلام ممكن معهم.. اذا رحلوا عنا ولم يبق واحد منهم هنا، عندها سيتحقق السلام لشعب "اسرائيل"". ولو اكتفى بذلك لكان الامر مقبولا على عدم قبوله، لان رحيل العرب وتركهم اليهود يعيثون في فلسطين كما شاؤوا ليس كافيا ليعيش العرب بسلام، فهو سلام لليهود فقط "وليس سلاما للعرب.." ويتابع قائلا : "اننا ندعو الله ان يزيلهم من الوجود.. هذه هي آراء الشعب "الاسرائيلي" كله..".

ــ وفي الاطار ذاته قال آخر: "ليمح اسمهم..لا مجال لاي تسوية، السلام غير ممكن مع العرب.. انا لا اقترح ترحيلهم بل اقترح طردهم من دون أي تعويضانهم قتلة".

ـ واخرى قالت: "الشعب الفلسطيني وضيع حقير، قادرون على الذبح والقتل في كل وقت..اليهود لا يستطيعون قتل ذبابة".

بل ان زعماءهم اكثر عدائية بما لا يقاس فكل رؤساء الحكومات "الاسرائيلية" منذ تأسيسها من اعلام الارهاب واصحاب السجلات الممتلئة بالجرائم والمجازر ضد العرب، وعندما سقط الشهداء الخمسة الاوائل في الانتفاضة الراهنة قال آرئييل شارن كما ذكرت جريدة لوي فيغارو الفرنسية: "هذا هو السلام الذي نريده". وقال بعد ايام، في الخبر ذاته، "انا لن ادخل مع باراك في الحكومة..ولكني سأقف معه بكل قوة طالما انه يقتل الفلسطينيين". فيما كان عوفاديا يوسف قد وصف العرب منذ نحو الشهرين بأنهم ثعابين وافاعي، وقد خلقهم الله ثم اسف على خلقهم!!!

والسؤال الذي يفرض ذاته بقوة : اذا كانت تلك المقدمات الوحشية اليهودية قد افرزت او ادت إلى هذه النتائج في العقلية اليهودية فماذا يمكن ان تكون النتائج لو ان العرب اقاموا مجزرة واحدة لليهود؟؟!! واذا كان اليهود بهذه العقلية الاكثر من عدوانية تجاه العرب على الرغم من كل ما فعلوه في حق العرب فاي سلام هذا الذي يمكن ان يكون مع هذه العقلية؟ واي منطق هو الذي سيحكم هذا السلام؟!

والذي يزيد الطين بلة، وهو ما يعرفه اليهود قبل العرب حق المعرفة، ويعرفه الغرب مثل اليهود، ويعرفه العرب انفسهم، ان العرب هم وحدهم في العالم الذين عاملوا اليهود معاملة انسانية، ان لم تكن كاملة الاحترام فانها الاكثر احتراما لليهود في العالم كله ولا ابالغ اذا قلت انها الاكثر احتراما حتى اللحظة الراهنة، على الرغم مما تبدو عليه السيطرة اليهودية في العالم، لان السيطرة اليهودية في العالم الغربي، واوروبا الشرقية ليس الا سيطرة على وسائل الاعلام، وبعض القوانين، وتدخل في السياسة، اما الناس فان حقدهم المضمر على اليهود، ومقتهم اليهود اكثر بكثير مما يحمله العرب لليهود من حقد على الرغم من احتلال اليهود ارض العرب!!!