* Moustafa Ghareeb* مصطفى غريب * العنصرية الصهيونية ـ المصادر والتجليات

العنصرية الصهيونية ـ المصادر والتجليات

 

د. محمد خالد الازعر
باحث فلسطيني ـ القاهرة


مقدمة:

عندما نحاول تفحص مكونات المنطق الصهيوني، انما نتحرى في حقيقة الامر، المصادر التي شكلت الجوهر العنصري للصهيونية، كواحدة من النظريات او المعمارات الفكرية العنصرية في العالم المعاصر. والمراد بذلك، ان اقوال القيادات الصهيونية الاسرائيلية وممارساتها التي يمكن معاينتها بشكل يومي تقريبا منذ بداية الصراع الصهيوني العربي، هي نتاج منطق عنصري، يمكن متابعته وتحديده من خلاله والظواهر التي كونت حشوه واعطته شرعيته من وجهة نظر هذه القيادات.

ان التفريق او التمييز بين هذا المنطق وبين ممارسيه العمليين مهم لمن اراد التكهن بالمدى الزمي الذي يمكن ان تستمر فيه المضامين العنصرية للكيان الصهيوني القائم حاليا. وهو امر مهم ايضا في معرض الرد على الزاعمين بان هذه المضامين مبعثها صيرورة الصراع مع العرب فقط لا غير. ذلك بان التأكد من وجود مصادر تغذي البناء النظري الصهيوني بابعاده العنصرية، يفضي الى توضيح الصلة بين مسار الصراع ومسار العنصرية الصهيونية. فالمسار الاول لا يصبح في هذه الحالة المسؤول عن المسار الثاني. بل العكس هو الصحيح، أي ان الصراع مرتبط بالعنصرية الصهيونية قياما وقعودا.

مثل هذا الطرح لا يحمل اخبارا مطمئنة لدعاة التسوية الصهيونية العربية. لان التسوية والحال كذلك، تحتاج ابتداء الى تفريغ الصهيونية من حشوها العنصري. ولما كان هذا التفريغ يغني تقويض البناء العنصري للصهيونية بالكامل، فان التسوية تكن مرتهنة بنبذ النظرية الصهيونية اصلا. وهي مهمة تكاد تكون مستحيلة في الظروف الطبيعية. وبصيغة اخرى. فان شرط التسوية المستديمة هو الهزيمة الساحقة لهذه النظرية ومطاردة مصادرها الاساسية، وبيان بطلانها وزيفها، تماما كما حدث مع العنصريات الاخرى المناظرة وابرزها النازية والفاشية.

وعلى ذلك، يكون من المفهوم كيف يؤدي فضخ الاصول المختلفة للعنصرية الصهيونية غرضا نضاليا، للانسانية بعامة، وللامة العربية بخاصة، فالانسانية معنية باستئصال الميول والنوازع العنصرية من اجل حياة افضل. وسبق للكثيرين ان جاهدوا في سبيل هذا الهدف، مثلما حدث في المعارك الكبيرة ضد الرق والعبودية وتصنيف الاجناس ودعاوى التفوق متعددة المنطلقات. والامة العربية، هي المتضرر الاول من تجليات العنصرية الصهيونية التي اضطلعت اسرائيل بتطبيقها، وهو امر شائع لا يشق على التوضيح، يعرفه كل من تابع تاريخ الصراع الصهيوني العربي منذ بزغ نجم الصهيونية السياسية في نهاية القرن التاسع عشر.

 

اولا ـ في مصادر العنصرية الصهيونية

نعالج في هذه النقطة السؤال التالي: من أي استقت الصهيونية السياسية حشوها وابعادها العنصرية؟ قبل ذلك، قد ينبغي لفت الانتباه الى الاديبات العربية التي عنيت بالشروح الصهيونية، قليلا ما حاولت التأهيل للاجابة عن هذا السؤال. لقد غلب على هذه الروح فضح الممارسات العنصرية للصهيونية والتشهير بها، فيما انحصرت جهود التعريف بالبنية التحتية لهذه الممارسات، أي اصولها النظرية والنصوص الاساسية الحافزة عليها، في بعض الزوايا البحثية. وعندما صدر قرار التشهير بالصهيونية كحركة عنصرية، لم تبذل جهود رديفة تستهدف الاضاءة حول هذه الاصول وتوضح ضرورة ملاحقتها داخل العقل الانساني، وبخاصة في عالم الغرب الداعم لـ”اسرائيل” كيان الصهيونية السياسي.

 

1 ـ المصدر التوراتي:

الرواية التوراتية(1) تؤكد ما يقوله معارضو النظريات العنصرية من انه لا سبيل الى التنصل، مهما كانت طموحات المفكر العنصري، من الاصل المشترك لكل البشر. غير ان التوراة تاخذ في افتراق عن العلم بعد ذلك. فبينما يؤكد العلم اهمية ما تباشره عوامل البيئة والنماذج والاختلاط بين السلالات عن طريق الهجرات والغزو والتزاوج من تعديل وتطوير للخصائص الموروثة، يبدو واضحا من تحرير الاحبار للعهد القديم ان مفهوم الخصوصية والانفراد العرقي تسلط على اذهانهم(2).

احبار العهد القديم لا يكفون على مدار ما حرروه عن تحذير قومهم، على لسان الاله، من الاختلاط بالاقوام والامم الاخرى (الجوييم) لان المخلوقات التي تتألف منها تلك الامم ليست في حقيقتها مساوية لليهود. فلكي يكون الانسان انسانا لا "امميا" يجب ان يكون مولودا من رحم يهودي مبارك.

هناك نصوص توراتية تؤكد هذا التمييز الابتدائي باذن الرب، بل وتبين غضب الرب وغيرته على مصلحة النقاء القبلي اليهودي وانزاله السخط باية "زانية" ضاجعت جوييما(3).

قضية النقاء العربي هذه ، والحرص عليها، لم تات لغرض عرضي في التوراة، فهي تؤدي وظيفة محددة، انها تمهد لعملية الاصطفاء الالهي للشعب اليهودي، وهو الاساس الذي تقوم عليه فكرة الاختيار والتفوق على كل الاجناس والمخلوقات غير اليهودية.

ففي سفر التثنية (اصحاح 7) يرو ما يلي: "اياك قد اختار الرب الهك لتكون له شعبا اخص من جميع الشعوب الذين على وجه الارض مباركا يكون فوق جميع الشعوب، لا يكون عقيم ولا عاقر فيك ولا في بهائمك" وجاء في سفر الخروج (اصحاح 19): " وانتم تكونون امة مقدسة".

وقد تم تعريف ابناء هذه الامة منذ بدء الخليقة تعريفا دقيقا لا يترك مجالا للتشكيك في تسلسلها. وتولى هذه المهمة سفر التكوين "هذه مواليد سام... وهذه مواليد تارح (والد ابراهام) الى ان يموت تارح في حاران عن مئتين وخمسين سنة...".

والغرض من شجرة العائلة هذه التي وردت في الاصحاح 11 من سفر التكوين وفي اصحاحات اخرى سابقة، تعقب اصول ابراهام الاب التقليدي لـ”اسرائيل” وانحداره من آدم، ولتبين التوراة (الكهنة والاحبار) على وجه الخصوص ان ابراهام، وبالتالي اسرائيل ايضا، وانحدار من الانسان الاول وفي خطر مباشر من الابن البكر، وان شعب اسرائيل ـ تبعا لذلك يمثل صفوة الجنس البشري(4).

ينطوي النص التوراتي على عقود بين الاله وشعب اسرائيل لها ابعاد سياسية وجيوبولتيكية واضحة، تبدو فيها افضلية هذا الشعب على جميع شعوب الارض. ففي سفر التثنية (اصحاح 28) يترتب على عبادة يهوه دون الالهة الاخرى المكاسب آلاتية بالنسبة لهذا الشعب:

ـ سيبيد امما عديدة ويبقى هو (الشعب اليهودي).

ـ سوف يجعله يهوه "مستعليا على جميع قبائل (شعوب) الارض.

ـ سوف يجعله يهوه "راسا لا ذنبا". ويظل نجمه في صعود فلا ينحط ابدا.

ـ سوف يتخذه يهوه لنفسه "شعبا مقدسا كما حلف له".

ـ وسوف ترى كل الشعوب ذلك "فتخاف منه".

ـ وسوف يؤمن له يهوه الانتصار دائما على اعدائه، ويجعل كل من عاداه منهزما امامه، هاربا من وجهه.

ـ وسوف يعطيه يهوه "الارض التي حلف لابائه ان يعطيها لهم".

يمنح العهد القديم كل هذه المزايا لشعب اسرائيل اذا هو ادى فروضا بعينها للاله، لكن هذا الكتاب يذهب الى ما هو ابعد من ذلك، حين يجعل من الانسانية عبيدا بالفطرة ـ وليس فقط بالعقد المذكور اعلاه ـ لبني اسرائيل. فحتى كتاب كفاحي لهتلر لم يتجرأ على ان يجعل الانسان عبدا وهو بعد جنينا في بطن امه، كما فعل العهد القديم، الذي جاء فيه: " فقال لها الرب في بطنك امتان. ومن احشائك يفترق شعبان شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد الصغير.."، (التكوين ـ اصحاح 25). وفي اصحاح 27 من التكوين جاء: "جعلته سيدا لك، ودفعت اليه جميع اخوته عبيدا".

كان العهد القديم يعرض حقوق الانسان للخطر، ويقدس هذا الامتهان حين يكرس هذه الطبقية بالميلاد. وهو يمتهن كرامة الرب ذاته احيانا اكراما لبني اسرائيل. فهو يصوره ربا عنصريا منحازا لبني اسرائيل ضد باقي البشرية. بل وعنصريا حتى لحيواناتهم ضد باقي الحيوانات "ان الرب يميز بين المصريين واسرائيل" (خروج ـ اصحاح 11) ويميز الرب بين مواشي اسرائيل ومواشي المصريين (خروج ـ اصحاح 9).

كذلك يصور العهد القديم الرب على انه يعلم بني اسرائيل في اللصوصية ".. فيكون حين تمضون ـ من ارض مصر ـ انكم لا تمضون فارغين، بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها امتعة فضة وامتعة ذهب وثيابا، وتضعونها على بنيكم وبناتكم، فتسلبون المصريين" (خروج ـ اصحاح 3) (5).

شعب اسرائيل هو توراتيا شعب خاص والهه اله خاص. وحينما يقع الاختيار على احد المصلين (اليهود طبعا) لقراءة التوراة، عليه ان يحمد الاله لاصطفائه هذا الشعب دون الشعوب الاخرى، ولمنحه التوراة علامة على هذا التمييز.

ولهذا الاصطفاء تفسيرات كثيرة لدى حاخامات اليهود لكن الفكرة تبقى واحدة في تأكيدها على قضية الانعزال والانفصال عن الآخرين، تعبيرا عن القداسة.

وجاء في التلمود ان جماعة اسرائيل يشبهون حبة الزيتون، لان الزيتون لا يمكن خلطه بمواد اخرى. ولا تختلف التفسيرات التي اسديت للاختيار الالهي لهذه الجماعة (الشعب) على مسالة القداسة والتمييز. فقد ورد في التلمود "كل اليهود مقدسون.. كل اليهود امراء.. لم تخلق الدنيا الا لجماعة اسرائيل.. لا يدعى احد ابناء الاله الا جماعة اسرائيل.. لا يحب الاله احدا الا جماعة اسرائيل..".

وفيما عدا هذا الاتفاق، تذهب التفسيرات اليهودية الى ان الاختيار الالهي لهذا الشعب هو: علامة على التفوق، او هو تكليف ديني، او هو سر من الاسرار الالهية التي لا يستغني فيها الناس.(6) وهي تفسيرات كفلت للحركة الصهيونية الادعاء بما لم يدع به غلاة العنصريين، وهو انما تمثل شعبا يقوم تميزه واختياره بامر الهي يخرج عن طاقة الخلق. والشيء الملفت في هذا السياق، ان الحركة تمكنت من استدراج عقول كثيرة، مفروض انها متحررة ومستنيرة ومتمسكة بالتجريبية العلمية ـ او بالحيادية الدينية ـ الى تصديق ذلك بالادعاء والدفاع عنه.(7)

على ان التصديق طاول ايضا قوى دينية مسيحية، انتهى بها الامر الى تبني فكرة الوعد الالهي التوراتي للشعب اليهودي في ارض الميعاد. ومن المعلوم تماما في الوقت الراهن، ان هذا التضامن مع التفسير التوراتي هو المسؤول الاول عن نشوء الصهيونية غير اليهودية بين يدي عوالم مسيحية واسعة الانتشار. ومن ثم غلو الصهيونية اليهودية في مضامينها سلوكها العنصري، وتعقيد قضية الصراع الصهيوني العربي والنضال ضد هذه المضامين.(8)

وعندما تدعي الحركة الصهيونية انها ليست حركة عنصرية. . . وكيف تكون كذلك وهي التي تسعى لتحرير اليهود من الذين اذاقوهم الامرين بعنصريتهم كالنازية؟ هي عندما تفعل ذلك، انما تبدو متسقة مع ذاتها، لان عنصريتها لا تتأتى من مزاعم لون الشعر والبشرة والاصل العريق بالمعاني التي تزعمها العنصريات الاوروبية الاخرى، انها عنصرية بمعنى ومضمون ليس لهما نظير، تقوم على خصوصية لا يستطيع أي جنس اخر ادعاءها. خصوصية الهية يقررها العهد القديم بالفم الملآن وباصرار لا يحيد.

الصهيونية بصيغة اخرى، تضطلع بتأطير الخصوصية التي اضفاها الاله على المجموعات البشرية المندرجة تحت مسمى "السامية" و "الجنس اليهودي" على اساس من مقومات ثقافية هي الدين والخاصية القبلية النقية التي تقتصر على من يخرج الى هذا العالم من رحم يهودي.(9) ولا يصح في هذا الاطار القول بان الصهيونية شيء والفكر التوراتي شيء اخر، او ان الزعماء الصهاينة او الاسرائيليين هم مجموعة من الملحدين في معظمهم.

فالسيدة غولدا مائير رئيس وزراء اسرائيل الراحلة صرحت لصحيفة لوموند الفرنسية في 15/10/71 "وجد هذا البلد (أي اسرائيل) تنفيذا لوعد الرب ذاته، ولهذا لا يصح ان نسأله ايضاحا عن شرعية ذلك الوجود" ومن اقوال مناحيم بيغين رئيس الوزراء الااسرائيلي الراحل ايضا، طبعا لصحيفة دافار في 14/12/78 "لقد وعدنا هذه الارض ولنا الحق فيها" اما موشي ديان الزعيم الصهيوني الشهير فقد ذكر لصحية جيروساليم بوست في 10/8/67 "اذا كنا نملك الكتاب، واذا كنا نعتبر انفسنا شعب التوراة، فينبغي ان نمتلك ايضا ارض التوراة، بلاد القضاة، ارض اورشليم وحبرون واريحا، واماكن اخرى".

لا يمكن عزل البعد التوراتي عن الصهيونية وزعمائها بغير ارتكاب خطأ وحرفي جسيم في توصيف جذور العنصرية الصهيونية. ولا يعد ذلك التعلق بالدين لتبرير الاستعلاء او الاستيلاء والسيطرة خاصة اصطنعتها الصهيونية، ذلك بان المبرر الديني كان في حالات اخرى وسيلة ناجعة للغزو الاستعماري واستعباد الآخرين او حتى ابادتهم.(10) وتظهر تجليات هذا المبرر بالنسبة للصهيونية في اكثر من منحى سلوكي وقانوني تجاه الآخرين، كما سنرى في موضع لاحق.

 

2ـ المصدر الاوروبي: القوميات الشوفينية والعرقية:

تنطلق الصهيونية من توليفة من الافكار العلمانية الشاملة التي شاعت في الحضارة الغربية في القرن التاسع عشر. ولعل اهم هذه الافكار هو الفكر العنصري او العرقي الذي يرى البشر جميعا مادة، ولذا فالاختلاطات بينهم مادية، كامنة في خصائصهم العرقية والتشريحية، ومن هنا تبرز التباينات العرقية (لون الجل، حجم الرأس، لون العيون الخ) كمعيار للتمييز بين البشر، والخصائص الحضارية ورقي شعب ما وتخلفه نتيجة لصفاته العرقية والتشريحية المتوارثة. وقد تبنت الصهيونية هذا الفكر بعد ان تأثرت به. فهي تفترض في صيغتها السياسية ان ثمة شعبا عضويا يحوي داخله خصائصه العرقية والاثنية. وهو شعب غير نافع في محيطه الاوروبي ويمكنها توظيفه ليتحول الى شعب نافع خارج اوروبا.

النظرية العرقية الاوروبية التي اختلطت بمشاعر الاستعلاء القومي عبرت عن ذاتها داخل اوروبا وخارجها. وقد تأثرت الصهيونية بهذين التعبيرين على السواء.

داخل اوروبا، طبق منظرو العرقية النظرية ذاتها على شعوب اوروبا واقلياتها. فاتجه الالمان الى وضع الآريين، على راس الهرم. كما وضع الانكليز العنصر الانجلوسكسوني عند هذه القمة. وكان هناك من السلاف من فعل ذلك، وقد ظهرت ادبيات عرقية معادية لليهود، تحاول اثبات عدم انتمائهم لاوروبا وانفصالهم عنها حضاريا او عرقيا كما تحول اثبات تدينهم.

وخارج اوروبا، بدت الشعوب الملونة كشعوب متخلفة حضاريا وعرقيا. على حين ان الرجل الابيض متقدم حضاريا، ويقع عليه عبء تمدين الآخرين، حتى لو تكلف الامر غزوهم وهزيمتهم او ابادة بعضهم.

لقد تبنت الصهيونية كلا الجانبي من هذه النظرية العرقية، فاستخدمت النظرية من جانبها الاوروبي لتفسير ظاهرة نبذ الشعب اليهودي وضرورة نقله، واستخدمت لنظرية في مجالها العالمي لتبرير طرد العرب من بلادهم.(11)

نلمس هذا التداعي بين النظريات العرقية الاوروبية والنظرية الصهيونية من اقوال وافكار دعاة الصهيونية الاول، الذين نهجوا على منوال مناظريهم من مفكري ومنظري العرقية الاوروبية.

ففي عام 1853، نشرت العنصرية الاوروبية عمدت كتبها وهو كتاب جوبينو "مقال في عدم المساواة بين الاجناس البشرية". وتبعه في العقدين التاليين من القرن التاسع عشر موجة العنصرية وما عرف بالعداء للسامية. وكان محور الموجة الايمان الشوفيني بالقومية المتفوقة المستندة الى الدم والارض. بحيث اضحت الاصول العرقية وفقا لهذه الموجة ذات تاريخ ومصائر ورسالات. وقد كان الابطال المبرزون في هذا الميدان المفكرين الالمان دعاة الجامعة الجرمانية ثم السلافية.

لم يمض سوى عقد واحد بعد جوبينو وكتابه المهووس بالعرقية وصراع الاعراق، حتى ظهر كتاب "روما والقدس" لواحد من اهم اباء العنصرية الصهيونية هو موسى هس (1811-1875). وفيه ترددت عبارات القوميين الالمان الشوفينيين مكتسية عملية اسقاط كاملة على اليهود واليهودية كقومية. اذ تحدث هس عن المقدرة والعبقرية الخلاقة لدى الامة اليهودية، وعن الشعب الذي يعيد نفسه الى مجرى التاريخ، الذي اهمله العقلانيون اليهود، وعن اليهود الذين هم حيثما كانوا مركزا روحيا للشرق والغرب.

وتشيع النظرية الحيوية التطورية، المتأثرة بمفاهيم الدارونية الاجتماعية عند العرقيين الاوروبيين في كل صفحات كتاب "روما والقدس"، وتردد العبارات ذاتها حول الصراع والبقاء للاقوى والاصلح.

لا توجد خصلة طيبة ولا مجال للفخر القومي العرقي الا واضفاها هس على ما عرفه بالعرق اليهودي. فهذا العرق، "هو الذي لعب الدور الاكبر في تاريخ العالم، وهو مدعو من جديد للنهوض بدور اكبر في المستقبل. والشعب اليهودي هو الوحيد عالميا الذي له دين قومي وعالمي. وبفضل اليهودية اصبح تاريخ الانسانية تاريخا مقدسا. وبالقدر نفسه فان هذا الشعب الذي يملك الدين التاريخي القومي والعالمي هو شعب اللهالخ"(12) وفي حقيقة الامر، فان مضامين "روما والقدس" ومحتوياته، تكاد تنافس اعتى الكتب غلوا في الانبهار بالعرقية العنصرية في عصرها الذهبي في اوروبا.

ومن هنا بالتحديد تأتي مبررات المحاكمات بين الصهيونية والنازية، فكلاهما منغرس بجذوره في الفكر العرقي العنصري، وبخاصة الحركة الجرمانية الجامعة. اذ تقوم هذه الحركة على الفكرة القائلة بان جميع الاشخاص المنحدرين من العرق الالماني او تربطهم قرابة الدم والاصل الالماني، حيثما وجدوا، والى اية دولة ينتمون، يكنون ولاءهم الاول لالمانيا ويجب ان يصبحوا مواطنين في الدولة الالمانية، وظنهم الحقيقي، قد يكونون نشأوا في بيئات غريبة، هم واباءهم واجدادهم، لكن حقيقتهم بقيت المانية.(13)

واثر هذا المفهوم على الفكرة الصهيونية النظيرة حول وحدة الشعب اليهودي الصوفية غني عن البيان. فاليهودي يبقى يهوديا في كل زمان ومكان، وولاؤه يتجه بالدرجة الاولى للدولة اليهودية.

ويمثل الاهتمام بالدولة كتجسيد لروح الشعب، عاملا مشتركا بين الصهيونية والنازية، كما انهما يتحاكيان في الاخذ بآراء داروين عن التطور الطبيعي وقانون البقاء للاصلح الذي يفترض ان يحكم التطور التاريخي الاجتماعي. ولذا يصبح العنف مشروعا بل منطقيا وحتميا، وتكون العنصرية نمطا طبيعيا واساسا علميا للحياة.

 

3ـ المصدر الاستعماري الاستعلائي:

تولد هذا المصدر في رحم الافكار العرقية العنصرية التي اجتاحت الساحة الاوروبية منذ عصر الكشوفات الجغرافية، وبلغت اوجها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وتقع مظاهر الاستعلاء والتفوق الاوروبي الحضاري عموما في صلب البواعث الحاثة على الاستعمار. حتى لو كان الامر لا يعدو ذريعة معلنة لتبرير السيطرة على الآخرين ومواردهم، وهو كذلك بالفعل، فقد ترك تاثيرا اوروبا قويا على النظرية الصهيونية.

فمثلما كان الشعور بالتفوق الاوروبي هو الخلفية الذهنية للاستعمار بانماطه، فان استشعار الصهيونية للتميز والتفوق اليهودي على النحو المشار اليه اعلاه، مثل الخلفية الذهنية الموازية لاستباحة الاستعمار الصهيوني فلسطين وجوارها.

كان المنظرون الاوروبيون للاستعمار ينسبون التفوق الاوروبي لعدد من العوامل، كالمسيحية والديمقراطية ونظم الحكم المتطورة والتقدم التقني وكان ذلك لديهم مبررا للتمييز الاوروبي وذروة القيام بعملية نشر الحضارة الاوروبية على الصعيد العالمي، لتمدين الآخرين واوربيتهم. شملت هذه العملية التبشير بالانجيل والتوراة وانشاء علاقات تجارية مع "البرابرة"، تتيح لهم التعرف على منتجات الحضارة الغربية.(14) وكان لا بد لهذه العملية ان تتم بالسيف أي بالاكراه، والاكراه هنا مبرر بمثل تبرير سطوة الاب على القاصرين.

وبذلك، فان العملية الاستعمارية تنجم عن فكرة عنصرية، أي دعوى التفوق على الآخرين، لكنها في الممارسة ايضا تقوم بانتاج الفكر العنصري، علاوة بالطبع على تجلياتها العنصرية.

الحركة الصهيونية ظهرت وطرحت مشروعها الاستعماري الخاص بها في هذا الاطار الاوروبي العام. فمثلما ان للغرب رسالة حضارية، فانها صاحبة رسالة مماثلة في محيط فلسطين. لقد استغلت الحركة الصهيونية الروح الاستعلائية العنصرية المغلّفة للتروع الاستعماري الغربي، وروجت لمقولاتها عن دورها في فلسطين، التي ستتحول الى جنان خضراء بفعل معاول المستوطنين الاوروبيين في حضارتهم الام، وكان ذلك يناسب الرؤية الغربية باعتبار ان الصهيونية ويهودها سوف يكونون مركز اشعاع حضاري اوروبي (غربي) في هذه المنطقة من العالم.

يقول هرتزل في كتابه: "الارض القديمة الجديدة" ان اليهود لن يفعلوا شيئا للارض القديمة الجديدة (فلسطين) سوى نقلهم المؤسسات المتحضرة اليها". ومثل هذه المزاعم وجدت صداها في الغرب، ليس فقط لاتساقها مع الفكر الذي دأب على التهوين من شان الآخرين،(15) وانما ايضا لان الغزوة العنصرية الصهيونية جزء ضئيل من الذين انتجوا هذا الفكر.

مؤدى ذلك، ان العنصرية الاوروبية وصعود الدارونية الاجتماعية، كانت الموجه الفكري للمد الاستعماري وحركة التوسع الاستعماري. وقد ارتبطت  الصهيونية بهذا المد ارتباطا حميما. فالصهاينة الاوائل ايدوا الغزو الفرنسي للجزائر.

وقبل هرتزل بكثير، كان موسى هس قد دعا الى الاستحواذ على ارض قومية مشتركة لليهود، كشرط ضروري لتأسيس مجتمعات زراعية وصناعية وتجارية تطبق المبادئ اليهودية "وبهذه المجتمعات تستطيع الامة المستعادة ان تقوم كحارس على ملتقى القارات ومعلم للشعوب الشرقية المتخلفة".(16)

هس هنا، يتخيل دورا خاصا للدولة اليهودية داخل اطار التمدن والتحضر الذي تضطلع بهما دول الغرب في ركاب فتوحاتها وغزواتها. وفكرته هذه هي التي سيصوغها هرتزل بعد ذلك في وصف الدولة اليهودية بانها "سويسرا اليهودية" التي تقوم كنموذج ومثال لليبرالية الارستقراطية بين امم الشرق المتخلفة.

الان وبعد اكثر من مائة عام على تصورات اباء الصهيونية الاوائل، نلاحظ ان قضية الاستعلاء الاستعماري العنصري ما زالت احدى لوازم الحركة الصهيونية ودولتها الاستيطانية. فعندما يتحدث القادة الصهاينة عن "الشرق الاوسط الجديد"، كما هو حال شيمون بيريس في كتابه المعنون بذلك، فانهم يعيدون انتاج مقولات المؤسسين عن التفوق اليهودي ورسالة تحضير او تمدين الآخرين ـ الذين هم العرب ـ في ظروف اقليمية ودولية مغايرة.

ان مثل هذه الاعمال الفكرية (المشروعات المتصورة) ليست سوى صدى معاصر للفكرة الام التي رددها هس وهرتزل ونظراؤهم من قبل، مستلهمين تيارا غربيا عاما كان مشغولا بما سمي رسالة الرجل الابيض.

في سبيل تطبيق هذه الفكرة الرسالة، لم يلتفت اصحابها الى المعاناة التي حملتها ممارساتهم للشعوب التي استعمروها. وقد اشرنا الى ان جانب الاكراه والغصب كان احد مداخل هذا التطبيق.(17) لقد كان الاعتقاد السائد لدى القوى الاستعمارية، ومنها الصهيونية حركة ودولة، انها مبعوثة العناية الالهية لاداء واجب مقدس. وبالنسبة للصهيونية بالذات، فقد تماثلت في فكرها ودعوتها مع المستعمرين الاستيطانيين، الذين ترتب على انتشارهم اما استعباد شعوب بالكامل او ابادتها تقريبا بالكامل. حدث ذلك في الامريكيتين واستراليا وجنوبي افريقيا، ومازال يحدث في فلسطين.

 

ثانيا: في تجليات العنصرية الصهيونية

استدعاء عدد لا حصر له من مظاهر العنصرية الصهيونية على الصعيد الحركي العملي، السلوكي، يعد من الاهداف الهينة. فالعنصرية في الصهيونية السياسية بناء متماسك يهيمن على كل تشريعات دولة اسرائيل واعمالها. وليس على من ينشد هذا الهدف، الا متابعة الهيكل القانوني السياسي الذي اشتقته النخبة الحاكمة منذ ميلاد الدولة. كما ان سجل اسرائيل في المحافل الحقوقية الدولية، ذات الصلة برصد الميول والمسلكيات العنصرية وحالات حقوق الانسان، مفعم بالحقائق حول التجليات العنصرية لهذه الدولة. بل ولدى من يهمهم الامر، مراصد مختصة بهذه التجليات من بين الاسرائيليين انفسهم، كشهادة من اهل البيت.

على ان الفيوض السلوكية العنصرية لم تكن نتاجا لقيام الدولة. ففي عهد الييشوف الصهيوني، قبل سنة 1948 بكثير، ما يعتد به في هذا الاطار، فالممارسات التمييزية، كانت تحف بسياسات الحركة الصهيونية وهي بعد في مرحلة اعداد المسرح لاعلان الدولة.

البارز في هذا السياق هو ما عرف بسياسة تحرير الارض والعمل العبري. فعندما اقام العماليون الصهاينة ـ الجناح الموصوف تعسفا بالاعتدال ـ مؤسستهم الشهيرة "الهستدروت" عام 1920، اصروا على استبعاد العمال العرب منه كمنظمة نقابية للعمال. ولم تشطب كلمة "اليهود" أي اتحاد العمال اليهود من اسم النقابة (المنظمة) لا بعد 45 عاما من التاسيس.

ولم تكتف الزعامة العمالية الصهيونية بالاصرار على سياسة العمل العبري، بل حاولت حمل السلطات البريطانية على تبني هذه السياسة ومنح افضلية للعمال والموظفين اليهود في ورش الحكومة ودوائرها. وفي بعض المناسبات طالبت السلطات بان تدفع للعمال اليهود اجورا تزيد على تلك التي تدفع للعرب لقاء العمل ذاته. وقد بررت طلبها ذاك بادعاء عنصري صريح مفاده "ان المتطلبات الثقافية للعمال اليهود تزيد عما يحتاجه العمال العرب".

وقد بلغت العنصرية في هذا المضمار حدا ادى بالزعامة الصهيونية لاتخاذ بعض الاجراءات الطريفة لمنع العرب من العمل مع مستخدمين يهود. فقد اضطرت هذه الزعامة لمنح اجازات لطلاب الدراسة الثانوية اليهود من اجل الحلول محل العمال العرب وقت الحاجة. كذلك اقيمت الحراسات على المزارع والمصانع التي يملكها او يديرها اليهود لاجل منع العمال العرب من الدخول اليها.

ويلاحظ في المناسبة، ان عملية الفصل العنصري هذه قد نالت تأييد مثقفين صهاينة، اعلنوا تضامنهم معها في ذلك الحين. ومنهم "يوسف عجنون" الذي حصل على جائزة نوبل في الادب في وقت لاحق.(18) وبمرور الوقت وزيادة قوة الكيان الاستيطاني، تطورت مسالة الفصل بين العمال والموظفين اليهود والعرب الى قطيعة كاملة بين المجتمع الفلسطيني الاصل تجمع المستوطنين على جميع الصعيد. وهو الاجراء العنصري الذي مهد لصدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947. ووفقا لهذا التوجه اخرست الحركة الصهيونية بتنظيماتها المسلحة أي صوت يدعو لحل ديمقراطي بين الجانبين، واستعدت تماما لعمليات التطهير العرقي ضد ابناء المجتمع الفلسطيني الاصل، الذي ادى الى تداعيات النكبة الفلسطينية المعروفة غداة 1948-1949.

وليس من المدهش، وقد ادركنا الخلفية العنصرية لمكومات الفكرة الصهيونية، ان تظل قضية نقاء الدولة اليهودية العرقي احد ابرز هواجس الحركة الصهيونية ودولتها الاستيطانية على مدار القرن الماضي وصولا الى الوقت الراهن. لقد اكتشفت الصهيونية ان فلسطين ارض لها شعب لا كما ثار ادعاؤها مطولا، وكان من الصعب عليها تحمل عبء هذه الحقيقة في ظل فكرة النقاء اليهودي / العرقي لدولتها المزمعة. ورغم عمليات الطرد والابادة والتهجير والتضييق الاجتماعي والاقتصادي التي اتبعت بحق هذا الشعب، فان ابناء المجتمع العربي الفلسطيني الاصل مازالوا هناك.

واذا كان اباء الصهيونية الاوائل قد ارهقتهم هذه الاشكالية، فان خلفاءهم الحاليين ما انفكوا يواجهونها بطرائق عنصرية جهنمية. وكما تحدث بن غوريون اول رئيس وزراء لـ”اسرائيل” عن كيفية التعامل مع هذه الاشكالية فان ايهود باراك يردد بعد اكثر من خمسين سنة اصداء زعيمه الراحل، ويقترح الفصل بين الشعبين.(19)

وفي حقيقة الامر فانه ما من مصدر فكري سياسي ديني مزعوم او موضعي، الا وكان له انعكاس بين على الممارسات السياسية للحركة الصهيونية وكيانها السياسي.

1ـ فالمصدر التوراتي متغلغل بوضوح في تقاليد العنف الصهيوني الااسرائيلي التي حفت بالممارسة السياسية على الصعيدين المدني والعسكري، قبل قيام الدولة وبعده، ويمكن التمثيل لتاثير هذا المصدر ايضا من واقع السجلات العنصرية للقوانين الحاكمة في اسرائيل.

فيما يتعلق بتقاليد العنف، فان الحرب تعتبر عملا مقدسا بالنسبة لـ”اسرائيل”. ذلك انه "اله اسرائيل هو في الوقت ذاته رب الجيوش، محارب شديد، يقود شعبه بعنف وغلظة". وترتيبا على ذلك، فان حروب اسرائيل كلها تصور على انها حروب مقدسة. وفي ذلك ذكر موشي جورين حاخام الجيش الااسرائيلي ابان حرب 1967، "ان حرب اسرائيل مع العرب مقدسة. دارت اولاها لتحرير ارض اسرائيل، والثانية لتثبت اركان الدولة والثالثة ـ يقصد حرب حزيران 1967 ـ لتحقيق كلمة انبياء اسرائيل".(20)

وفقا لهذا التقرير والتكييف الذي يصل الممارسات العسكرية بالحق اليهودي التوراتي واوامر التاريخ اليهودي، يجري تدبير المظاهر العنصرية لهذه الممارسات. فالاستيلاء على ارض الغير هو تنفيذ لوعد الرب بارض الميعاد، والحرب العدوانية هي تنفيذ لوصايا الرب للجنود. ولان التوراة تزخر بالآيات التي تحض على اقصى درجات القسوة والوحشية، فان المؤسسة الصهيونية الاسرائيلية لا تزعجها الاتهامات الخاصة بالممارسات الاانسانية وصفات العنصرية التي تجابه بها ممارساتها وقت السلم والحرب.

تقول التوراة: امامك هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب الهك نصيبك، فلا تستبق منها نسمة ما (سفر التثنية)، وهي تستعرض مختلف اساليب الدمار والعنف كضرب اهل المدن بالسيف الذي هبط مع التوراة من السماء، والقضاء المبرم على كل من فيها، واحراق امتعتها. وهذه الانماط تندرج تحت ما يعرف الان بالابادة الجماعة والعقاب الجماعي.

كذلك تلزم التوراة المحاربين اليهود باساليب تخرج عن كل الشرائع المعروفة وقت الحرب. فتنادى بان "تحطم اطفالهم امام عيونهم، وتنهب بيوتهم، وتفضح نساؤهم، لا يرحمون ثمرة بطن ولا تشفق عيونهم على الاولاد" (سفر اشعيا). وتكاد ممارسات جنود الاحتلال الصهيوني في فلسطين تكن تطبيقا حرفيا هذه الوصايا، لا سيما وقت الانتفاضة 1987ـ1993.

لقد حولت الصهيونية العهد القديم الى فولكلور للشعب اليهودي. وهو كتاب تفيض صفحاته بوصف حروب كثيرة، خاضتها جماعة اسرائيل مع الكنعانيين وغيرهم، فابادتهم او طردتهم من الارض. وذلك يجري بارادة الهية. اذ الاله يبارك يد هذه الجماعة التي تقوم بالقتل والنهب.

العنف اذن تجاه الآخرين، يستند الى الموروث الديني، وهو يشكل احد اهم روافد المدركات الصهيونية لكيفية التعامل مع (الجوييم) أي الاغراب. وقد بلغ هذا العنف ذروته في الادراك الصهيوني للعرب. ففي مرحلة من المراحل، صمتوا ازاء الوجود العربي (في فلسطين)، وحاولوا اغماض اعينهم عليه واسكات الاصوات الداعية لاخذه بعين الاعتبار. فحينما امر ستتم تسويته فيما بعد. وكان هرتزل يعرف كيف تتم تسوية امر كهذا من خبرة الاستيطان الامبريالي.(21)

وقد عرفنا خلال القرن الماضي كيف تمت بالفعل هذه التسوية، وكيف كانت النصوص التوراتية، التي كتبها حاخامات مهوسون بشهرة العنف والانتقام والاستعلاء العنصري، مبعث الهام للتعامل الصهيوني الااسرائيلي مع العرب بعامة، والسكان الاصليين في فلسطين بخاصة.

2ـ وفيما يتعلق بالوثائق القانونية الاهم في اسرائيل، فانها بدورها تعكس بصدق المثل التوراتية العنصرية التي البستها الصهيونية اردية سياسية عصرية. ولنتأمل في هذا السياق، نص اعلان استقلال اسرائيل، الذي يصل ما بين التجمع الاستيطاني المعاصر وميراث التاريخ اليهودي كما وصفه حاخامات التوراة.

يقول الاعلان "ارض اسرائيل هي مهد الشعب اليهودي. هنا تكونت شخصيته الروحية والدينية والسياسية. وهنا اقام للمرة الاولى. وخلق قيما حضارية ذات مغزى قومي وانساني جامع، وفيها اعطى للعالم كتاب الكتب الخالد..الخ"(22)

الدولة الصهيونية هي دولة اليهود، شعب التوراة، فاذا كان الامر كذلك فانه من الطبيعي ان يتمتع فيها اليهود، بحكم الديانة، بوضع تمييزي خاص.

وقد تمت عملية التمييز هذه بالقوانين الاساسية للدولة.

هناك، على سبيل المثال ـ القانون الخاص بالمنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية لعام 1952. الذي ينشىء رابطة بين كل يهود العالم واسرائيل متجاوزا في ذلك، الاوضاع القانونية والسياسية المنظمة للوجود اليهودي في دولهم الام. وهو امتياز عنصري تتفهمه بسخافة دول كثيرة.

وهناك القانونان العنصريان الابرز المتعلقان بالعودة والجنسية اللذان يؤكدان احقية اليهود في كل مكان بالاستيطان في فلسطين المحتلة كميراث للشعب اليهودي في أي وقت اراد هؤلاء. ولما كانت الدولة اليهودية ترفض حق العودة الفلسطيني المقر بالشرعية القانونية الدولية، فانها بذلك تكون قد ارتكبت تمييزا عنصريا مزدوجا.(23)

فهي من ناحية تعلن عن جوهرها الديني ومسعاها للنقاء الديني، وتفصح في الوقت ذاته عن عصيانها للشرعية الدولية العامة (حق العودة المقررة في الشرعية الدولية لحقوق الانسان) وللشرعية الدولية الخاصة بالشعب الفلسطيني (حق العودة المقر بالقرار 194 لعام 1948).

وهناك قوانين اخرى عنصرية خاصة بالزواج والاقامة والملكية، فقانون الصندوق القومي اليهودي لعام 1953، يعتبر الاراضي التي يملكها الصندوق اراضي يهودية، ولا يحق التصرف فيها لغير اليهود، بيعا او انتفاعا او تأجيرا بأي حال.(24) وتطل الابعاد العنصرية لهذا القانون بصورة صارخة، في ظل وجود "غير يهود" كمواطنين في اسرائيل تصل نسبتهم الى خمس سكانها.

3ـ اذا التفتنا الى تداعيات ما اعتبرناه الاعتقاد بالتفوق القومي العرقي كمصدر للعنصرية الصهيونية، فاننا سنجد عرب فلسطين كانوا، ومازالوا، احد ضحايا هذا المصدر. وفي الواقع ان متابعة تطور التعامل الصهيوني الااسرائيلي مع المجتمع الفلسطيني داخل الدولة الصهيونية (فلسطيني 1948) تقدم حالة نموذجية لتجليات دعوى التفوق الصهيوني بعد قيام الدولة اليهودية.

فقد جاء في وثيقة كوينج مسؤول المنطقة الشمالية في وزارة الداخلية الاسرائيلية الصادرة في اكتوبر/ تشرين الاول 1967، ان تصرفات المسؤولين الاسرائيليين ازاء العرب لم تأخذ في اعتبارها "الشخصية العربية السطحية والشرقية التي يميل خيالها الى تخطي العقلانية" وبعد ان يرفع الرجل عددا من المقترحات لتكبيل امكانية نشوء قيادة فلسطينية غير موالية للدولة الصهيونية، يعترف بان التطور الاقتصادي للبلاد ـ أي للتجمع الصهيوني الاستيطاني ـ لم يصل الى السكان العرب. وفي التفاصيل التي تضمنتها الوثيقة، وتلك التي تتواتر حتى ما بعد قيام الدولة اليهودية باكثر من خمسين عاما، نفهم ان "الاقلية العربية" لم تنل حظا معقولا اطلاقا من النمو الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي، وبقيت مهمشة، ولا يرقى وضعها باي وجه للمستوطنين الصهاينة اليهود.(25)

دمرت الصهيونية وكيانها السياسي النظام الاجتماعي الاقتصادي السياسي الذي عاش عرب فلسطين في كنفه مطولا، وجعلت هذا المجتمع موضوعا لقوانينها ونظمها التمييزية العنصرية. ومثلما فعل دعاة التفوق من الاستعماريين الذين تمخضت الصهيونية العرقية عن نظرياتهم، فعلت الصهيونية في فلسطين. فعوضا عن الادعاء الاخرق بتمدن الآخرين ووضعهم على مسار التطور، ترك المستعمرون جميعهم سكان المستعمرات في حال من البؤس. وحتى في اطار هذه النظرية العامة، كان للصهيونية وكيانها ميزة عنصرية مضافة، فقد توخت نبذ الوجود الفلسطيني من الارض وتهجيره. وفي افضل التصرفات، تحويله الى مجتمع دوني من الحطابين والسقائين في خدمة المستوطنين اليهود "المتفوقين عرقيا".

وتتسق هذه المقاربة العنصرية والصور النمطية التي كونها الادب الصهيوني حول العرب "الاقل تطورا من اليهود" فالعربي في هذه الصور منحط على سلم الحضارة، قذر متسخ، جبان رعديد، غدار، يتمسك بالقشور دون اللباب. وهي صور ترسخت في العقل الااسرائيلي، بما دفع الاسرائيليين الى الاستخفاف بالعرب وقدراتهم والاستهانة بهم والمغالاة في قتالهم.

ومن المثير، انه حتى اولئك الكتاب الذين ينتحلون لانفسهم مبادىء اشتراكية او يسارية او ليبرالية، لا يختلفون كثيرا في مقاربتهم للعلاقة العربية اليهودية عن من يدعون بغلاة الصهيونية. فالظاهرة الانسانية لدى هؤلاء ليست سوى غلالة يغطون بها سمة العنصرية. وهم كغيرهم ـ وفقا لدراسات مختصة ـ ينظرون الى العربي على انه مخلوق من الدرجة الثانية او الثالثة.(26)

4ـ كانت هذه الصورة البذيئة للعرب، مبررا لقمعهم بكل ما اتيح للحركة الصهيونية ودولتها من قوة. وقد بدت في اطار هذه العملية اصداء الممارسات العنصرية الاستعمارية العامة. ففي التجربة الاستعمارية الاستيطانية الغربية في الامريكيتين، نجد ان المبادئ الديمقراطية السامية التي تضمنها اعلان الاستقلال الاميركي، وبقية الافكار العاطفة على تمدين الشعوب، والحاقها بركب الحضارة الغربية المتقدمة، هذه المبادئ لم يكن لها صلة بالواقع والتطبيق.

فتصريح الاستقلال الامريكي نادى بالمساواة بين الناس جميعا، لكن السياسة الحاكمة للمجتمع الابيض هناك، ابقت على الرق طوال قرن باكمله بالنسبة للسود، واطلقت عليهم تمويها اسم "المؤسسة الخاصة". كما سمحت بمطاردة الهنود الحمر، فكانوا يذبحون ويطردون ليستولي البيض على ممتلكاتهم. والمؤسسة الصهيونية فعلت الشيء ذاته بين يدي استعمارها لفلسطين، حيث كان الفلسطينيون هنودها الحمر وزنوجها.(27) الفرق بين الحالتين الاستعماريتين ان القوانين الامريكية راحت بمرور الوقت، تجب الابعاد العنصرية وتحجمها، فيما لا يمكن ذلك في الحالة الصهيونية، وعلى ذلك ان الممارسة العنصرية الصهيونية تختلط بثوابت دينية عرقية، يمثل التعرض لها الحاق دمار شامل بالفكرة الصهيونية الاصل.

ولشدة غرورهم وعنصريتهم، يستهجن كثيرون من رجال الفكرة والادب الصهيوني الرفض العربي الفلسطيني للصهيونية والصهاينة. ولا يفهم هؤلاء المنطق في رفض العرب، فهذا الموقف ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في نظر هؤلاء ليس في صالح العرب، ومغبته الخسران والضرر. لماذا؟ "لان اليهود في نظر هؤلاء ايضا اذا استوطنوا بلاد العرب سيجلبون معهم الحضارة والتقدم والازدهار الى كل ركن يحلون فيه. سيحدثون ثورة حضارية وصناعية وزراعية واجتماعية وثقافية، الامر الذي سيعود بالانتعاش على البلاد وسكانها".

لسان حال الفكر الصهيوني يريد ان يقول هنا ان العرب لا يعرفون صالح انفسهم ولا يحبون التقدم.(28) تحت هذه المزاعم بتصور العرب/ مارست السياسة الصهيونية صنوفا من القتل والارهاب والابادة الجماعية (اكثر من 25 مذبحة جماعية عامي 1948 و1949 ومثل هذا الرقم بعد ذلك) وتم تشريد اكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني والاستيلاء على فلسطين بالكامل على مراحل.(29) ترى هل حدث ذلك كله لان العرب، ومنهم الفلسطينيين لا يحبون التقدم؟.

 

الهوامش:

1 ـ صحيفة يديعوت احرونوت 14/11/1975

2 ـ شفيق مقار، قراءة سياسية للتوراة، دار رياض الريس، لندن، 1991،ص 23.

3 ـ انظر في ذلك، المصدر ذاته، ص 24-26.

4ـ المصدر ذاته، ص 202.

5 ـ منير العكش، مقدمة لمنطق العنصرية، شؤون فلسطينية، العدد 90 مايو 1990، ص 75.

6 ـ انظر للمزيد، عبدالوهاب محمد المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، (المجلس الخامس) دار الشروق القاهرة، 1999، ص 72-74.

7 ـ مقار، مصدر سابق ذكره، ص 27.

8 ـ انظر بتوسع، يوسف الحسن، البعد الديني في السياسة الامريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني، رسالة دكتوراه، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1988.

9 ـ مقار، مصدر سبق ذكره، ص 28.

10 ـ انظر، روجيه غارودي، ملف اسرائيل: دراسة للصهيونية السياسية، دار الشروق، القاهرة، 1983، ص 82 ـ 102.

11 ـ المسيرى، (المجلد الخامس من الموسوعة) مصدر سبق ذكره ص 117.

12 ـ للمزيد راجع، اديب ديمتري، نفى العقل، مؤسسة عيبال للنشر، نيقوسيا، 1993، ص 106ـ130.

13ـ د.عبدالوهاب المسيرى نهاية التاريخ.. مقدمة لدراسة بنية الفكر اليهودي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام، القاهرة، 1973، ص 120.

14 ـ انظر، د. جورج جبور، الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين في اطار نماذج الاستعمار الاستيطاني دراسة مقارنة،(في) السيد يس، على الدين هلال، الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، الجزء الاول، معهد البحوث والدراسات العربية ، القاهرة، 1975، ص 17.

15ـ د. معن زيادة، معالم على الطريق، عالم المعرفة، الكويت، 1987، ص 7.

16ـ ديمتري، مصدر سبق ذكره، ص 124.

17ـ انظر، د. جمال حمدان، استراتيجية الاستعمار والتحرير، دار الشروق، القاهرة، 1983، ص 108-120. كذلك ل.س. ستافريانوس، التصدع العالمي العالم الثالث يشب عن الطوق، (المجلد الثاني) دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق 1988، ص 874 ـ 916.

18ـ صبري جريس، حول النزعات العنصرية في العقيدة والممارسة الصهيونية، شؤون فلسطينية، العدد 52، ديسمبر 1975، ص 31.

19ـ العسكرية الصهيونية، (المجلد الثاني) مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، 1974، ص 14.

20ـ المصدر ذاته، ص 23.

21ـ انظر، المسيرى، موسوعة، (المجلد السابع) مصدر سبق ذكره، ص 128.

22ـ نص اعلان قيام دولة اسرائيل، ملف وثائق فلسطين، (الجزء الاول) وزارة الارشاد القومي، القاهرة 1969، ص 931.

23ـ انظر بتوسع، انيس فوزي القاسم، قانون العودة وقانون الجنسية الاسرائيليان: ودراسة في القانون المحلي والدولي، مركز ابحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1973.

24ـ انظر، د. هند امين البديري، اراضي فلسطين بين مزاعم الصهيونية وحقائق التاريخ، الامانة العامة للجامعة العربية، القاهرة، 1988.

25ـ انظر، عبدالمنعم سعيد، وثيقة كوينج وعرب الارض المحتلة، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1977كذلك.

26ـ غانم مزعل، الشخصية العربية في الادب العبري الحديث، دار الجليل للنشر، 1986، ص 22/23.

27ـ جارودي، مصدر سبق ذكره، ص 113.

28ـ مزعل، مصدر سبق ذكره، ص 186.

29ـ انظر، د. سلمان ابوستة، سجل النكبة 1948، مركز العودة الفلسطيني، لندن، 1998.