* Moustafa Ghareeb * مصطفى غريب *اسرائيل ونموذج الدولة القلعة

"اسرائيل" ونموذج الدولة القلعة

القاهرة ـ جلال الدين عزالدين علي
باحث في الشؤون "الاسرائيلية" ـ اسلام اون لاين 20/11/2000


كثيرا ما توصف "اسرائيل" بأنها "قلعة الديمقراطية في الشرق الأوسط". ويشير وصف "اسرائيل" بالقلعة إلى المنعة والقوة، ويتضمن مضمونا صراعيا واضحا بينها وبين محيطها الإقليمي العربي؛ فالقلاع لا تبنى إلا في مواجهة هجوم ما، كما يشير أيضا إلى نزعة انغلاقية، مبعثها الشعور بالخطر، والرغبة في التحصن خلف جدران القلعة، أملا في أن يحمي ذلك أفرادها. ويبدو أن هذه الصفة تناسب تماما "اسرائيل". أما بقية الوصف التي تشمل الديمقراطية والشرق الأوسط، فتحتاج إلى تمحيص.

اقرأ في هذا المقال:

·    أسطورة الديمقراطية "الاسرائيلية"

·    الأسطورة الشرق أوسطية

 أولا- أسطورة الديمقراطية "الاسرائيلية"

أما مفهوم الديمقراطية، فهو مفهوم غامض، ولا يوجد له تعريف متفق عليه، ولكن مع ذلك توجد عدة مضامين تتعلق بهذا المفهوم، يركز كل طرف على جانب منها وفق رؤيته ومصلحته أيضا، فيركز البعض مثلا على جانب توافر الحريات العامة كحرية المعتقد، وحرية التعبير، وحرية التنظيم، ويرى البعض أن المعيار الأهم هو تداول السلطة بين القوى السياسية بشكل سلمي، ويرى آخرون أن المعيار الأهم في وصف بلد ما بأنه ديمقراطي هو المساواة في الفرص بين مختلف مواطنيه، ويرى آخرون أن العبرة بنمط الحياة والتنشئة على مبدأ احترام الرأي الآخر، الأمر الذي قد لا يتوافر حتى مع وجود إطار أو شكل ديمقراطي إجرائيا ولكنه محكوم سلفا بمبادئ وأنماط حياة غير ديمقراطية.

"اسرائيل" دولة احتلال

وبصرف النظر عن إشكالية وصف دولة احتلال بأنها دولة ديمقراطية، ومدى إمكان الفصل بين ممارسات الاحتلال في الخارج (أي أراضي 1967)، وبين الممارسة السياسية والحياة العامة في الداخل (أراضي 1948)، فإن "اسرائيل" ليست دولة ديمقراطية بأي معيار حقيقي، حيث يبدو عند تحليل ممارستها السياسية طابعها الاستعماري في التعامل مع مواطنيها العرب ويشكلون نحو 18% من مجموع سكانها، بحيث يتجلى أن الإطار الديمقراطي لا يستوعبهم، بل يبدو أن مجمل الإطار السياسي "الاسرائيلي" مصمم ضدهم، ليكرس الطابع الاستعماري وأزمة شرعية وجود الدولة "الاسرائيلية" نفسها، ليتساوى في ذلك وضع أراضي 67 وأراضي 48. وهذا هو بيت القصيد في نقد مفهوم الديمقراطية "الاسرائيلية" من أساسه، رغم ما قد يقال عن أن وضع العرب في "اسرائيل" بكل عنصريتها أفضل حالا من أوضاع كثير من مواطني الدول العربية، وهو زعم لا يبرر إطلاق وصف الديمقراطية على النظام السياسي "الاسرائيلي" المؤسس على أسس استعمارية.

إطار فارغ للحريات قائم على قهر العرب

فمن ناحية الحريات، نجد أنها متاحة بالفعل في "اسرائيل" للجميع، سواء حريات المعتقد والتعبير والتنظيم، للعرب واليهود بأقسامهم المتنوعة. ولكن ذلك ليس أكثر من إطار فارغ من المضامين الديمقراطية المشار إليها.

فمن ناحية يوجد بعض الأطراف اليهودية ممن يؤمن بمبدأ الإكراه الديني، وفرض تطبيق الشريعة اليهودية من أعلى على اليهود، وجعل الدولة دولة يهودية بالمعنى الديني للكلمة، وهم يمثلون نسبة ضئيلة جدا من سكان "اسرائيل" قد لا تتعدى 7%، ولكنهم يؤثرون بقوة في كثير من الأحيان بسبب طبيعة التركيبة الائتلافية للحكومات "الاسرائيلية"، وأن السياسة "الاسرائيلية" هي تعبير عن تجمع لأقليات كثيرة من النواحي السياسية والأيديولوجية والدينية... إلخ.

وفي المقابل يوجد كثير من الأطراف اليهودية العلمانية التي ترغب في الحفاظ على "الطابع اليهودي" للدولة أيضا، ولكن بفهم اليهودية كقومية وليست ديانة، وهم يمثلون التيار السائد بين اليهود "الاسرائيليين" الذي يؤمن بالصهيونية في هذا المجال، ومن هنا يرون أن الحفاظ على "الطابع اليهودي" للدولة لا يتم بفرض الشريعة التي يرفضونها، ولكن بتمجيد الرموز الصهيونية السياسية والعسكرية، وإحياء المناسبات اليهودية المختلفة: الحقيقية والمزعومة، من قبيل "الكارثة اليهودية" و"المحرقة النازية"، وحتى الأعياد الدينية التي تكتسب قيمتها من كونها تعبر عن وحدة اليهود كقومية أو شعب في نظرهم، وليس لمغزاها الديني المتصل بالعلاقة بين اليهودي وربه.

وسواء أكان الطابع اليهودي للدولة هذا دينيا إكراهيا، أم دينيا طوعيا، أم علمانيا صهيونيا، فهو وسيلة في حد ذاته لقهر قسم كبير من سكان "اسرائيل" من المواطنين العرب الذين يبلغ عددهم نحو مليون نسمة. وهم يرفضون الطابع اليهودي القومي (أي الصهيوني)، والديني، لأنه لا يعبر عن تطلعاتهم ولا يمثلهم، فأكثريتهم مسلمون (80%) والباقون مسيحيون ودروز، ولا شأن لهم باليهودية. كما أن مضمون هذه الهوية اليهودية سواء في شكله القومي (الصهيوني) أو الديني معاد للعرب، لأنه قام على أنقاض مجتمعهم، وحولهم بالقوة إلى أقلية في بلدهم، ومعاد للمحيط الإقليمي الذي ينتمي إليه العرب في "اسرائيل".

ونجد مظاهر عديدة للتمييز بين البنى السياسية للعرب ونظيرتها الخاصة باليهود، حيث إن مختلف الأحزاب اليهودية في "اسرائيل" تحصل على الدعم من يهود الخارج ومن الوكالة اليهودية، وبعض هذه الأحزاب "الاسرائيلية" نشأ كامتداد لأحزاب مماثلة في التوجه في دول أوربا المختلفة، في حين لا تحظى الأحزاب العربية بأي دعم خارجي من الدول العربية ويعتبر هذا جريمة لأنها دول تعتبرها "اسرائيل" في حالة حرب معها.

ومن هنا يتضح ملمح مهم من ملامح زيف الديمقراطية "الاسرائيلية" الهيكلي، فهناك حرية للتنظيم والتعبير وتكوين الأحزاب للعرب ولكن شتان ما بين ما تحصل عليه الأحزاب العربية والأحزاب اليهودية من دعم.

وتتضح الصورة أكثر من خلال قانون "العودة" الذي سنته "اسرائيل" سنة 1950، ويعتبر أي يهودي في العالم مواطنا إسرائيليا، ويمنحه الجنسية بمجرد وصوله إلى "اسرائيل"، في الوقت الذي تتنصل فيه "اسرائيل" من مسئوليتها الحقيقية تجاه اللاجئين الفلسطينيين، وهو ما يجعل العرب في "اسرائيل" أقلية مقهورة ومعزولة دائما، ويفرض قيودا على التوازن السياسي والاجتماعي بين العرب واليهود في الدولة، رغم كونهم مواطنين متساوين في الحقوق من الناحية الشكلية.

وتنصرف مظاهر هذا التمييز إلى الحياة الاجتماعية أيضا، ففرص اليهودي المدعوم من الخارج بكل ذلك الدعم في الحياة لا شك أنها تفوق بأضعاف مضاعفة فرص العربي. وذلك ناهيك عن التمييز الذي تمارسه الدولة كدولة ضدهم في الميزانيات الموجهة للمجالس المحلية العربية، والوظائف، والخدمات، والأراضي، وتراخيص البناء، وحتى ما تتخذه ضدهم من سياسات قمعية على غرار ما تفعله في المناطق المحتلة في 1967، من هدم المنازل ومصادرة الأراضي، والملاحقة الأمنية، ومواجهة مظاهراتهم بالرصاص المطاطي والمعدني على نحو ما أظهرته مناسبات متواترة وليس فقط أحداث انتفاضة الأقصى.

إما دولة ديمقراطية وإما دولة يهودية

ولذلك فقد برز تيار آخر من اليهود العلمانيين يتركز أساسا في المثقفين والفنانين والأدباء والأكاديميين، يؤمن بتهافت الأسس الصهيونية التي قامت عليها الدولة، وما أفرزته من علاقات تحكم بالعرب واليهود على السواء، ويصف المشروع الصهيوني بأنه مشروع استعماري، ويطالب بتصفيته من خلال الانسحاب من الأراضي المحتلة في 1967، وتحقيق السلام مع الدول العربية في الخارج، وتأسيس "اسرائيل" في الداخل على أسس علمية ما بعد حداثية تتبنى القيم العالمية الفردية وحقوق الإنسان، فتصبح هوية "اسرائيل" "اسرائيلية"، ويكون المعيار المعتبر هو معيار المواطنة، وليس الدين ولا القومية. ولا يمانع قسم من هذا التيار من إلغاء قانون "العودة" باعتباره مظهرا من مظاهر التمييز العنصري، والشذوذ عن النماذج الديمقراطية في العالم.

وهذا التيار هامشي  في حجمه، ولكنه هام جدا، لأنه يتسق مع حقيقة استحالة استمرار الأسطورة الصهيونية في ظل تطور العلوم والمعلومات، وانكشاف زيف التاريخ الصهيوني خاصة مع إعلان وثائق تأسيس الدولة وحروبها وممارساتها ضد الشعب الفلسطيني. كما أن تركز هذا التيار في المثقفين يكتسب دلالة مهمة حيث أنهم هم قادة الرأي ولهم تأثير بالغ في التكوين الثقافي لكثير من الأجيال الصاعدة، بصرف النظر عن سيطرة العسكريين على السياسة "الاسرائيلية".

ويرى كثير من المحللين "الاسرائيليين" العرب واليهود من أنصار ما بعد الصهيونية أنه مع اضمحلال البعد القومي لليهودية باضمحلال الأيديولوجية الصهيونية، فسوف يطغى البعد الديني في تعريف اليهودية، وهو ما يحدث بالفعل، الأمر الذي سوف ينتهي بسيطرة القوى الدينية على الدولة، وفرض نموذجها، وهو نموذج ما قبل حداثي، انغلاقي، غير ديمقراطي. ولذا يؤكدون أن الدولة إما أن تكون دولة ديمقراطية وإما أن تكون دولة يهودية. أما الوصف الذي يعتمده التيار السائد لهوية "اسرائيل" بأنها دولة يهودية ديمقراطية فسوف ينتهي بتحول "اسرائيل" إلى دولة أصولية عدوانية منغلقة.

الوسائل الديمقراطية لإدارة الصراع

لا يحتاج محلل السياسة "الاسرائيلية" إلى كثير عناء ليلاحظ كيف أن إدارة الصراع السياسي بين القوى "الاسرائيلية" المختلفة تتم بالفعل بوسائل ديمقراطية، حيث يتم تداول السلطة بشكل سلمي، من خلال انتخابات نزيهة، وتتحقق سيادة القضاء على جميع القوى من رئيس الدولة ورئيس الوزراء إلى أصغر مواطن، كأية دولة ديمقراطية أخرى، ولكن خلال هذا الصراع نجد أن المصلحة العليا للدولة تتحطم، وأنها تتمزق وتتشظى، وهذا على خلاف ما تحدثه الديمقراطية في أي مجتمع سوي، حيث تعتبر الوسائل الديمقراطية لتداول السلطة ضمانة لاستقرار المجتمع وتطوره، ونجد أن القوى السياسية "الاسرائيلية" في الوقت الراهن لا تكتفي بتداول السلطة، ولكنها تتعامل فيما بينها بكراهية شديدة ورغبة في تحطيم الطرف الآخر، ولنأخذ نموذجا من الولاية الحالية لبراك، وإدارة أنماط الصراع "الاسرائيلي" المختلفة في عهده:

فقد بدأ براك حكمه بالتنصل من كل الوعود التي قدمها للمواطنين العرب في "اسرائيل" خلال حملته الانتخابية التي تحدث فيها إليهم ببعض الجمل العربية، ووضعت تحت صورته جملة "الدولة للجميع" بالعربية، في الوقت الذي اتهم فيه سلفه نتانياهو بأنه جعل الدولة للمتطرفين. ثم ضاعت كل الآمال التي عقدها العرب في "اسرائيل" على وعود براك لتحسين مستوى معيشتهم، وإشراكهم في صناعة القرار السياسي لدولتهم، أو حتى القرار المتعلق بهم كأقلية قومية، وذلك بسبب أن براك حصل في الانتخابات على أغلبية يهودية صرف جعلته يشعر بأنه فاز بالصوت اليهودي، وليس بالصوت العربي، وأنه من ثم غير مدين للعرب بشيء. كما كان خيار براك من البداية وحتى الآن هو تكوين ائتلاف حكومي يهودي واستثناء العرب، واعتبارهم رصيدا مضمونا في كل حال، لأنهم لن يصوتوا لليكود ومرشحه في أية انتخابات قادمة.

كما تعثرت في حكمه عملية التسوية، ووصل الأمر إلى حد ضرب مقار شركائه  في المفاوضات بالصواريخ! وقتل بضعة عشر مواطنا عربيا من مواطني "اسرائيل" في مظاهرات على خلفية عملية التسوية، وهكذا قضى على المطلبين الأساسيين للعرب في "اسرائيل" وهما المساواة والسلام. وهما أيضا المطلبان اللذان يقتضيهما- وفقا لدعاة ما بعد الصهيونية- تصفية المشروع الاستعماري وتحويل "اسرائيل" إلى دولة ديمقراطية طبيعية.

أما الصراع الديني- العلماني، وبالمثل الصراع اليهودي الشرقي- اليهودي الغربي، فقد رأينا كيف أن حزب شاس (أكبر قوة دينية ويهودية شرقية في الوقت نفسه وتمتلك 17 مقعدا في الكنيست) فرض خلال مرحلة تشكيل حكومة براك بعد الانتخابات مباشرة ومن خلال الأزمات المتتالية شروطه على براك، ودفعه في النهاية إلى التضحية بحليفه الرئيسي حزب ميرتس، ثم انسحب من الحكومة، مهددا بالتوجه إلى انتخابات مبكرة، بالتحالف مع قوى اليمين العلماني والديني الأخرى، بعد أن صفع براك، وأفقده مصداقيته أمام العلمانيين واليسار واليهود الغربيين.

وبالنسبة إلى الصراع بين اليمين واليسار، ها هو شارون يفرض على براك شروطه من أجل إنقاذه من حجب الثقة عن حكومته في الكنيست وتشكيل حكومة طوارئ أو حكومة وحدة وطنية مع الليكود، ونجد براك يتنازل له ويصفي عملية التسوية من خلال الهجمات العسكرية على مناطق السلطة الفلسطينية. ولولا شبكة الأمان التي وفرها شاس لبراك، لوجدنا شارون يفعل ما فعله حزب شاس من قبله، فيأخذ تلك التنازلات، ويترك براك بعد أن تتحطم البقية الباقية من قوته وصورته أمام اليسار ودعاة التسوية، ويذهب إلى انتخابات مبكرة، متحالفا مع شاس وقوى اليمين الأخرى!

وهذا الصراع القاسي الذي تتصادم فيه القوى "الاسرائيلية" بشدة فتتبعثر شظايا متناثرة ليس نتيجة للوسائل الديمقراطية في إدارة الصراع السياسي، ولكنه دليل على أن هناك خللا هيكليا في بنية "اسرائيل"، وبالتحديد في تكاملها الاجتماعي- السياسي، مبني أساسا على حاجتها المستمرة إلى مهاجرين لدعم المشروع الصهيوني، والحيلولة دون ذوبانه واستيعابه من قبل محيطه الإقليمي الفلسطيني والعربي، مهما كانت التباينات بين هؤلاء المهاجرين، وهو ما يعيدنا إلى أزمة شرعية الوجود، وحتمية التمييز والعداء ضد الفلسطينيين أصحاب البلاد الشرعيين في "اسرائيل" وخارجها، وهو ما يؤكد في النهاية استحالة وصف دولة احتلال بأنها دولة ديمقراطية.

ثانيا- أسطورة الشرق أوسطية

ترتبط الفكرة الشرق أوسطية بالمخططات الاستعمارية الغربية التي قسمت الأمة العربية وفككتها وأزالت هويتها، من خلال النظر إلى المشرق العربي وبعض الدول غير العربية باعتبارها "الشرق الأوسط"، ووضع بقية الدول العربية في إطار آخر وهو "الشرق الأدنى". أما تصور المنطقة العربية لذاتها فقد برز على نحو مخالف في مصطلح "الوطن العربي"، الذي يتخذ مظهرا سياسيا في "النظام الإقليمي العربي"، ومؤسساته المشتركة وعلى رأسها "جامعة الدول العربية".

وقد حاولت القوى الاستعمارية الأوربية والأمريكية على مدار التاريخ المعاصر تفكيك المنطقة العربية، وهدم نظامها الإقليمي، وربطها بأحلاف غربية مختلفة، ولكنها كانت تتحدى وتتمسك بصيغتها الشرعية العربية، وكانت تحقق قدرا عاليا من التماسك والفاعلية في أوقات الخطر، وخاصة في مواجهة "اسرائيل"، على نحو ما برز في أعقاب هزيمة 1967، والتنسيق لحرب أكتوبر 1973 وإدارتها بكفاءة عربية عالية.

وقد أحدثت أزمة الخليج الثانية وغزو العراق الكويت في أغسطس/آب 1990، ثم حرب الخليج 1991 انقساما حادا في النظام الإقليمي العربي، وفي هذا المناخ دشنت الولايات المتحدة ما أسمته "عملية سلام الشرق الأوسط" التي كانت تهدف إلى تسوية الصراع العربي- "الاسرائيلي" تسوية تضمن لها عدة أهداف:

- تصفية القضية الفلسطينية والصراع العربي- "الاسرائيلي" من خلال دمج "اسرائيل" في المنطقة العربية عبر اتفاقيات ومعاهدات سلام بين "اسرائيل" والدول المجاورة لها، مقابل انسحاب "اسرائيل" من الأراضي المحتلة في 1967.

- دمج المنطقة العربية في النظام الدولي الناشئ بعد انتهاء الحرب الباردة، سياسيا وأمنيا واقتصاديا من خلال المشروع الشرق أوسطي، ثم المشروع المتوسطي الذي اقترحته أوربا ودول عربية متوسطية لموازنة النفوذ الأمريكي في المنطقة العربية، وخاصة الخليج. وفي كلا النموذجين تتبوأ "اسرائيل" مكانة هامة، وإن كانت أعلى في المشروع الشرق أوسطي منها في المشروع المتوسطي.

- هدم النظام الإقليمي العربي من خلال إقامة النظامين المشار إليهما، وتوجيه موارد المنطقة إليهما، بحيث تفقد هذه المنطقة أية هوية أو مشروعات سياسية وتنموية وحدوية مستقلة. وتهميش العناصر الداعية إلى الوحدة والاستقلال والهوية المتميزة من التيارات القومية والإسلامية.

وكما وجدت قوى عربية ساندت هذه العملية، سواء في شقها الثنائي، أو الإقليمي، كانت الساحة "الاسرائيلية" أيضا ساحة صراع بين قوى مختلفة، كان من بينها التيار الشرق أوسطي الذي تزعمه وزير الخارجية الأسبق ووزير التعاون الإقليمي الحالي شيمون بيريز، الذي آمن على مدار تاريخه السياسي بالنموذج الأوربي الوظيفي، وحاول ربط "اسرائيل" بأوربا وليس بالولايات المتحدة. وكان يمثل اليسار الوظيفي "الاسرائيلي"، وكان أقرب إلى تيار ما بعد الصهيونية في مجال هوية الدولة، والتعامل مع المواطنين العرب.

وقد آمن بيريز بالفعل بإمكان قيام نظام شرق أوسطي تحتل فيه "اسرائيل" مكانة القوة الإقليمية العظمى، على حد تعبيره، استنادا إلى تفوقها العسكري والتكنولوجي والسياسي الناجم عن خسارة العرب حليفهم السوفيتي، وكثيرا من الدول النامية غير العربية التي أصبحت دولا متقدمة ومرتبطة بالغرب، فضلا عن توافق إرادة أنظمة المنطقة مع إرادة "اسرائيل" في مواجهة المد الديني المتصاعد من خلال التنمية، والتسوية، والتفرغ لمواجهة مشكلات الداخل، حيث اعتبر بيريز أن صعود الأصولية ناجم من الفقر، وأن الفقر ناجم من استمرار الصراع وتوجيه الموارد للحرب.

ولكن هذا الاتجاه كان محل صراع من اتجاهات أخرى، عارضته لأسباب مختلفة:

فاليسار التقليدي ركز على الطابع الأمني للتسوية مع العرب، وكان يمثله رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين، ولم يكن يثق كثيرا ببيريز، كما إنه كان أكثر تعبيرا عن الهوية اليهودية القومية/ الصهيونية، وكان الهم الشاغل له في عملية التسوية هو تشكيل نظام أمني إقليمي- دولي أكثر منه نظاما اقتصاديا، يقوم على الفصل بين "اسرائيل" والفلسطينيين من خلال الانسحاب من أراضي 1967- وخاصة غزة التي كانت تكلف الجيش "الاسرائيلي" خسائر باهظة بسبب كثافتها السكانية وميل سكانها إلى تأييد حماس- وإقامة دولة فلسطينية.

أما اليمين العلماني، وعلى رأسه حزب الليكود فقد فشل خلال قيادة شامير في التحول إلى الوسط والتحالف مع حزب العمل، بسبب انقلاب زعاماته الشابة عليه، فاتجه إلى اليمين، وكانت خسارته الفادحة أمام حزب العمل في 1992 الذي جاء إلى السلطة بمشروع للتسوية متسق مع توجه النظام الدولي، واكتسب تأييدا إسرائيليا عاليا بسبب خسائر "اسرائيل" أمام الانتفاضة الفلسطينية، وتدهور الأداء الاقتصادي لحكومة شامير، ثم نجاح هذا الحزب (العمل) في عملية التسوية، وجنْي "اسرائيل" ثمارها الاقتصادية والسياسية، التي قربت كثيرا تحقيق المشروع الشرق أوسطي، كل ذلك كان سببا في تخوف حزب الليكود من استعادة اليسار الهيمنة على السياسة "الاسرائيلية" لفترة طويلة، ولم يكن أمامه لمواجهة هذا المد اليساري المتصاعد إلا التحالف مع أقصى اليمين الديني والعلماني. فازداد هجومه على عملية التسوية وخاصة ما يتعلق منها بالتعاون الشرق أوسطي، مبرزا خطورة الثمن الذي يتعين على "اسرائيل" دفعه (الأراضي المحتلة في 1967) مقابل ذلك التعاون.

وأخيرا، فقد عارض اليمين الديني الشرق أوسطية من منطلق معارضته اندماج "اسرائيل"، وذوبانها إقليميا ودوليا، وفقدان شخصيتها اليهودية الدينية، لاسيما وأن القائمين على تحقيق هذا المشروع الشرق أوسطي هم أكثر القوى علمانية في المجتمع "الاسرائيلي".

ويشار إلى أن كثيرا من اليهود الشرقيين- بصرف النظر عن انتماءاتهم الأيديولوجية- قد عارضوا الشرق أوسطية أيضا، باعتبارها مشروعا يخدم الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال اليهود الغربيين في الغالب، ويزيد من الفجوة القائمة بين الفقراء والأغنياء.

ومع ذلك يمكن القول إن مركز السياسة "الاسرائيلية" كان في صالح عملية التسوية آنذاك. وكان تحالف رابين- بيريز يعبر بصدق عن هذا المركز الذي يسيطر عليه الهاجس الأمني ويتطلع إلى الرفاهية وحياة الشعوب المتقدمة سياسيا واقتصاديا في الوقت نفسه.

التحول الحاد نحو الانغلاق والقوة الغاشمة

وبانفصام هذا التحالف باغتيال رابين وتولي بيريز السلطة وحده، فقد المشروع الشرق أوسطي قوته، وأصبح الهاجس الأمني هو الأغلب، وفشل بيريز في إقناع "الاسرائيليين" بصقوريته من خلال مذابح قانا، وزادته هذه العمليات نفورا من جانب العرب في "اسرائيل" الذين لم يصوتوا له عقابا على هذه السياسة، فكان ذلك عاملا مهما لفشله في انتخابات 1996 التي جاءت بالتحالف اليميني (العلماني والديني) بقيادة نتانياهو، الذي عطل عملية التسوية وصعد الصراع قرابة ثلاث سنوات، حيث ارتبطت شرعيته بمعاداة عملية التسوية، التي اعتبرها مشروع حزب العمل واليسار، ومن ثم كان تحالفه مع الهوامش اليمينية أمرا حتميا لاكتساب الشرعية وإبراز التمايز عن اليسار، إلى أن جاء براك في انتخابات 1999.

وقد حاول براك إحياء صيغة الأمن والاقتصاد والتسوية من خلال وراثة رابين الذي كان يملأ الفراغ الأمني لدى المواطن "الاسرائيلي"، ودفْع بيريز إلى السياسة الخارجية كوزير للتطوير الإقليمي، ولكن الفارق كان شاسعا بين هذا التحالف وتحالف رابين- بيريز من عديد من الزوايا:

- أن الانتفاضة الفلسطينية التي أحدثت فرزا واضحا بين اليمين واليسار ورفعت أسهم اليسار إبان تولي رابين الحكم قد أجهضت تقريبا على يد السلطة الفلسطينية، وتقلصت المخاطر التي تدفع "الاسرائيليين" إلى التنازل عن الأراضي المحتلة والتعاون الإقليمي. كما أن الدول العربية من جانب آخر لم تمانع كثيرا في التغاضي عن خرق "اسرائيل" الواضح لأسس عملية التسوية، والتوازن المفترض في حركة المسارات الثنائية وحركة المسار الإقليمي، فقدمت لـ"اسرائيل" ثمار التسوية على المسار الإقليمي قبل أن تتحقق التسوية على المسارات الثنائية بانسحاب "اسرائيل" من المناطق المحتلة في 1967، وبدأت هي نفسها تلتمس الأعذار للسياسة "الاسرائيلية" في كثير من المواقف، وتقلل من أهمية الجداول الزمنية لعملية التسوية، بل وتضغط على الفلسطينيين نحو مزيد من التنازل في بعض المواقف.

- أن تحالف رابين- بيريز كان تحالفا يساريا قائما على تكتلات حزبية قليلة بقيادة حزب العمل، حيث لم يكن نظام الانتخاب المباشر لرئيس الوزراء قائما إبان تولي رابين السلطة، ولم تكن السياسة "الاسرائيلية" بمثل هذا القدر من التشرذم، ولم يكن الفارق بين حزب العمل والأحزاب المؤتلفة معه بالضآلة الحالية. أما تحالف براك- بيريز فكان تحالفا يهوديا وليس يساريا، حاول من خلاله براك تحقيق وحدة اليهود في "اسرائيل" كأولوية أولى وليست التسوية، ولم يتعد الفارق بينه وبين شاس في هذا الائتلاف أكثر من ستة مقاعد.

- الاختلاف البين بين زعامة رابين وخبرته السياسية ورؤيته الاستراتيجية، وبين براك بجموده الإدراكي، وعنصريته، وتردده، وقلة خبرته السياسية.

وقد كان من نتائج ذلك أن السياسة "الاسرائيلية" أخذت تنحو بالتدريج نحو الانغلاق، والاعتماد على القوة، نتيجة لتهاون القوى المؤمنة بالتسوية وبالاندماج الإقليمي مع قوى أقصى اليمين لأسباب ائتلافية وحسابات ذاتية، في مقابل تحالف اليمين العلماني والديني، وتعاملهما كتحالف حتى حين يكون قسم منهما (اليمين الديني) في السلطة والآخر في المعارضة، كما حدث في حكومتي رابين وبراك، حينما تهدد شاس بالانسحاب وتأييد الليكود وقلب الحكومة.

وانتهى الأمر بالوضع الراهن الذي انهارت فيه عملية التسوية، وتم القضاء على المشروع الشرق أوسطي، لتعود "اسرائيل" إلى نموذج الدولة القلعة، مع كل الانقسامات والأزمات التي تعانيها هذه القلعة من داخلها. وهو نموذج متناقض مع روح العصر، الذي تحولت فيه القلاع إلى متاحف. ويبدو أن هذا هو المستقبل الذي تنتظره "اسرائيل"- براك، الذي انصب همه على محاولة تحقيق الوحدة اليهودية المستحيلة، من خلال إعادة الصهيونية إلى الحياة، وتهميش العرب في "اسرائيل"، والاعتماد على قوى انغلاقية وغير ديمقراطية في فرض الوجود "الاسرائيلي" والسلام "الاسرائيلي" على المنطقة العربية بالقوة المجردة التي لا تمتلك القلاع غيرها.