* Moustafa Ghareeb * مصطفى غريب *الحركة الصهيونية وادلجة الادب

الحركة الصهيونية وادلجة الادب:
القصيدة والرواية نموذجا لاثارة الاحقاد/ الحلقة الاولى

 

الكاتب فؤاد ابوزريق
كاتب سوري متخصص في الشؤون الاسرائيلية


مقدمة

استخدمت الحركة الصهيونية كافة انواع الدعاية لطرد الشعب الفلسطيني من ارضه واستقدام يهود اوروبا الى فلسطين واقامة دولة اسرائيل على انقاض فلسطين جغرافيا وبشرا.

في هذا الموضوع جولة في بعض انواع الدعاية الاسرائيلية وتحديدا جولة في الادب اليهودي الذي بث روح القد ضد العرب الفلسطينيين، بل ضد كل العالم، وحيث تمحورت القصائد اليهودية وكذلك الرواية، وفنون ادبية اخرى حول الدعوة الى الهجرة الى فلسطين وطرد سكانها الاصليين.

وسوف يلاحظ القارئ في هذا الموضوع، كيف يعتمد اليهود على الايديولوجية لبت الاحقاد، وهو ما يتناقض تماما مع روحية الاجناس والفنون الادبية، حيث الابحاث والرمز والاثارة والتخيل، عوامل اساسية في رفعة الادب، الا ان وطأة الايديولوجية جعلت من الادب الصهيوني مادة لاثارة القتل واشاعة الاحقاد، والترويج لمواقف عدائية ضد كل من هو غير يهودي..

 

 

الدعوة الى الاستيطان في البلاد العربية

بعدما حققت الصهيونية العالمية ما تصبو اليه من تأثير في الفكر الغربي عمدت في المرحلة التالية الى الاستيطان في البلاد العربية وتشجيع الهجرة اليها واقامة الوعد التوراتي المزعوم وانشاء (دولة) يهودية على الارض العربية، بعد قتل اصحابها وتشريدهم وهذه (الدولة) ليست كسائر الدول وانما هي دولة اداة في يد الخالق، على حد الزعم الصهيوني، يسيرها كما يشاء، وجميع ممارسات تلك (الدولة) انما هي بايعاز من (الخالق). يقول الحاخام يهودا اميتال بفلسفة مثالية مغرقة في الارتباط بافكار مجردة لا علاقة لها بالعقلانية: "ان الصهيونية لا تبحث عن حل لمشكلة اليهود بتشييد دولة يهودية وانما بتشييد دولة هي اداة في يد الخالق الذي يعد شعب اسرائيل للخلاص.. وليس هدف هذه العملية تطبيع شعب اسرائيل ليصبح امة مثل كل الامم وانما ليصبح شعبا مقدسا، شعب الله الحي".

فالصهيونية لا تريد لليهود دولة فقط، وانما تريد دولة تكون اداة في يد الخالق، خالق يستمد آراءه وافكاره منها، وما ان تملي عليه بان هذا الشعب هو شعب مقدس حتى يمتثل!!

وهي لا تريد (لشعب اسرائيل) ان يكون امة مثل كل الامم، لذلك تعمد الى ربط (الخالق) ببروتوكول يلزم الطرف الثاني فقط (الخالق) بان يكون هذا (الشعب) شعبا مقدسا في دولته!!

وما تقوم به هذه (الدولة) من ممارسات وقتل وسلب للارض وذبح للاطفال والنساء والشيوخ، انما هو بامر من (الله) اذ ان هذه (الدولة) هي اداة في (يد الخالق) فكل من يخرج من طاعة (الله) او بعبارة اخرى كل من تحاربه هذه (الدولة) يكون قد خالف تعاليم (الخالق)، وبذلك امر هذا (الخالق) اداته بالتصدي لهذا الاعوجاج، الى ان يتم تقويمه صهيونيا!!

وبعد فان اليهودي خارج هذه (الدولة) مهدد، وفق ما تطرحه الصهيونية، بسلخ صفة (القدسية) عنه، وهو لا يحافظ عليها الا اذا هاجر الى هذه (الدولة)، وما على اليهودي الا الهجرة اليها لممارسة طقوسه المقدسة باشراف يد (الله) وادته.

يقول دافيد بن غوريون: "ان اهم ركن من اركان اليهودية هو الارتباط بارض الميعاد وان اليهودي الحقيقي هو الذي يعود اليها".

فلا يعد اليهودي يهوديا الا اذا ارتبط (بأرض الميعاد)، وعاش فيها لاقامة طقوسه كيهودي في البلاد المقدسة التي جعلها (الله) هبة له، ليقوم بما تمليه عليه عقيدته بكل الاعمال الاجرامية التي يوحي بها (الله) اليه.

يقول الحاخام (ابراهام اسحق كوك): "لا يستطيع اليهودي ان يكون مخلصا وصادقا في افكاره وعواطفه وخيالاته في ارض الشتات كما يكون في ارض "اسرائيل"، بينما يكون خارجها مشوشا، ملوثا، غير نقي. وعلى أي حال، فكلما ازداد تعلق الشخص بارض "اسرائيل" زادت افكاره طهارة، لانها حينئذ تعيش في هواء "اسرائيل" الذي يحيى كل من يشتاق الى الارض، اذ ليس لليهودية في ارض الشتات وجود حقيقي، الا بكونها تحيا بقوة رؤية مستقبلنا، وبذكرى مجد ماضينا، ولكن يجب ان ندرك ان هنالك حدودا لقوة هذه الرؤيا لتحمل اعباء الحياة، وتوجيه حياة الشعب، ويبدو ان هذه القوة قد استنفدت الان طاقتها، واصبح يهود الشتات يتحللون بشكل مخيف، ولا امل لهم باعادة زرع انفسهم والاعتماد على ينبوع الحياة الحقيقي المقدس الموجود في ارض (اسرائيل) فقط".

معتمدا بذلك على ما جاء به (بنيامين زئيف هرتسل) من ان كل يهودي يجب عليه ان يهاجر الى (ارض الميعاد) مخالفا بذلك رؤية احاد هاعام(1) في ان النخبة فقط من اليهود هم الذين تجب عليهم الهجرة الى (ارض الميعاد) لتتمكن هذه (الدولة) التي يتم انشاؤها من الاشعاع بالفضيلة من هذا المركز الروحي، على حد زعمه، تعمر اليهود في الشتات بالنور والضياء. او كما صورها (اسحق ابنون): "مركزا روحيا ونقطة مشعة في دائرة المهجر الكبيرة، تسطع على ما حولها كما الشمس، وتمد الشعب في الشتات بالدفء والضياء"

ومفهوم (المكان) هنا، مفهوم مفتوح على كل ما يمكن ان يحدث فيما بعد من توسع واغتصاب، على حساب الشعب العربي بحجة ان (الشعب اليهودي) انما يتم بعثه في هذا (المكان) ومنه: "فلكي ينبعث هذا العرق المتفوق، لا بد له من مكان ثابت ومستقر حتى تتاح له الفرصة ثانية لتطوير عبقريته وابلاغ رسالته كاملة ومتفوقة".

اذن، مفهوم (مكان ثابت ومستقر) هو مفهوم مفتوح، لا يلتزم بالمعنى الحرفي للكملة، بل يتعداه، الى كل شبر تطؤه قدم هذا (العرق)، ليسمه بسمته، ثم ليكون له، وهذا يستوجب تذليل جميع العقبات التي تواجه هذا (الانبعاث)، عن طريق قتل السكان الاصليين وطردهم اعتمادا على قص توراتي مغرق في اللامنطقية والحقد على الحرية:

"وان لم تطردوا سكان الارض من امامكم يكن الذين تستبقون منهم اشواكا في اعينكم ومناخس في جوانبكم ويضايقونكم على الارض التي انتم ساكنون فيها".

وفي مطلق ابلاغ رسالة كاملة ومتفوقة منطق توظيفي مفهومه للتأثير المباشر وغير المباشر في امم الارض، للاعتراف لهذا (الشعب) بالسيادة والتفوق.

كذا، وتتابع الصهيونية ممارساتها التي لا تخفى على كل ذي عقل، تشوه القص التوراتي وتقوم بالقتل والسلب والتعاطي بشكل سافر ضد الحرية، بشكل حاقد لتبرز، فيما بعد، ان هذه التعاليم هي تعاليم (الله) وان الدين هو من يأمر بذلك ولا نقاش فيما يطرحه (الله) لانه هو الاقدر على اتخاذ القرارات وما اعمال الاجرام الا بايعاز منه وتقديره للحالة المرحلة التي يعنى بها اليهودي لتطليق منهج الصهيونية (الله)، اذ لا فرق، فاننا نرى، بذلك ان ما تريده الصهيونية يريده (الله) ما تأمر به الصهيونية يأمر به (الله) اذا هناك تماه بين الصهيونية و(الله) فاما الصهيونية هي (الله) واما (الله) هو الصهيونية!!! فاي اله هذا!

ان اضفاء القداسة على ما تقوم به الصهيونية، عبر ادواتها واذرعها وتنظيراتها، تحمل توظيفا ميلودراميا فاقعا وتراتبية مضللة مؤدلجة لا تخفى على العقل، ولكنها تلزم اليهود في كل بقاع الارض بالعمل على ما تطرحه الصهيونية بعد اضفاء صفة القدسية عليه، وهو منطق تبريري لا منطقي تتخذه الصهيونية ذريعة وهي الاوهى في تسويغ ما سعت وتسعى اليه، فالحقد على البشر من مبدأ انهم نجاسة يسوغ قتلهم وتشريدهم خاصة وانهم قد يقفون في طريق التطلعات الصهيونية، والنهج التربوي، بناء على ما تقدم يسوغ قتل العرب وطردهم وتشريدهم وهذا ما عملت له الصهيونية عبر ادواتها (الادب مثلا)، وهذا له ادواته كذلك، فهو يخاطب اليهودي قائلا: ايها اليهودي، ان العذاب والنكال قدرك المحتوم، ان ما تنعم به اليوم من طمأنينة ليست سوى حدث عارض قد يختفي في اية لحظة، والدليل على ذلك كل تجارب العذاب القديمة، واليك تفاصيلها..

هكذا يخاطب الادب الصهيوني الانسان اليهودي وهو يقص عليه، عادة، بصورة ميلودرامية فاقعة، صورا من (العذاب القديم)، يقول هذا الاسلوب:

اذا اردت طمأنينة دائمة لك، ولابنائك من بعدك فليس امامك الا طريق واحدة هي ان تلجأ الى اسوار (القلعة الاسرائيلية) فهي كفيلة بحمايتك، وتوفير الامن الدائم لك.

عبر هذا الاسلوب تتم عملية اثارة (المشاعر القومية) وعبر هذا الاسلوب يكون لها بالغ الاثر في ترسيخ مبادئ الصهيونية، متخذة من الادب اداة لاستقطاب يهود العالم، بنظرة بدائية، عالة على المنطق الانساني السليم قائلا: اما ان تقتل العرب على هذه الارض اليوم واما ان تقتل غدا في كل بقاع الارض، كما حدث لاسلافك الذين تطالع قصصهم الان.

والهدف واحد هو تجميع اليهود في الارض العربية والقضاء على السكان الاصليين والسيطرة المطلقة على المنطقة وجعلها سوقا لما تطرحه الصهيونية، متأثرة به، فاستوعب حضنها السخامي عددا من (ادباء) تباروا في خطب ودها، ثم عقدوا معها قرانا كاثوليكيا، ليأتي، بعد ذلك، عصر يمطر الناس فيه صهيونية مقيتة، فقد ذهب بعضهم الى التهكم والندب على خنوع اليهود وعدم اقدامهم على الهجرة الى الارض العربية وعلى جبنهم عن المحاولة في الانعتاق من (نير) الشعوب الاخرى وعدم تحرك أي نبض بهم في سبيل الثورة على واقعهم (المرير):

يقول الشاعر الصهيوني (يوحنان غيشكلاي2) في قصيدة اسماها (المبشر بالمسيح) واهداها الى روح (بنيامين زئيف هرتسل)

 

حينئذ، همسا فقط، زف الخبر،

لم يتمرد الانسان على قدره الرهيب

لم يتجرأ كذلك، على الانعتاق بتفاخر،

لا ثورة، لا شيء، فقط يأس.. خراب

 

ثم يدعو للايمان بالمستقبل، والثقة بان المسيح لا بد من انه سيحتضن اليهود، لذلك يجب العمل للتغلب على جميع العقبات في سبيل ذلك.

 

ثقة عظمية لم تنفجر بكاء.

لم يكن هناك شوق، او امل قوي

ينقذ للغد نفسه،

فلا احد ينتظر المسيح بارتجاف،

لا متيقظا، ولا حالما ـ بنبي منيرـ

 

ثم يعرض (غيشكلاي) لصنوف العذاب التي يتلقاها اليهود حسب الزعم الصهيوني:

 

لان احدا لم يؤمن، قط، بملك مسيح،

تهرب الامهات من النار والدم،

يحتضن اطفالهن في هول الخراب

وخوف الموت يتقد جليا

واحدة هي، الى اين، الى مكان تراه العين،

وفي اعقاب الهاربين تسير الكارثة.

تسير وتعدو وتلاحق دون توقف،

من سيف الى نار ومن نار الى سيف.

يهربن، ولا شيء معهن

واطفال رضع في احضانهن،

والسبيل.. لا سبيل، فقط خراب قذرـ

لان احدا لم يؤمن قط بملك مسيح

حينئذ على الشفاه صمت الخبر،

الانسان لم يتمرد على قدره الرهيب.

ولم يتجرأ كذلك على الانعتاق بتفاخر،

لا ثورة، لا شيء، فقط يأس وخراب.

الذي ما زال حيا، يعيش ويرتعد

ولم يقم أي رجل بعمل دون خوف،

لان القوة في قلب كل رجل تعفنت،

نفدت كل ارادة، ضمرت كل عضلة،

صار العيش عارا، العيش بهذا الثمن،

وما ان نفد الخجل وتلاشت الصدمة،

ظهرت عيون عميقة فقط ودون حماس

وعلى الجبين اسودت علامة قايين(سفر التكوين 4-15)

تصرخ بقدر الالاف الذي اختتم،

وعندما لفظتهم كل ارض،

لم يرفعوا قبضتهم باتجاه السماء،

لانهم زحفوا على اربع،

وصار الرجل، يمرغ وجهه بالقذارة ـ

لان احدا لم يؤمن قط بملك مسيح،

حينئذ على الشفاه، صمت الخبر

الانسان لم يتمرد على قدره الرهيب.

ولم يتجرأ كذلك على الانعتاق بتفاخر،

لا ثورة، لا شيء، فقط يأس وخراب.

مجعدو العضلات، شيوخ الكنائس.

في حلقهم تأوه النشيد،

بشفاههم ماتت الملامح،

اذرعتهم، اذرعة اطفال

تضم كتاب التوراة،

برعب، ورق للحفظ،

وعيونهم ترى، كيف ان حرفا وراء حرف

يمحى، يسقط، وعلى التراب ينسكب

ومع كل حرف يقرأ وكل لحظة تمر، يقبل

الشيوخ ويقبلون الورقة.

ولم يعد هناك فم، ببكاء يصيح:

ويل، ايها الشيوخ، الكتاب مات..

وبعدما تفقدون الحياة

تورثون وقرة فارغة هدية لابنائكم

 

وينهي (غيشكلاي) قصيدته هذه بعدما حمل من التوراة نسغا هو عالة على المنطق الانساني السليم، مرتكزا على الخرافة والاستعلاء العنصري، وليس هذا بالجديد، فقد قدم العديد من الشعراء والادباء الصهاينة عددا كبيرا من (قرابين ادبية) على مذبح الصهيونية، منادين بوطن قومي يجمع اليهود، ولو على حساب الشعب العربي بعد طرده او قتله.

فاليهود كلما ابتعدوا عن اقامة الطقوس اليهودية، فقدوا مسوغ البقاء على حد زعم (بياليك3) ففي قصيدته (على قلبكم المهجور) يسخر (بياليك) من اليهود الذين ابتعدوا عن الايمان، الامر الذي ادى الى فراغ في قلوبهم، تملأه الارواح الشريرة، مما دفعهم الى ان يعلقوا على قلوبهم الموحشة (المزوزاه) التي يعلقونها عادة على ابواب المنازل اعتقادا منهم انها تبعد الارواح الشريرة:

 

في خراب قلوبكم نقشت المزوزاه

لذا تتراقص الارواح الشريرة وتغرد

وفرقة المهرجين، رجال البطالة والفراغ

هناك يقيمون الاحتفال ويحدثون الضوضاء.

 

والعبارة واضحة لكل من يدخل في حيثياتها، فبسبب عدم ايمانكم بما اوصت به التوراة، كما يزعم، من اقامة لتعاليمها في الهجرة الى الارض العربية، فان (المزوزاه) لن تقوم بعلمها، بل على العكس، تراها تسعد وتهلل لممارسات الشعوب الاخرى (الارواح الشريرة) ضدكم فرحين، لانكم مستهدفون لا يردعهم شيء عن اضطهادكم الا ان تقيموا تعاليم التوراة.

ثم يصور (بياليك) ان الاغيار ينصبون الشراك حولكم ويسعون الى طردكم وكنسكم كما تكنس القمامة صارخين فيكمان (اخرجوا ايها الاشرار) فلا مؤنس لكم ولا معين ويشير باليأس المميت الذي يحيق باليهود وياتي بهم الى الهاوية بعد ان تخمد كل شعلة في سبيل (تنوير) العقل لديهم:

 

هل ترون من ينصب الشرك خلف الباب

بمكنسة؟ انه ياتي والفرقة المهللة

تكنس، تطرد "اخرجوا ايها الاشرار"

حينئذ يدوس شرارة ناركم الاخيرة ـ المعتمة

يسكت، يصمت قدسكم، وينسى الجموع

وعلى مذابح قلبكم الذي خرب

يولول ويتثاءب قط الرب

 

وفي قصيدة (الى قائد الرقص) يسخر "بياليك" من اليهود الذين تركوا العمل بما جاءت به التوراة فيخاطبهم بسخرية بالغة قائلا: دعوا العمل والكد وارقصوا متواكلين، فان في السماء الها، يرزقكم من غير ان تعملوا وتكدوا، وما عليكم الا ان ترقصوا تحية له:

 

لا لحم، لا سمك، لا فطير، لا خبز

ولم هذا القلق واليد خلف الظهر؟

يوجد اليه في السماء، وهو القادر على كل شيء

لاسمه نرفع قدما، نقوي الرقص

نفسنا الغاضبة، قلبنا المشتعل

يسكب اليوم في رقصنا الملتهب

رقص صاخب باصوات وبرق

لتفزع الارض، وتغضب السحب.

 

وهو بهذا يتهكم على اليهود طالبا اليهم العمل والكد والتنظيم وعدم الاعتماد على قوى ماورائية لتحقيق مآربهم، ويصور لهم ان اليهودي في ارض (الشتات) يعاني من (جرائم) الاغيار ولا يوجد في تلك البلاد سوى المرارة والاسى ويدعوهم للهجرة الى (ارض الميعاد) التي تفيض لبنا وعسلا ـ تحقيقا لما جاءت في التوراة:

 

لا عسل، لا حليب، لا قطرة خمر

فقط كأس السم هي المملؤة للان

لا تعلق اليد بصرخة "في صحتك"

حتى نهايتها جرعوها، ورفعوا السيقان

واخذ رقصكم يشتد ويقوى

وهللت وجوهكم وهلل صوتكم

ولا يعرف عدوكم ولا يعمل حبيبكم

ما يحدث في داخل قلوبكم.

 

ويرسم (بياليك) صورة اليهود في (الشتات) بانهم حفاة عراة منبوذون وانهم يجب ان يتمردوا على واقعهم المرير، فالموت والحياة سيان في وضع كهذا:

 

لا قميص، لا حذاء، لا لباس وغطاء

لم الضجة، لا يصير كثرة العطاء، كثرة الجمل

عرايا حفاة كالنسور تخف

ترتفع الى اعلى، الى اعلى، الى اعلى

نطير في العاصفة، نعبر في الرياح

من فوق بحور المصائب والضائقات

باحذية او دون احذية، اليس الكل سواء

هكذا او هكذا فنهاية كل رقصة القبر.

 

ثم يدعو الى التكتل والتوحد، لانهما كفيلان بتخطي كل هذه المآسي:

 

لا اخ، لا قريب، لا عم، ولا مخلص

على من تعتمد، من تسأل؟

فلنلتصق معا، ليمتزج كل رجل مع اخي

ولنتماسك بقوة.

 

وكذلك فعلى الرغم من (النكبات) التي حلت باليهود حسب زعمه وعلى الرغم من الدموع التي ذرفوها كما يدعي، فان الرب، لم يحرك ساكنا لمساعدتهم، لذلك يعمل "بياليك" على حثهم للتحرك والثورة على هذا (الرب) الذي يتوجب عليه ان يخلصهم، بعدما وعدهم بالخلاص ثم خان عهدهم:

 

وحدث ذات مساء: ارجل وصنادل

وشيب الاذقان وسواد خصلات الشعر

وتدور العجلة بلا نهاية، بلا بداية

مستقيمة او مقلوبة، وهلم جرا

لا ملكية لا سقف او ظل حائط

ولم الازدعاج ولم المعجزة

الارض الواسعة، واربع جهات لها

مبارك الذي اوجد لشعبه راحة

ومبارك الذي خلق السماء

شمعة لنا، شمسه معلقة بمسمار

ومبارك على كل طيباته الاخرى

ها للويا بالابواق، هللويا بالرقصات

لا مجد، لا اساس، لا عظمة وتراتيل

هل اغلقت كل القنوات، حاشا لله

حارسنا لا ينام، لا ينسى الورعين

ويعولنا كغربانه، ككلابه

ونحن برقصنا وانشادنا واغنيتنا

نصلح كل ما افسدنا في التاريخ

وكانت رقصة الموت واغنية النكبات

كفارة كاملة لكل الخطايا

لا حكم، ولا رحمة، لا انتقام وتعويض

لماذا اصبتم بالصمم، دعوا الابكم يتكلم

دعوا الرجل يتكلم، لهيب الغضب

ليصل غضبكم الى حجارة الارض

فيكون رقصكم، رقص الارتباك والشجاعة

ليشعل ضواحيكم كاللهب

وفي سعير الرقص، وفي ضوضاء الاغاني

تحطم رؤوسكم على احجار الحوائط.

 

ثم يعمد (بياليك) في قصيدته (هبط المحلاق) الى تصوير اندثار اليهود نتيجة تحالف الآخرين ضدهم، ويصور اليهود بانهم ضحية جرائم قام بها (الاغيار) لذلك فما مبرر هذا الشقاء!!

 

هبط المحلاق على السور وغفا

هكذا انام

تساقط الثمر وما علاقتي بساقي

وما علاقتي بغصني الشائك

تساقط الثمر، ذبل الزهر

بقيت الاوراق

تهب العاصفة يوما فيسقط

الشهداء ارضا

 ثم تستمر ليالي الرعب

ولا راحة ولا سنة لي

وحيدا اناضل واحطم

راسي في الحائط

ويزدهر الربيع ثانية، وانا وحدي

على ساقي اعلق

غصن ارض جرداء، لا برعم ولا زهرة

لا ثمرة ولا ورقة.

 

ويخاطب اليهود منبها الى ان ما جاء به من افكار تدعو الى الاخذ بما تمليه عليه التوراة والعمل على (هديها) في الهجرة الى (ارض الاجداد) والتي قابلها اليهود بالجحود، كما يزعم، ولم يتقيدوا بها، انما سيعلمون بعد حين ان ما جاء به هو الحق، ولكن يكون وقتها قد مات ويدركون انه كان نزيها بسيطا ومتعبا يعمل بسلامة نية من اجلهم:

 

حين تجدون ميثاق قلبي

يتمرغ في التراب

فتقولون: كان الرجل نزيها بسيطا

متعبا وضعيفا

كان الرجل يعمل ويعيش بسلامة نية

خجولا ومتواضعا جدا

يستقبل في هدوء ـ دون تحية او لعنة:

الاتي اليه من تلقاء نفسه

وخرج الرجل ومضى بسلامة نية

يم يضل سبيله

لم يهرب من "الصغائر"

لم يستعطف "الجبابرة"

لم يستجد الامور السرية

وهي ان توانت، فانها تأتي غير مستدعاة:

الامور الجسام

وفي طريق الملك

وقف الرجل وهو ينظر متعجبا

انحنى وذهب

وان توانت، فانها طرقت بابه:

الامور السرية

وهو لم يستدعها

وكره جرأة الكلاب

مع طيبة قلب الزلم( الزلم: حيوان من ذوات الحافرـ بحجم الارنب)

 

وهو، في هذا، يبرر الممارسات والمؤامرات والدسائس التي قامت بها الصهيونية من اجل اقامة وطن قومي لليهود، واصفا العرب بالكلاب التي تريد النيل من اليهود، الامر الذي يكرهه بياليك، ويعمد الى وصف حياته، مدعيا بانه قضاها بالتعبد والصلاة ليل نهار، الا ان الله لم يساعده في تحقيق امنياته في حمل اليهود على التكتل، بسبب انشغالهم بامور دنياهم وموته قبل تحقيق ما تمنى:

 

وكانت لهذا الرجل علية صغيرة

لها كوة صغيرة

كانت ملاذ روحه، لم يكن فيها ملاك

ولم يتسلط عليها شيطان

وللرجل صلاة واحدة، وكان عند الضيق

يصعد الى هناك

يدخل الكوة يرتجف، يرتعد

يبتهل في هدوء

وطالت الصلاة كطول ايام حياته

لكن ذا الجلاب الاعلى لم يردها

منحه ما لم يطلبه، والامنية

التي تمناها لم يعطه.

الرجل حتى اليوم الاخير، لم ييأس من رحمته

وظلت روحه تنتظر

وقلبه يصلي، يصلي (لكنه) مات

في منتصف الصلاة.

 

من ثم يأتي (بياليك) بقصيدته (حقا ان هذا عقاب الرب) متهكما على اليهود الذين يسمحون لابنائهم بالاندماج مع الشعوب (الرخيصة) كما يزعم، ويصبحون (لقمة سائغة بين اسنان الشرهين) ليقوم هؤلاء باستعبادهم، اضافة الى ان ابناءكم (يقول بياليك) يقومون ببناء الحضارة لاعدائكم، ويزعم ان اليهود هم بناة الحضارة الفرعونية في مصر، كما يزعم ان (الرب) انما يقوم بمعاقبتهم لانهم يخالفون امره ويسمحون لابنائهم العيش خارج الارض المقدسة:

 

حقا: انه التأديب والعقاب العظيم:

تكفرون بالرب

وتسكبون خطوط نور خداع

اوحيتم الى كل مرمر كريم

فيندمج في عقر الاحجار الرخيصة

لقمة سائغة بين اسنان الشرهين

تدعونهم يأكلون اجسامكم الحية

تبنون  لمنبذيكم "بتوم ورعمسيس"

صار ابناؤكم لبنات

توسلوا اليكم وسط الخشب والحجارة

وفي آذانكم تدوي صرختهم.

 

ويضيف (بياليك) بان عقوبتكم ايها اليهود ستكون عظيمة من الرب حيث تخسرون فلذات اكبادكم وتخسرون البناء والحضارة التي من شانها ان تكون على ايدي ابنائكم، تدعونهم يعيشون بين الاغيار لتتم تصفيتهم ولا يصلكم من جهدهم شيء:

 

وحين يكبر النسر ويصير له جناح

ترسلونه من عشه الى الابد

وحين يحلق متعطشا الى الشمس العالية

لا يرسل اليكم الاضواء

وحين يخترق بجناحيه ويشق طريقه عبر الشعاع

لا يبعث اليكم بالشعاع

بعيدا عنكم على رأس الصخور يهتف

وصدى صوته لا يصل اليكم.

 

وهذا، من جهة نظر (بياليك) ما يجعلكم ثكالى (مخاطبا اليهود) وتفقدون كل امل لكم بالخلاص.

 

هكذا تفقدون احباءكم واحدا واحدا

وتبقون ثكالى

يعزف المجد عن بيوتكم وتهدم خيامكم

يسري الرعب والخوف

لا تصل فضائل الرب عتباتكم

ولا تدق فرحة الخلاص نوافذكم

تجيئون الى القفر لتصلوا فلا تستطيعون

وتلتمسون دمعة الندم فلا تجدون

تتقلص قلوبكم كعنقود عنب معصور

ملقى من ركن قبو الخمور

لم تعد فيه قطرة تنعش القلوب

او تشبع جوع النفوس

تتحسسون فرن القفر

فاذا هو حجر بارد

وقد يبكي وسط رماده البارد

فتبقون حزانى، مكتئبين

ومن الخارج امطار تهطل

وانتم وسط التراب والرماد

اعينكم الى ذباب الموت على نوافذكم

والى العنكبوت في الزوايا الخربة

ولولة الفقرة تنبعث من المداخن

واسوار الفقر ترتعد بردا.

 

وفي قصيدة (آخر موت الصحراء) يصيح (بياليك) باليهود، مذكرا اياهم بمآسيهم التي تعرضوا لها، كما يزعم، على يد الامم الاخرى، كما يقول لهم بان افيقوا واخرجوا من الصحراء (مذكرا اياهم سني التيه) وفق الرواية التوراتية، فامامكم الطريق، وهي طويلة، يكفيكم تشردا، آن لكم ان تستقروا في بلاد تحتضنكم، وانتم اليها لا تأبهون بما قد يجري او جرى.. ولا تلتفتوا الى الضعفاء منكم، استمروا في السير نحو تحقيق الهدف الذي تنشدون، وامضوا الى البلاد التي تروق لكم، متحررين من الرق والعبودية، ولا تكونوا كالذين ماتوا منكم تحت السوط، فهؤلاء هم الذين رضوا بالهوان.. الا اخبركم بخير من ذلك، القوة سبيلكم والتصميم ضالتكم:

 

قوموا تائهي الصحراء، اخرجوا من القفراء!

ما زالت الطريق طويلة،

ما زالت الحرب عظيمة

كفاكم تحركا، تشردا في الارض القاحلة،

وامامكم ممتدة طريق كبيرة، واسعة،

لاربعين سنة فقط نتيه بين الجبال

وفي الرمال دفنا ست مئة الف جثة

لن توقفنا جثث الضعفاء

الذين، بعبوديتهم، ماتوا ـ نتخطى (الشهداء)!

يتفسخون بعارهم يتمددون على حزمهم،

التي حملوها من مصر على اكتفافهم

يستعذبون حلمهم، حلم البصل، الثوم

خزانات كبيرة وعظيمة مليئة باللحم

قد تقتسم اليوم او غدا الريح الشرقية

مع النسر جثة آخر العبيد.

 

وبفجور يدعي بان الشمس ستفرح بعد ان يأخذ اليهود بما جاء لهم به، وان النور سيعم وجه العصر، تأثرا بهم، على ان يجعلوا منه قويا، والتصميم هو الضالة، فعندما تأتون جميعا ـ يقول ـ تشكلون قمة تسخر العصر وتسخر منه، وعندها ينير وجهه، ويصبح قادرا على مجاراة فعالكم في سبيل وحدتكم في مكان واحد، ثابت، يكون لكم وحدكم:

 

والشمس تفرح فرحا عظيما

ان ترسل اولا نورا

على وجه عصر قوي

وبصيحة ينير وجه العصر اولا

للقاء الشمس وقوتها العظيمة

 

وما عليكم، (يمنيهم) سوى ان تقوموا، وتغادروا الصحراء مبتهجين الى ارض تستطيعون فيها تحقيق كلمة (الله)، تنشرون النور على الامم وتغيرون وجه العصور ولكن حدار! ان ترفعوا اصواتكم قبل تحقيق هدفكم (مؤكدا على ضرورة ان يكون العمل سريا في البداية) سيروا بصمت وثبات، فلا احد حينئذ رادعكم ولا رادكم، كي لا تثيروا نقمة احد، وستجدون صوت الاله يهتف لكل منكم: اذهب! الى ارض جديدة انت اليوم ذاهب:

 

قوموا اذن، ايها التائهون:

غادروا القفراء!

كي لا تغيظوا بخطواتكم الصحراء

ونائميها

كل شخص يسمع بقلبه صوت خطاه!

شخص بقلبه، يسمع صوتا يقول:

"اذهب الى ارض جديدة انت اليوم ذاهب"!

 

ويعمد (بياليك) الى حض اليهود على العمل، يدعوهم الى الاعتماد على انفسهم والا يتوقعوا الحصول على ما يريدون دون عمل، فالطريق محفوفة بالكد، ولكن عندما يصلون ـ يمينهم ـ ستعلمون انكم تركتم خيامكم التي لا ترد عنكم حرا ولا قرا، لتبنوا بيتا دافئنا يحتويكم، وتركتم صحراء قفراء جافة، لتستشعروا ان تجدوا ناطحات سحاب بانتظاركم، او ان يكون طعامكم منا وسلوى، بالجد فقط تستطيعون السيطرة على كل ما تريدون، وبالقوة فقط تستطيعون الحصول على ما ترغبون:

 

لا! ليس خبزا فاسدا او منا وسلوى

خبزا بالكد تأكل، ثمر عمل اليدين!

لا! ليس خيمة بالهواء او ناطحات سحاب

بيتا آخر تبني، خيمة اخرى تقيم!

لانه عدا الصحراء، تحت السماء

لله عالم كبير واسع الارجاء

وعدا عويل الصحراء، صمت الجفاف

تشعر ارضا تحت الشمس فاتنة

 

وحينئذ تستطيعون امتلاك الارض، فملاك الحرب ينظر اليكم، يذكركم بامر الهي، الزحف بجحافكم وصولا الى البلاد (وعد الرب) ـ ثم التشريد بمن فيها اقامة للشعائر وبصرخة واحدة من قائد الزحف، يتبدد العصر المرير، وترثون الارض ومن عليها وما عليها:

 

وعلى قمة نبو

امام الشمس المقبلة

منظر رائع كوجه ملاك الحرب

يقف يهوشوع بن نوع يصيح

على راس جيشه العظيم

صوته كالسهم يخرج، مليئا قوة، بأسا.

كلامه يتأجج كالشعلة، كالنار

والصحراء المخيفة، الصحراء الخالية،

ترد خلفه: "اسرائيل قم رث"(!!).

  

الهوامش:

1- احاد هاعام هو اشير غينتسبرغ. ولد عام 1856 في بلدة صغيرة في اوكرانيا اسمها سكفيرا، ورث عن ابيه يشعياهو علوم التوراة والتلمود. درس التاريخ والرياضيات وتعلم اللغة الروسية سرا. تزوج من امرأة يهودية من عائلة (ربييم) ثم قرر الدراسة في احدى الجامعات، فبدأ يستعد لامتحانات الدراسة الثانوية.

تعلم الايطالية وعمق معارفه في التاريخ والرياضيات، لم يجد الرغبة في نفسه للدراسة الثانوية، سافر الى احدى مدن المانيا لسماع التوراة في الجامعة دون ان يحمل شهادة الدراسة الثانوية، جاء الى فيينا، ومن ثم انتقل الى برلين ومنها سافر الى بريسلاو ثم عاد الى فيينا. قدم الى اوديسا عام 1886 واتخذ فيها بيتا. شارك في اعمال رابطة "احباء صهيون" ثم اصبح زعيمها الروحي.

اثارت مقالته "ليست هذه الطريق" التي نشرها في مجلة "هامليتس" عام 1889 نقاشا لاهبا في اوساط "احباء صهيون" دعا فيها الى احياء الشعوب القومي لليهود، نشر مقالته هذه باسم (احاد هاعام) منذ ذلك الوقت دعي اشير غينتسبرغ باسم (احاد هاعام).

اسس احاد هاعام بعد نشر مقالته الاولى بزمن قصير، رابطة سرية اطلق عليها اسم (بني موشيه) وكرسها لتوظيف الجهود في سبيل تطوير الشعور (القومي)، كان يعتقد انه لا يمكن تحقيق هذا الامر الا بد النخبة من اليهود وعندما ذهب احاد هاعام 1891 الى فلسطين، نشر مقالا لاذعا باسم "حقيقة من ارض اسرائيل" حدد فيه انه لا يمكن احياء الارض دون احياء الشعب وقد انهى مقاله هذا بوصف زيارته لحائط المبكى حيث قال:

"عندما قدمت الى البلاد مساء عيد الفصح وزرت القدس لاشكو همي وافرغ غضبي امام حائط المبكى. شعرت بالحزن لانني وجدت العديد من اخوتنا يصلون بصوت عال، وكانت وجوههم متهدلة، وحركاتهم غريبة وثيابهم بالية.

كل ذلك يناسب منظر الحائط الرهيب، وانا واقف احدق بهم تارة وبالحائط تارة اخرى وفكرة واحدة تدور في رأسي:

 هذه الحجارة شاهدة على خراب ارضنا، وهؤلاء الناس ـ على خراب شعبنا، أي من الخرابين اكبر من اخيه؟ على أي منهما يجب ان نبكي اكثر؟.

الارض عندما تكون خربة والشعب مليئا بالحياة والقوة يقوم لبنائها زروبابل وعزرا ونحميا والشعب من ورائهم لكن الشعب عندما يكن خربا من يقوم له ومن اين يأتي عونه".

نما هذا الشعور عند احاد هاعام واشتد بعد زيارته لفلسطين في المرة الثانية عام 1893. نشر مقاله "الحقيقة الثانية" حدد فيه ان الكم ليس هو الاساس وانما الكيف، وان الاستيطان في فلسطين يجب ان يكون مثلا وانموذجا، (مركزا روحيا) لليهود في العالم. طالب احاد هاعام بتفعيل نشاط معمق من اجل (احياء الشعب).

لم يكتف بالنقد والمطالبة، وانما قام بالعديد من الاعمال في هذا المجال، اصدر مجموعة قصص باسم (الخلية).

اسس دار نشر كبير (احي اساف) التي ادت دورا في تطور القص العبري في تلك الايام، اضافة الى الكتب واللوائح السنوية التي كان يصدرها.

اسس في برلين عام 1896 المجلة الشهرية (هاشلوح) نشر فيها نتاجات المؤلفين، والشعراء العبريين، كما نشر احد هاعام معظم مقالاته التي تبحث بشكل اساسي في موضوع (المركز الروحي).

مكث احاد هاعام في لندن من عام 1907 حتى عام 1922 حيث مرض مرضا قاسيا. اتى بعيده الى فلسطين، وبعد وقت قصير امضاء في القدس انتقل الى تل ابيب للسكن فيها في الشارع الذي دعي باسمه، حيث قضى فيه آخر سني حياته.

عاش احاد هاعام في فترة اعلان بعض الحكماء اليهود بانه لا مستقبل للامة، وان على اليهود الامتزاج مع الشعوب الاخرى والتأقلم مع حياتهم والعيش على ذكريات الماضي فقط، هذا من جانب، ومن جانب ثان ظهر مشروع استيطاني يهودي في الارجنتين مفاده نسيان الماضي، وبناء مستقبل جديد، ومن جانب آخر جاء هرتسل بمشروعه الذي يدعو به لاقامة دولة لليهود في فلسطين، يتجمع بها جميع الشعب، ومحو كلمة الشتات الى الابد.

عارض احاد هاعام تلك المشاريع، وقال: "كما ان الانسان عبارة عن (ائتلاف ذكرياته مع ارادته، وماشيه مع مستقبله) كذلك ايضا خصوصية الامة تتالف من مقومات الماضي والمستقبل، الذكريات والانطباعات من الماضي والامال والطموحات للمستقبل ترتبط بعضها ببعض، ولا يكون الشكل القومي طبيعيا وكاملا في حال فقدت احدى هذه المقومات، لذلك يكون قد اخطأ كل من حكمات الغرب الذين تنكروا للمستقبل وكذلك انصار الاستيطان اليهودي الذين تنكروا للماضي اذا اعتقد هؤلاء بان الامة تستطيع ان تقوم وفق مشاريعهم".

رفض احاد هاعام مشروع هرتسل، لان احاد هاعام يعتقد بان فلسطين غير قادرة على استيعاب الجمهور اليهودي وحل مشكلة معيشته وقال: "يجب ان تهاجر الى (ارض اسرائيل) القلة المختارة فقط من الامة تبني حياة صالحة وتشع بالحضارة العبرية تكون مصدر تأثير ومرجعية لليهود في المهجر".

وجه تطور الاحداث في العالم صفعة الى منهج احاد هاعام.

جمع هاعام مقالاته في اربعة مجلدات، دعاها باسم (على مفترق الطرق).

باشر في طباعة ستة مجلدات تضم رسائل اخرى وهو على فراش المرض دعيت باسم "رسائل احاد هاعام" في سني حياته الاخيرة التي قضاها في تل ابيب.

قامت بلدية تل ابيب باغلاق الشارع الذي يضم بيته الصغير كي لا تزعج ضجة السيارات  هذا العالم المريض.

صار بيت احاد هاعام الان ملكا عاما وفتحت مكتبته الكبيرة يوميا امام جهور القراء والمؤلفين، والمعلمين وطلاب المدارس.

مات احاد هاعام في 2 كانون الثاني 1927 وقبر في المقبرة القديمة في تل ابيب ودفن الى جانبه كذلك تلميذه. الشاعر حاييم نحمان بياليك).

2ـ شاعر صهيوني، ولد في هنغاريا، كرس قصائد لفكرة (احياء اسرائيل) كتب عدة قصص وقصائد ومسرحيات. هاجر الى فلسطين عام 1938، ومكث في كيبوتس (كفرسالد) جانب (غديرة) ثم انتقل بعد ذلك الى حيفا، وعمل في لجنة الهستدروت الثقافية.

 

3ـ حاييم نحمان بياليك. ولد في رادي ـ فولينيا الروسية ـ عام 1873 قضى طفولته وحديا يتأمل الطبيعة ويحاول الوصول الى اسرارها بعد موت والده الذي ترك اثرا من الحزن على اشعاره. عاش مع جده، الذي كان يقتني كتبا دينية كثيرة. ذهب الى فولوزين لتيوانيا حيث ابدى رغبته في الانضمام الى اكاديمية التلمود. غادر الى اوديسا ثم عمل بالتجارة. قام بتدريس اطفال اليهود منذ عام 1897 حتى عام 1900. اسس دار (موريا) للنشر وكذلك دار (دفير). استقر في فلسطين عام 1923. اشتهر شاعرا وقاصا وكاتب مقال، ومترجم

ترجم (Don Quixoto) و (wilhem Tell) وكتب العديد من القصائد منها (طالب العلم) و(آخر موتى الصحراء) و(ميثاق النار) وغيرها. تأثر بالمذهب الرومانتيكي المعروف الذي صاغه ( La martine) تلقى تعليما دينيا، الهاجاداه والهالاخاه، درس الفلسفة وادب الهسكالاه ثم تعلم الروسية والالمانية واطلع على كثير من الاداب في هاتين اللغتين. توفي بياليك عام 1934 ودفن بجوار استاذه احاد هاعام.