*Moustafa Ghareeb* مصطفى غريب * * التلفيق والعدوانية في الايديولوجية الصهيونية

التلفيق والعدوانية في الايديولوجية الصهيونية

 

 

د . فيصل دراج

كاتب وناقد فلسطيني ـ دمشق


 

مقدمة

لا صعوبة، نظريا، في الربط بين الصهيونية والنازية، فكلاهما يقول بـ "جنس فريد" يقف فوق غيره من الاجناس، ويسوغ له اخضاع الاجناس الاقل رتبة. ولا صعوبة، ايضا، في ادراج الصهيونية، من حيث هي ايديولوجية عنصرية، في الايديولوجية الاستعمارية الاوروبية، التي سيطرت في القرنين الثامن والتاسع عشر، والتي اطعت "الرجل الابيض" رسالة تمدين "انسان الغابات". مع هذا فان الصهيونية تحصن عنصريتها ببعد اسطوري مقدس، يجعل من اليهودي "الرجل الابيض" بامتياز، ومن اليهود "شعب الله المختار"، الذي امر الله له بامتياز منعه عن غيره. ولعل الربط بين الايديولوجيا الاستعمارية الكلاسيكية وتعاليم الاسفار اليهودية القديمة يجعل من الصهيونية اعلى درجات العنصرية في القرن العشرين، وحالة عنصرية فريدة، او شبه فريدة على الاقل.

 

 

اولا ـ التلفيق في المنظور العنصري

يعطي الفكر الصهيوني التعريف التالي: "هي الحركة اليهودية الوطنية في العهد الجديد، وهذه الحركة تؤيد عودة الشعب الى صهيون، الى وطنه التاريخي ارض اسرائيل واقامة دولة يهودية حرة ومستقلة، وتجديد حياة الشعب اليهودي، الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية".(1) يحجب التعريف ثلاثة عناصر مضللة اساسية، فهو لا يتوقف اولا، امام دلالة الحركة الصهيونية، التي تعهد برسالة "الرجل الابيض" الاستعمارية الى "الرجل اليهودي"، رابطة بين الاخير وحيز جغرافي معين هو: فلسطين. وآية ذلك ان الصهيونية كلمة "حديثة" ابتكرها الكاتب النمساوي اليهودي ناثان برنباوم (1864-1937)، كي يصل بين "الشقاء اليهودي" و"ارض الميعاد". يتكشف العنصر الثاني في تعبيرين هما: "العهد الجديد"، ويحيل منطقيا الى "عهد قديم"، و"عودة الشعب"، ويرد منطقيا ايضا، الى "خروج الشعب". مما يعني فصل "العودة" فعلا مشروعا ومسوغا الى حدود البداهة. وواقع الامر، ان الفعل الصهيوني، الذي يأخذ شكل البداهة، يمزج بين العنصرية الاوروبية، التي تلغي الشعوب بحجة تمدينها، وعنصرية محصنة بشواهد مقدسة زائفة، ذلك ان الصهيونية "تخصب" رسالة الرجل الابيض بـ "حكايات" الاسفار القديمة.

ان العودة الى الاسفار اليهودية، وكما بين عزة دروزة في "العدوان الاسرائيلي القديم". كتشف عما لا يأتلف مع  العقل الانساني السليم ولا مع الاديان السماوية. فوفقا لهذه الاسفار، فان الله اختار اليهود امة خاصة به، واعطاهم ما لم يعطه لغيرهم، وعلمهم كيف يقضون على غيرهم بلا رحمة. كان نقرأ في الاصحاح العشرين من سفر "تثنية الاشتراع": "واما مدن اولئك الامم التي يعطيها لك الرب الهك ميراثا فلا تستبق منها نسمة. بل ابسلهم ابسالا. الحيثيين والاموريين والكنعانيين والفرزيين والحوبيين واليبوسيين كما امرك الرب الهك".(2) يثير هذا القول المنسوب الى الله اكثر من ملاحظة: لا علاقة بين الرسالة السماوية التي عهد الله بها الى موسى وما جاء في الاسفار. لان الاديان السماوية تنهي عن القتل وتحض على التسامح. ليست هذه الاسفار الا كتابات موضوعة، استعملها "بعض اليهود"، وفي فترات مختلفة، لاغراض سلطوية متنوعة. وتقول الملاحظة الثالثة الاكثر اهمية: سعت الصهيونية، وهي تتوسل نصوصا اسطورية يهودية قديمة، الى استنفار الطاقة العدوانية الطافحة القائمة في الخطاب الصهيوني ذاته. فالصهيونية، موضوعيا، مشتق من مشتقات الاستعمار الاوروبي الحديث، ولم تكن ممكنة من دونه، بل هي ضرورة له. ولذلك فان رجوعها الى الاسفار القديمة لا يسوغ شيئا، طالما ان القوة الاستعمارية هي التي املت الفكرة الصهيونية وامدتها بوسائل الحياة. وما عطف "العودة الى فلسطين" على الاسفار القديمة الا استثمار لعدوانية طليقة محوطة بالمقدس، يدعم العنصرية الصهيونية ويوطد مواقعها.

سعت الصهيونية، وهي تستعيد موروثا دينيا موضوعا، الى الحصول على شرعية مفقودة من ناحية، والى مطابقة العنصرية اليهودية النصية القديمة بعنصرية "العهد الجديد"، كما لو كانت العنصرية هي الفاعل الاساسي في التاريخ اليهودي كله. وكانت بذلك تؤكد، زورا، وحدة اليهود العرقية، المتميزة من غيرها، بقدر ما كانت تربط هذه الوحدة المزعومة بارض تاريخية قديمة، هي فلسطين، التي خصصها الله للامة التي اختارها واصطفاها، أي الامة اليهودية. وبذلك تم الربط بين "الحق الديني" و"الحق التاريخي"، وبين "شعب الله المختار" و"ارض الميعاد"، أي اقيمت الممارسة العنصرية على اسس الهية. ولم يكن محمد عزت دروزة مخطئا، حين ربط بين المزاعم الصهيونية و"الاختصاص الرباني"، الذي يجعل من اليهود تجسيدا للارادة الالهية وامتدادا لها، ويجعل من غيرهم "ارادة ارضية"، عليهم الامتثال للارادة اليهودية، من حيث هي وجه لارادة سماوية. ونتج عن ذلك توجه الديانة اليهودية الى اليهود فقط، على عكس الاسلام والمسيحية المتميزين بطابع كوني، أي تأكيد الله الها خاصا باليهود، يحتكرونه ويحتكرون الارض، التي هي من خلق الله. ولعل هذا الاحتكار الرباني هو الذي يحدد التاريخ اليهودي تاريخا متميزا بدوره، حدوده علاقة اليهود بربهم، طاعة او عصيانا، حيث الطاعة تفضي الى النصر، والعصيان الى الشقاء والهزيمة. بمعنى آخر: ان اليهود منتصرون بفضائلهم ومهزومون بذنوبهم، ذلك ان بني البشر جميعا غير قادرين على التأثير في التاريخ اليهودي، لانه تاريخ خاص مغاير لتواريخ البشر الاخرى، حدوده علاقة اليهود بربهم، بعيدا عن الشر.

تكشف العلاقة المتبادلة، بين المزاعم الصهيونية والاسفار اليهودية القديمة، عن لا عقلانية الصهيونية، وترى الى الاخيرة كنفي للعقل. والعنصرية تدمير للعقل ونفي له، وان كان تحقيقها العملي لا يقتصد في استخدام الوسائل العقلانية. ونفي العقل واضح في بعدين اساسيين: وضع الجنس اليهودي فوق غيره من الاجناس، وتطابق الارادة اليهودية مع الارادة الالهة. واذا كان هذان العنصران، على المستوى الفكري، يردان الى ميتافيزيقا خالصة، فانهما، على المستوى العلمي، ينتجان سياسة فاشية واستبدادية، مثلما برهن اسحاق شحاك وهو يتحدث عن "اليوتوبيا المغلقة". يفضي هذان العنصران الى مفهوم الحصرية الشوفينية، الذي يسرى في اللامساواة المطلقة مبدأ اساسيا يفصل بين اليهود وغيرهم، بل مبدأ يحقق فيه اليهود الارادة الالهية، وهم يحققونه على الارض. وبداهة، فان هذه الحصرية الشوفينية توافق المتمسكين بالفكر التلمودي اليهودي، وتوائم "العلمانيين اليهود"، طالما ان العنصرية الجوهرية تتوزع، وبشكل متكافئ، على الاسفار القديمة، وعلى المبادئ الصهيونية الحديثة.

واتكاء على الحصرية الشوفينية، التي يتعايش فيه الادعاء الديني وبرغماتية سياسية فجة، مارست اسرائيل بعد قيامها، سياسة قضم الاراضي العربية في فلسطين المحتلة، ثم الاعتداء على ارض عربية خارج فلسطين. ويكن الاشارة هنا الى ان الحدود التوراتية لـ”اسرائيل” قد اعلنت في الكنيست الاسرائيلي وعلى لسان بن غوريون عام 1956، علما ان الاخير لم يكن مؤمنا ولا متدينا، مما يؤكد العنصرية مرجعا يجمع بين الاساطير القديمة والصهيونية الحديثة. والحدود التوراتية هي تلك التي تقررها الاسفار الدينية، التي املاها سياق منتصر، يضع شجاعة اليهود فوق البشر، او سياق هزيمة، يضع شقاء اليهود فوق غيره ايضا. تنتهي فكرة "الحدود التوراتية" الى نتيجة تراجيدية بالضرورة، تقول: ان كان اليهود يرثون الارض التي ورثهم الرب اياها، فان من يقف في وجههم، أي من يرفض الحدود التوراتية، يرفض المشيئة الالهية ويستحق عقابا صارما. وهذا ما يجعل "جيش الدفاع الاسرائيلي" جيشا من نمط خاص، ولا يدافع عن حدود "بشرية" عادية، بل عن حدود اخرى متعالية، او مرتبطة بالارادة المتعالية.

تنطوي اسرائيل على ثلاثة عناصر جوهرية تجعل منها دولة لا تعيش الا بالحرب، او دولة ترى في الحرب لا غنى عنه. وهذا العناصر هي: اسطورة شعب الله المختار، مساواة الغزو الاستعماري بالحق الالهي، عبادة القوة والسيطرة. والتسلسل المنطقي بين هذه العناصر واضح وبسيط: من اختاره الله واصطفاه يحق له ما لا يحق لغيره، ويكون له من القوة ما لا يكون لغيره. يحجب هذا التسلسل دور الغرب الاستعماري في اختراع اسرائيل، وفي تامين كل ما يجب كي تكون قادرة على قهر العرب والسيطرة عليهم. بمعنى آخر: تسوغ الايديولوجيا الصهيونية، المتكئة على المقدس والمحصنة بـ "الاختصاص الرباني" وجود الغرب الاستعماري في العالم العربي، ذلك ان الوجود الاسرائيلي، في ماهيته الفعلية، هو وجود هذا الغرب. وهذا ما يفسر، جزئيا، تفوق اسرائيل على العرب، في مجالات كثيرة، ليست اخرها المجالات العسكرية. وبهذا تكون العنصرية الصهيونية مدخلا موائما لعنصرية اخرى اكثر سطوة وهولا، على المستوى العملي على الاقل، هي "العنصرية الاوروبية، او المركزية الاوربية ـ الاميركية.

 

ثانيا ـ الصهيونية والمقولات العنصرية الاساسية

تشكل مقولة: "اللاسامية" عنصر ثابتا في الخطاب الصهيوني، يساوي "ثبات" كره اليهود ومقتهم، كما لو كانت اللاسامية جزءا ثابتا في التاريخ البشري ومحايثا له. والنتيجة الصادرة عن هذه المقولة واضحة: ان كره اليهود، حيثما وجودا، واستمرار هذه الكراهية وثباتها، كما الاضطهاد المتوافر ضد الذين كانوا موضوعا له، كل هذا يحتم اخلاقيا ومنطقيا "عودة اليهود" الى ارضهم "التاريخية" أي فلسطين، كي يتحرروا من الاضطهاد الطويل، ويصلوا اخيرا الى ارض الخلاص. تفضي فكرة "اللاسامية" الى فكرة "الخلاص الاخير"، لان هذا "الخلاص" ليس ضروريا ولا معنى له الا بمقدمته الضرورية التي هي: اللاسامية.(3)

يؤكد جدل الخلاص الاخير واللاسامية، (المقولة الاخيرة) علاقة داخلية في المشروع الصهيوني، لا يستقيم من دونها ابدا ولهذا كان على الصهيونية اختراع اللاسامية، او اعادة توليدها بما يتفق مع الاهداف الصهيونية، وذلك في ايديولوجيا لاهوتية قطعية، تفصل بي السامي، وهو اليهود بالضرورة، واللاسامي. واذا كان اليهودي، وفقا للاسفار اليهودية، تجسيدا للارادة الالهية وامتدادا لها، لانه ينتمي الى "الامة الخاصة" التي اختارها الله امة له، فان "اللاسامي" نفي للالهي ونقض له، وعلاقة في امم  متدنية، على مبعدة من الكمال اليهودي المنسوب الى الاله. وعلى هذا، فان الديانة اليهودية، كما ترويها الاسفار، تخلق نقيض اليهودي بالضرورة، وهي تفصل بين اليهودي واللا يهودي، مثلما ان الصهيونية تنتج اللاسامي ايضا، وهي ترى الى فلسطين موقع الخلاص الاخير.(4)

تنطوي فكرة شعب الله المختار، منطقيا، على مقولة اللاسامية بقدر ما تتضمن الصهيونية، وهي "المشروع السياسي" لشعب الله المختار، اللاسامية ايضا. فالتميز اليهودي، كما ترسمه الاسفار اليهودية، لا يبدأ بفكرة الحوار والاعتراف بل الرفض والمسافة، مثلما ان "الحق الالهي"، الذي تدعيه الصهيونية، الملفقة نظريا والبراغماتية سياسيا، ينتهي الى عزل اليهود عن غيرهم. وبسبب هذا، تكون فكرة اللاسامية نافلة ولا معنى لها، حتى وان تعرض اليهود في بلدان كثيرة الى القمع والاضطهاد. ان وضع اليهودي فوق غيره، في المنطق الديني والسياسي معا، يولد اليا اللاسامية، لا بسبب رفض الغير لليهود، بل بسبب رفض اليهود ان يتساووا بغيرهم من البشر، بمعنى آخر: لا تتعامل الصهيونية مع واقع اجتماعي موضوعي انتج اللاسامية، بل تعمل دائما على انتاج واقع اجتماعي ينتج اللاسامية، على اعتبار ان الاخيرة ضرورة لاستواء المشروع الصهيوني، بدءا من تأمين المادة البشرية اليهودية التي عليها استعمار فلسطين، وصولا الى "مبدأ العودة"، الذي يجعل من فلسطين وطنا لكل اليهود في العالم. وفي هذا المنطق تكون اللاسامية اختراعا صهيونيا، ويكون التنديد بـ "اللاساميين" حاجة صهيونية داخلية، أي ان الصهيونية تخلق العداء بقدر ما يخترع الصهاينة اعداءهم. واختراع العدو، والعمل على تدميره لاحقا، يقيم علاقة وطيدة بين الصهيونية والفاشية.

بحثت الصهيونية عن "الشرعية" في اسفار يهودية ميتة، خالطة بين "الحق التاريخي" و"الحق الالهي" والاستعمار الاستيطاني، أي انها اخترعت الالهي والتاريخي لتسويغ مشروع استعماري، يطرد العرب من فلسطين(5). لكنها، وهي تبحث عن "شرعية الاحتلال" كانت تبحث عن شرعية اخرى، تقنع اليهود بالذهاب الى "الخلاص الاخير". ولم تكن "الشرعية الثانية" الا "اللاسامية". التي تفرض كرها متبادلا بين اليهود وغيرهم. ولهذا يكون التكاره، أي الكره المتبادل، كما التحارب، حرب اليهود على العرب، علاقة داخلية في الصهيونية، لانها لا تبدأ بوحدة الجنس الانساني، بل باستحالة وجود هذه الوحدة. فالوحدة تقوم بين عناصر متشابهة ومتناظرة، وهو مالا يأتلف مع "الطبيعة اليهودية" التي خلقها الله، ومنذ البدء، مغايرة لغيرها.

تبدأ الصهيونية بـ "قوة الاسطورة". فلقد كان لليهود مجد غابر في فلسطين، قبل آلاف السنين، عليهم ان يستعيدوه. ثم تتقدم خطوة اخرى في اتجاه "قوة الاسطورة المسلحة". واذا كان في الاساطير ما يدمر العقل ويفجر المحاكمة السليمة، فان في الاساطير المسلحة، ما يدمر البشر. ولعل هذا الولع بالدمار، هو الذي نقل الصهيونية من اسطورة الى اخرى، بل جعلها تخلق الاساطير وتستثمرها: اسطورة شعب الله المختار، اسطورة "ارض بلا شعب لشعب بلا ارض" اسطورة "الهولوكست".. لا تستوي هذه الاساطير دون "قراءة اسطورية" للتوراة والتاريخ، انجزتها، على اية حال، الصهيونية، وهي تعيد خلق التاريخ والوقائع من وجهة نظر "شعب الله المختار". لم يكن  روجيه غارودي مخطئا حين كتب : "الاسفار التاريخية ـ وخاصة سفر يسوع وسفر صموئيل وسفر الملوك ـ لا تمس باية حال من الاحوال التوراة وما جاء فيه من معتقدات دينية.. ولكن ما نرفضه هو القراءة الصهيونية القبلية والقومية لهذه النصوص، باختزال الفكرة الهائلة لعهدة الله مع الانسان، ومع كل الناس، ووجوده في داخلنا جميعا لاستنتاج "اشر" فكرة في تاريخ الانسانية، الا وهي فكرة شعب الله المختار، اختاره رب متميز وجزئي (ومن ثم صنم)، وذلك للتبرير المسبق لجميع انواع السيطرة والاستعمار والمذابح، كما لو كان تاريخ العبرانيين او التاريخ المقدس هو التاريخ الوحيد في العالم".(6) يتعامل اليهودي مع اله خاص به، يختلف عن اله البشر الذي هو عادل ومتسامح ولا يعرف الانحياز. وبسبب هذه العلاقة، فان اليهودي لا يرضى بالحقوق والواجبات التي تربط بغير اليهودي، ويطالب بحقوق اخرى توافق علاقته الخاصة بـ "الاله المنحاز".

يحيل ما يقول به غارودي على نقطتين تضيئان ما يدعوه البعض بـ "الشرط اليهودي": تمس النقطة الاولى القول بوحدة يهودية متجانسة، لا تقبل الفرد ولا بفكرة الفردية. وهو ما يجعل اليهود يواجهون غيرهم ككتلة مستقلة. ولذلك يكون بامكان الصهيونية ان تتحدث عن "الامة اليهودية"، دون الاهتمام بالامكنة والمجتمعات التي يعيش فيها اليهود. لا تكتمل هذه الفكرة، من وجهة نظر العنصرية الصهيونية، الا بفكرة اخرى تقول: ينتمي اليهودي الى امته اليهودية، ذلك انه لا يتعرف، ولا يمكن ان يتعرف كفرد مستقل بذاته، ما يجعل وجوده خارج "الامة اليهودية" شكلانيا، ولا يلزمه بشيء. ترد هاتان الفكرتان الى النقطة الثانية وتقول: ان تمايز اليهود يضعهم خارج المجتمعات جميعا، بل خارج المعايير المكانية والزمانية لهذه المجتمعات، ويؤكدهم كعلاقات متجانسة في "الامة اليهودية"، التي لا تعترف بالمكان والزمان. تنفي هذه الفكرة مبدأ المواطنة، الذي يتمتع به اليهود في مناطق تواجدهم وتقنن الولاء اليهودي في صياغة ملتبسة تلتزم بـ "الروح اليهودية" قبل أي شيء آخر. اعتمادا على هذه الفكرة يضع اليهود انفسهم خارج المجتمعات التي يعيشون فيها، ويرفضون مبدأ المواطنة وهم يتمتعون به، أي يرون المجتمعات كلها غير جديرة بالانتماء اليها والاخلاص لمعاييرها.

تبدأ الصهيونية بـ "اللاسامية"، كعدو لها، وتنتهي الى توليد متناتج لـ "اللاسامية" التي هي التجسيد الحقيقي للعنصرية الصهيونية. والسؤال كله يدور بين صورة الانا الصهيونية وصورة الاخر، الذي لا تأتلف معه الصهيونية، حتى لو سعى الى الائتلاف معها. ذلك ان المسافة العنصرية، التي تمليها الصهيونية، تجعل من تلاقي الصورتين ومن حوارهما، تاليا، امرا مستحيلا. يعرف معجم المصطلحات الصهيونية، الذي وضعه الصهيونيان افرايم ومناحيم تلمي، اللاجئين الفلسطينيين بالشكل التالي: "اما اللاجئون فانهم العرب الذين رحلوا من منازلهم وقراهم ومدنهم منذ حرب الاستقلال، وذلك بدعوة من زعمائهم، الى ان يتم تدمير اليهود، وعندها يعودون ليس فقط الى منازلهم وقراهم، وانما الى منازل اليهود الذين سيلقون بهم في البحر، او سيبادون في المعارك.

وهكذا ستوضع نهاية للدولة اليهودية. ان الذين هاجروا من منازلهم، والذين تذكروا جيدا المذابح الوحشية التي نفذها العرب باليهود في السنوات الدامية التي سبقت حرب 1948، والذين خشوا تعرضهم للانتقام اصبحوا لاجئين".(7) اضافة الى النقض الصارخ للوقائع التاريخية، الى درجة تقلب الحقائق قلبا كاملا، فان الجوهري في التعريف الصهيوني للعربي الفلسطيني هو: الالغاء. ودليل الالغاء هو الاختراع. وآية الاختراع اختزال علاقة الفلسطيني بوطنه الى تذبيح "الآخرين" والخشية من "انتقام محتمل". وفي مقابل التذبيح واحتمال الانتقام الذي يحدد صورة الفلسطيني، يتحدد اليهودي بـ "حرب الاستقلال" و"الدولة اليهودية". ان اختراع الفلسطيني، في الخطاب الصهيوني، امتداد منطقي لمقولة "اللاسامية الصهيونية"، او امتداد للمنطق الصهيوني، الذي لا يرى علاقته بالاخر الا بتوسطات محددة هي: التذبيح والانتقام والترويع. . . غير ان اختراع الفلسطيني لا يستكمل، منطقيا وعمليا، الا باختراع صورة اليهودي ايضا، وذلك في جدل غريب يكون فيه اليهودي ضحية وجلادا معا فضحية هو، وهو ينسب الى الفلسطيني "مذابح مروعة" انزلها باليهود، مما يجعله ضحية وهمية، او جلادا حقيقيا يأخذ شكل الضحية. وجلاد هو، وهو يحتل الارض العربية، ويقوم بتزوير صورة الفلسطيني وتزوير وقائع الصراع العربي ـ الاسرائيلي. وبداهة، فان الفلسطيني في جدل الضحية الوهمية والجلاد الحقيقي، هو "اللا سامي" الذي لا يكون الصهيوني موجودا من دونه، والذي هو ايضا، أي "اللا سامي الفلسطيني"، الموضع الذي يصب فوقه اليهودي عدوانه الحقيقي، بسبب العدوان الوهمي، الذي وقع عليه.

ان منطق الاختراع، الذي يخلق يهوديا ـ ضحية يطارد فلسطينيا ـ جلادا، هو ما يؤسس لحرب صهيونية مفتوحة ضد العرب. فلو كان للامور مرجعها الواقعي الموضوعي، لاسعف هذا الطرفين على الوصول الى صيغة نسبية، قوامها المساومة. بيد ان منطق الاختراع يجعل من الصيغة منالا بعيدا، بسبب اختلاف المعايير بين الطرفين المتناقضين. فبينما يحيل العربي على الوقائع، يستدعي الصهيوني وقائعه المخترعة، مبرهنا ان العرب "يخترعون" ولا يمتثلون الى الحقيقة. وفي هذا التصور يتلاشى تاريخ الارهاب الصهيوني، ويتحول العرب الفلسطينيون الى "نازيين" يمارسون بحق اليهود "المجازر الوحشية"، بقدر ما يتم الصمت عن سياسة "الحصرية اليهودية" وسياسات الابادة والترحيل "الترانسفير"، التي لا تغادر التاريخ الصهيوني ابدا. يقول البروفيسور الاسرائيلي اسرائيل شاحاك: "على الرغم من ان النضال ضد معاداة السامة (واشكال العنصرية الاخرى كافة) ينبغي الا يتوقف ابدا، فان النضال ضد الشوفينية والحصرية اليهودية ـ الذي يجب ان يشمل نقدا لليهودية الكلاسيكية ـ هو نضال يساويه في الاهمية، او يفوقه اهمية.(8) يطالب شاحات بمناهضة اللاسامية واشكال العنصرية الاخرى، لكنه يطالب اولا بمناهضة الحصرية اليهودية، من حيث هي تمثيل للعنصرية بامتياز، وبمواجهة اليهودية الكلاسيكية. ذلك انه ادرك العنصرية العميقة في هذا الشكل من اليهودية، الذي افضى الى اقامة مقارنات بينه وبين الفكر النازي، والى سحب المقدمات الفكرية التي مهدت للكيان الاسرائيلي العنصري. فلقد تحالفت هذه المقدمات، التي انتسبت الى "العلمانية"، مع الغيبيات اللاهوتية، كي تنتهي الى كيان عدواني ملتبس الدلالة، يخلط بين "الوطن القومي"، وهو تعبير دنيوي، و"الحق الالهي" وهو تعبير ديني. كما لو كان هذا الكيان "دنيويا" حين يشاء، و"الهيا" حين يشاء ايضا، بما يفرض "الارادة الالهية" ضامنا لحروبه وسلامه وعدوانه ونزوعاته التوسعية ايضا. ولا تزال الحركة الصهيونية، منذ ميلادها حتى اليوم، وباشكال مختلفة ولا متكافئة، تعيش على هذه الصيغة العدوانية البراغماتية، التي تأتلف فيها "اسطرة الدولة" و "علمنة الاسطورة" و"مملكة الله" و"دولة اسرائيل " في آن.

يدفع هوس العنف والاضطهاد الى اختراع الانا اليهودية والاخر المناقض لها، وصولا الى اختراع التاريخ كله، كما لو كان التاريخ صراعا بين اليهود وغيرهم. ولذلك يتم اختزال الحرب العالمية الثانية، التي اشقت شعوبا كثيرة، الى "الهولوكوست"، او "المحرقة" أي اضطهاد النازيين لليهود. وبعد ان تقوم الصهيونية باستثمار فج متتابع لها، يزوّر فيه عدد الضحايا وثمن املاك اليهود المدمرة الواجب تعويضها، تصبح "المحرقة" نظيرا لمحاكم "التفتيش" الاسبانية، التي اضطهدت العرب المسلمين واليهود، دون ان يعطي ذلك، بداهة، العرب حق صفة "الضحية"، التي هي اختصاص يهودي، لا يختلف عن "الاختصاص الرباني"، الذي تحدث عنه المؤرخ الفلسطيني محمد عزة دروزة في "العدوان الاسرائيلي القديم والعدوان الصهيوني الحديث". وانطلاقا من هذا التصور، القائم على ديمومة الضحية والجلاد، تغدو التجربة اليهودية الجماعية تجربة "كونية"، لا يحددها زمان ولا مكان، هي تجربة "الضحية اليهودية الكونية". والخطر لا يقوم في التصور، بل في ما يؤدي اليه، لان كونية التجربة القائمة على الضحية المتأبدة، ينتج ذاكرة يهودية جماعية، ولو بقدر، تتطلع الى الانتقام من ازمة مضت، والى السيطرة على الازمنة الجديدة، بشكل ينقل اليهودي من وضع "الضحية الكونية" الى وضع "الجلاد الكوني".

ينطوي تصور "الضحية الكونية" على عنصرين مختلفين، يقول الاول: تختلف "الضحية الكونية" عن الضحية العادية، ماهية ورسالة ومرتبة، والا لما وقع عليها الاضطهاد، مما يؤكد اختلاف اليهود عن غيرهم، ويعينهم من جديد "شعب الله المختار". وتقول النتيجة الثانية: ان كان التاريخ الانساني يتحدد "كضحية كونية" في مواجهة جلاد كوني، فان هذا التاريخ يبرهن عن وجود بريء وحيد هو اليهودي في مواجهة "مجرم كوني". وهكذا يحتكر اليهود البراءة في مقابل اثم تحتكره البقية الانسانية. تتكشف مرة اخرى مقولة التميز الكوني، حيث على "الضحية" ان تعلم الانسانية قاطبة معنى البراءة، أي ان تعاقب البشرية على آثامها القديمة والمستجدة.

 

ثالثا ـ صورة الفلسطيني في الممارسة العنصرية

يقول هرتزل في مذكراته: "سنحاول ان نخرج السكان المعدمين عبر الحدود بان نجد لهم عملا في البلاد التي نطردهم اليها ونكر عليهم أي عمل في بلادنا".(9) تقع الصهيونية دائما في تناقضاتها، فهي تطرد السكان لانها لا تعترف بوجودهم، لكنها لا تلبث ان تصطدم بهذا الوجود، فتبحث لهم عن عمل، يكون مساويا لمبدأ عدم الاعتراف. ولهذا يقول هرتزل: "اذا انتقلا الى منطقة حيث توجد حيوانات مفترسة لم يتعود عليها اليهود، كالافاعي الكبيرة مثلا، فساحاول ان استعمل السكان البدائيين للقضاء على هذه الحيوانات قبل ان اجد لهم عملا في البلاد التي يعبرون اليها". يتم الاعتراف بالفلسطيني في شرط واحد هو: تدميره، فلا يمكن القبول به كانسان سوي في عمل سوي وفي شرط سوية، ويجب بالتالي تدميره لانه لا يستحق الاعتراف به، او يجب الاعتراف به كمقدمة لالغائه. وتبرز هنا وظيفة كلمة "البدائي، فالبدائي موجود، لكن شكل وجوده، أي بدائيته، تبرر عدم الاعتراف به، واستعماله من اجل اغراض واهداف من يفوقه في المرتبة الانسانية. تعطي الصهيونية صفة البدائية للفلسطيني كي يستعمل في اتقاء الحيوانات المفترسة، مستعيدة هنا كل مواصفات الايديولوجيا العرقية والعنصرية، فكأنها تقول: البقاء للاصلح، والفلسطيني بدائي واليهودي متحضر، وباسم الحضارة يستعمل الفلسطيني لمحاربة الافاعي السامة، وبعد استعماله يتم طرده خارج الحدود. ان قاعدة هرتزل بسيطة وكاملة العنصرية فهي تطبق المبدأ الشهير: خلق صورة الاشياء بشكل يبرر تهديمها، والفلسطيني بدائي يحمل هدمه فيه، وهو في ذلك لا يبتعد عن موقف الاستعماري الاخر بلفور الذي كان يقول: "في فلسطين نحن لا نفكر البتة ان نعمد الى أي شكل من استشارة السكان الحاليين ومعرفة رغباتهم".

يصدر عدم الاعتراف عند هرتزل عن "الفروق بين الاجناس البشرية"، عن صراع البدائي والمتحضر، واتلاف الفكر البدائي هو خدمة للحضارة. وهكذا تجد الصهيونية ذرائع عديدة للقتل، فهي تقتل مرة باسم الرب، ومرة باس الدفاع الذاتي، ومرة باسم الحضارة. القتل من وجهة نظر منطقية يعني وجود قتيل وقع عليه فعل مخالف للمعايير الانسانية، اما حين يكون القتيل لا وجود له فان الفعل لا يأخذ صفة القتل الذي يجب ادانته. فيصبح فعلا تقنيا عاديا تأمر به لوازم الحياة العادية. وهذا ما يفسر قول غولدا مائير: "لا شيء هناك اسمه الفلسطينيون، لا وجود لهؤلاء".(10) ان عدم الاعتراف، أي حذف الصفات الانسانية اولا، يلغي اتوماتيكيا مفاهيم القتل والادانة والعقاب، ان لم يفعل من هذا الفعل الاولي "عملا" انسانيا. فحتى تبرر الصهيونية الغاء الفلسطيني، وتحتفظ باصابعها نظيفة، فانها تطرد الفلسطيني من عالم الانسان وعدها يصبح القتل مجرد مكافحة نظيفة لحشرات غريبة. وهذا يظهر واضحا في جملة بيغن الشهيرة: "الفلسطينيون مجرد صراصير ينبغي سحقها".

لا تبتعد الصهيونية في ممارساتها عن أي فكر عدواني، فهي تجعل تنظيف المدن الفلسطينية من الانسان الفلسطيني، لا يختلف عن تنظيف الامكنة الوعرة من الهوام والحشرات السامة. وعلى هذا فان الصراع لا يدور بين خصمين او قوتين تنتميان الى عالم واحد، بل بين عالمين مختلفين او بين تاريخين مختلفين، يقول بيغن: ينبغي ان ندرك انه لا مكان في هذه البلاد لشعبين، ان الحل الوحيد هو فلسطين بلا عرب وليس هناك سبيل غير طرد العرب الى البلدان المجاورة. طردهم جميعا بلا استثناء. وينبغي الا تبقى هنا اية قرية ولا اية عشيرة.(11) تعكس المفاهيم الصهيونية ذاتها حتى على مستوى الكلمات والمفاهيم، فبعد ان يقول بيغن بـ "شعبين" لا يلبث ان يستدرك فيقول بـ "القرية" و "العشيرة" وهما ينتميان الى تاريخ اجتماعي ساذج ومتخلف. اضف الى ذلك انه يستعمل كلمة طرد التي تتضمن معنيين: عدم امكانية العيش مع فرد او قرية فلسطينية من ناحية، ومعاقبة المطرود من ناحية ثانية، فهو غير مرغوب فيه وجدير بالعقاب والاضطهاد.

ان جملة: "لا مكان في هذه البلاد لشعبين" تشير الى حقيقة المشروع الصهيوني، الذي يقول بمجابهة مستمرة ينتصر فيها احد الطرفين. ويتضمن هذا النفي الاخذ بالاجراءات المتاحة بدءا بالترويع النفسي وانتهاء بالقتل المتعمد. كتب يوسف وايتز في يومياته بتاريخ 19/12/1940 ما يلي: (لا يوجد مكان "لشعبين" في هذا البلد، ولا يوجد سبيل بغير نقل العرب من هنا الى البلدان المجاورة). (12) ان نقل الشعب يعني عدم الاعتراف بوطنه، ذلك ان كلمة "نقل"، التي تبدو في الجملة محايدة، هي المرادف الحقيقي لكلمة القهر او الرعب او الاجبار. اضف الى ذلك ان استعمال كلمة "البلدان المجاورة" تتضمن بدورها المواصفات الاولى، اذ ان اجبار الفلسطيني على ترك ارضه تعني في ذات الوقت اجبار الدول المجاورة على القبول به. وبذلك ينقسم العالم الى عالمين: عالم الانسان الواعي والمخطط والذي يعرف ما يريد، وهو في هذه الحال اليهودي، وعالم الاشياء الجامدة التي تجبر على الرحيل، وتبر على استقبال المرحلين، والعالم الثاني هو عالم العرب. ان الكلمات المحايدة التي تستعملها الايديولوجيا الصهيونية لا تصبح حقيقة، والصهيونية تعرف ذلك، الا اذا لجأت الى سلسلة من الوسائل العنيفة، واولها العنف والحرب والتدمير.

يبدأ الفكر الصهيوني بانكار الفلسطيني حاضرا وماضيا ومستقبلا. ينكر فيه تارة الارض، وتارة الانسان، وتارة ثالثة التاريخ. ولهذا يقول وزير التربية الصهيونية "هارون يدلين" في تصريح له عام 1984: "من المهم ان يعرف الشباب انه عندما رجعنا الى هذا البلد لم نجد هنا اية امة". وكتب "جوزيف مائير" مدير ادارة الاستيطان في الوكالة اليهودية، في حزيران 1967، "واضح بيننا ان لا مكان لشعبين في هذه البلاد، فالحل الوحيد هو وجود اسرائيل اليهودية التي تضم اسرائيل الغربية "غربي نهر الاردن" على الاقل بدون العرب، ولا مناص من نقل العرب الى مكان آخر في بلدان مجاورة".(13) ان كلمة النقل والبلدان المجاورة لا تعني الا اشعال الحرب على الفلسطينيين والعرب، واجبارهم على قبول القانون الصهيوني، الذي ينقل قوة الصهيوني من حالة الصمت الى حالة الحركة المتنقلة. لا يعني العدوان في الايديولوجيا الصهيونية رد فعل ضد عدوان خارجي، كما انه ليس فعلا غريزيا، انه قبل كل شيء نتيجة لتربية مخططة واضحة الاهداف.

ان العدوان، في الحالة الصهيونية، هو تجسيد لتربية واعية تشمل الطفل في المدرسة والمتدين في الكنيس والجندي في الجيش، والصهيونية هنا لا تشذ عن القواعد الكلاسيكية للتيارات الفاشية والعنصرية، التي ترى في المدرسة والكتاب قاعدة اولى لنقل الفكر العدواني من حالات فردية او فئوية الى ظاهرة اجتماعية. يقول جابوتنسكي: "لقد افسدت ابناءكم وعلمتهم كيف يحطمون النظام (او احيانا زجاج النوافذ)، وحاولت ان اعلمهم ان التربية الصحيحة ليس تعلم كيف تقرأ، بل تعلم كيف تطلق الرصاص. ولقد فعلت ذلك دائما ولا شبهة لدي في انني لم الحق أي ضرر بهم. لذلك اتوسل ان لا يمنعني القدر من القوة والشرف في ان اتابع نفس الاهداف لنهاية حياتي ككاتب وكمرشد".(14) تأخذ الدعوة الى الارهاب شكل الضرورة التي لا بديل عنها، فالارهاب بديهية لا تحتاج الى برهان، وذلك لسبب بسيط، تؤكده التربية ايضا، هو ان "العودة الى فلسطين" بديهة لا تحتاج الى برهان ايضا. يقول بيغن: "تعلمت منذ حداثة سني عن ابي اننا نحن اليهود لا بد ان "نعود لارض اسرائيل". ولا يجوز مطلقا القول: ان نذهب او نسافر او نأتي، بل بكل حزم ان نعود. وذلك هو الفارق الكبير، وهو فارق شامل كل الشمول".(15)

لا تصدر التربية هنا عن مرشد يدعو الى تعميم قانون القتل البديهي، بل عن الاب الذي غاص في مياه التعصب الصهيوني، حتى لم ير الا ما تضعه الصهيونية في رأسه. التعليم اذن هو تثبيت المسلمات الغيبية التي تلغي العقل، وتجعل من تكرار الغيبيات قاعدة العقل الاولى. ولهذا فان العقل المغلق على ذاته لا يقبل او "الذهاب" بـ "السفر"، اذ ان هذا يعني الانتقال الى مكان جديد، اما العودة فهي الذهاب الى مكان مألوف او موجود باستمرار في العقل، فـ "الروح" التي تخلقها الصهيونية تعتقد انها لم تفارق "ارض الميعاد" ابدا.

لا تكترث التربية الفاشية بالحقائق التاريخية، فدورها هو اعادة كتابة التاريخ كما تريده الارادة الغاشمة. يقول موشيه منوحن: "علمونا في الجمنازيون ان نكره العرب، وان نحتقرهم. وعلمونا فوق هذا كله ان نطردهم، على اعتبار ان فلسطين هي بلادنا لا بلادهم، وان بوسعنا الاطلاع على التوراة بهذا الصدد".(16) ان هوس العنف الذي يغذي الفكر الصهيوني هو الذي يجعله يقدس تعاليم الفكر اليهودي الاكثر اظلامية ويمجد كل ما جاء فيها مقدسا لرفع السيف. يقدس الفكر الصهيوني الموروث حين يكون مرآة كاملة للتربية التي تبحث الصهيونية عنها، فالركون اليه يسوغ ظلمها المعاصر بحقد قديم، أي انها تتوسل التدمير بنصوص قديمة لها صفة القداسة. وحين يلتقي الفكر الصهيوني بالفكر التوراتي، ويجد فيه النصير والملاذ، يصبح النص التوراتي قاعدة تربوية، ومحرضا ثمينا على انجاز كل المجازر الماضي والقادمة. جاء في سفر يشوع: "فهتف الشعب، وضربوا بالابواق، وكان حين سمع الشعب صوت البوق ان هتف هتافا عظيما، فسقط السور في مكانه. وصعد الشعب الى المدينة. . . وحزوا كل ما في المدينة، من رجل وامرأة، ومن طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف. "سفر يشوع 2/20". وجاء ايضا: "واخذها يشوع مقيدة في ذلك اليوم، وضربها بحد السيف، وحرم ملكها، هو وكل نفس بها. ولم يبق شارد. وفعل بملك مقيدة كما فعل بملك اريحا، ثم اجتاز يشوع من مقيدة وكل اسرائيل معه الى لبنة، فضربها بحد السيف، وكل نفسه بها، ولم يبق شاردا. وفعل بملكها كما فعل بملك اريحا. "سفر يشوع 10/28".(17) هذا النص النموذجي الذي يمجد العنف وحد السيف لا يقبع صامتا في صفحات كتاب اظلامي قديم، بل هو المادة الاولى لتربية الشباب في المدارس الاسرائيلية.

 

رابعا ـ العنصرية الصهيونية والنقيض النظري

تنطوي الممارسة الصهيونية على مركبات ايديولوجية مختلفة، عناصرها النص الاسطوري والفكر الكولونيالي ـ الاستيطاني ومشتقات المركزية الاوروبية الكلاسيكية الحديثة، اضافة، كما اشرنا، الى عبادة القوى و"اسطرة" جيش الدفاع الاسرائيلي. لكنها لم تتحقق تاريخيا، ولو بشكل قلق مجزوء، الا بوسائل مادية، تركن الى المعرفة الحديثة والتسلح المطلق ودينامية اجتماعية فاعلة، والاخذ بشكل من "الديمقراطية الغربية"، التي تتيح التعددية، من وجهة نظر وحدة وتماسك المشروع الصهيوني. بسب هذا، فان الرد على العنصرية الصهيونية، لا يستوي الا بربط هذه العناصر جميعا، بعيدا عن الاختزال والرؤى الجزئية.

ان ارجاع المشروع الصهيوني الى ايديولوجيا دينية، كما الرد عليه بايديولوجيا دينية اخرى، لا يفضي الى شيء، لانه يحول الصهيونية الى ظاهرة لا تاريخية، يعارضها وعي لا تاريخي، قاصر بالضرورة. وما كتبه محمد عزة دروزة عن عدوان اسرائيلي جديد يعيد انتاج عدوان يهودي قديم، لا يحمل الكثير من المعنى، ذلك انه يفصل بين الظاهرة الصهيونية وصعود المشاريع الاستعمارية في القرنين الثامن والتاسع عشر، مثلما يعتقد ان تحرير اليهود من عدوانيتهم لا يتحقق الا بقراءة صحيحة لرسالة النبي موسى عليه السلام. فالظاهرة الصهيونية، فكرة وممارسة وأفقا، ترتبط بشكل وثيق بـ "النهضة الاوروبية" والسيطرة الاستعمارية على العالم. واذا كان التصور الديني لـ”اسرائيل” يخطىء اهدافه، في اكثر من اتجاه، فان التصور العرقي لن يقدم حلا افضل، ولن يكون الا صورة مقلوبة وبائسة للتصور الصهيوني ذاته، وهو ما حاوله "بعض" الفكر الفلسطيني، وهو يؤكد على "الانسان الاعلى" الذي يبرهن عن قوته في مجالات الاعلام والمال والعلاقات السرية، كما لو كان اليهودي، كما نقيضه المفترض، كائنا يتحرك خارج التاريخ لا داخله. وقد تجلى الوهم الفلسطيني، احيانا، في الاعتقاد بامكانية اضافة "العبقرية الفلسطينية" الى "العبقرية الصهيونية" كما هجس احد القادة الفلسطينيين ذات مرة. واعتقاد كهذا يضخم دور الافراد والعلاقات بين الافراد، ويغفل عن كون الصهيونية بنية متكاملة، تتجاوز الافراد وعلاقاتهم، بل انها بنية لا تقرأ او لا تتضح ، دون ربطها بالبنية الامبريالية العالمية. لذلك، فان وهم "تحالف العبقريتين" لن يؤدي، فعليا، الا الى اخضاع الطرف الضعيف للطرف القوي، وارباك واضعاف الهوية العربية الفلسطينية، التي تعثر على افقها الموائم، حيث تكون هوية وطنية وقومية وتحررية، أي معادية لجملة القيم النظرية والعملية، التي تقول بها الصهيونية.

وقد تثير الايديولوجيا الصهيونية، التي تحرض على العدوان والممارسات المتغطرسة موضوع "الحق" الذي تقول به بعض الاجتهادات الاخلاقية، التي ترى في ان الخير يهزم، لزوما الشر. وهذا الموقف المجرد، الذي يرتاح الى مقايسات شكلانية، لا يختلف كثيرا عن الموقفين السابقين. فما "نصر" الحق المشروع الصهيوني، ولا الافكار التي تبشر به، بل جملة سياسات مسلحة، تختلط فيها المصالح الصهيونية بمصالح غير صهيونية، وذلك في سياق تاريخي، يساوي بين الصهيونية والدعوة الى "المدنية" وبين الفلسطينيين و"الهنود الحمر".

ان البنية الصهيونية، كما في السياق التاريخي الذي ولدت وتطورت فيه، تطرح على التصور العربي للمستقبل جملة اشكالات معقدة. وقد يومىء هذا التصور الى العلم والى ضرورة مواكبة الاكتشاف العلمي، او الى التسلح وضرورة موازنة بالقوة، الا ان السياقين، المحلي  والعالمي، يفرضان البحث عن اجابات مغايرة، وفي اتجاه مغاير. فلا يمكن، بداهة، الرد على الصهيونية باجابات مشتقة منها، ذلك ان الوقوف على الارضية الايديولوجية للخصم يفضي، منطقيا، الى الهزيمة. وهو ما يفرض بلورة موقف مختلف تخومه الاخلاق والقيم والمعايير الانسانية، لا بمعنى اذابة المشاكل الحقيقية في اثير الاخلاق والحلول الاخلاقية العاجزة، بل بمعنى تقديم بديل قيمي عربي جديد، أي اعادة بناء المجتمع العربي على قيم جديدة، تؤمن وحدته وتماسكه وقدرته على وعي ذاته ووعي العالم كله. وبهذا المعنى، فان الحديث عن نموذج قيمي ثقافي عربي جديد، قوامه الحرية والديمقراطية والذات المستقلة والاخذ بمعطيات العصر الايجابية، لا يحيل على التبشير الاخلاقي، بل على رؤية سياسية جديدة، تعيد بناء "العرب" مجتمعات وافرادا وعلاقات اجتماعية.

فاذا كانت الصهيونية عنصرية، وهي كذلك، فان الرد عليها لا يكون بعنصرية اخرى، ذلك انها لم تنتصر بالعنصرية في ذاتها، انما في تخليق مجتمع توحده العنصرية، وتمده "الادارة السياسية" بالعناصر والوسائل المادية الكفيلة بانتاج "عنصرية مسلحة". فالعنصرية، وهي ايديولوجيا عرقية عدوانية، تشكل مستوى من مستويات المشروع الصهيوني، التي تحتضن السياسي والاداري والتعليمي والاعلامي والمخابراتي وعلى هذا، فان الصهيونية تطرح موضوع العنصرية، وتقدم معه، وفي اللحظة ذاتها، موضع الفاعلية. فالعنصرية، في ذاتها لا تمشي طويلا، لا اذا وضعت في اطار اكثر تعقيدا، أي وضعت في بنية متكاملة، تتضمن الفكر وتسليح الفكر، وانتاج الشروط الاجتماعية، التي تعيد انتاج الفكر والسلاح معا.

 

الهوامش:

1 ـ افرايم ومناحيم تلمي: معجم المصطلحات الصهيونية، عمان، دار الجيل، 1988، ص 380.

2 ـ محمد عزة دروزة: العدوان الاسرائيلي القديم والعدوان الصهيوني الحديث، دار الكلمة، بيروت، 1980، ص 64.

3 ـ عزمي بشارة: مائة عام من الصهيونية، الكرمل العدد 3، 1997، ص 12.

4 ـ روجيه غارودي: الاساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية، القاهرة، دار الغد العربي، 1996، ص 210.

5 ـ عبدالرحمن غنيم، المرتكزات النفسية للفكرة الصهيونية، دمشق دار الجليل، 1985، ص 12 (الطبعة الثانية).

6 ـ غارودي، مرجع سابق، ص 210.

7 ـ المرجع السابق، ص 357.

8 ـ اسرائيل شاحاك: الديانة اليهودية وتاريخ اليهود، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1997 ص 179.

9 ـ فلسطين الثورة، عدد 203: 29-7-1986.

10 ـ جريدة تشرين السورية 12/8/1982.

11 ـ المرجع السابق.

12 ـ فلسطين الثورة ، عدد 203.

13 ـ المرجع السابق.

14 ـ مجلة النقد الجديد، باريس، 1973، العدد العاشر.

15 ـ المرجع السابق.

16 ـ فلسطين الثورة، عدد 203 ـ 1986.

17 ـ محمد عزة دروزة: العدوان الاسرائيلي”… مرجع سابق، ص 102.