فؤاد ابوزريق
باحث سوري في الشؤون “الاسرائيلية”
مقدمة
عملت الصهيونية، ومنذ ما قبل انشاء دولة “اسرائيل” في العام 1948، على اختراق الجمعيات ووسائل الاعلام الغربية لاجل بث الروح المؤيدة لـ “اسرائيل” في اوساط النخبة الاوروبية والاميركية.
واذ يعجب الكثيرون الان من حقيقة الميل الغربي لـ “اسرائيل”، فان دراسة الخلفية التاريخية لهذا الميل، تغدو مهمة وضروريا، في الغرب اولا، وفي بقية انحاء العالم ثانيا.
في هذا الموضوع عودة الى مداخل الغزو اليهودي والصهيوني للاوساط الادبية الغربية، وحيث سيلاحظ القارئ عمق هذا الغزو الممتد الى قرنين واكثر، وهو الامر الذي استطاع في العقل الصهيوني خلق ثقافة متعاطفة مع اليهود، وبالتالي مع “اسرائيل” يبرر لها افعالها واعمالها وجرائمها..
لقد تنبهت الحركة الصهيونية الى ان الادب، باب التغيير الثقافي والاجتماعي.. فغزته وغيرت العقول وباتت اوروبا واميركا ضحية ذلك.
* * *
لعبت الصهيونية دورا بارزا في انشاء نوى تنظيمية (جماعات) تعمل على الانخراط في الاوساط الغربية سواء اكانت هذه الاوساط ادبية ام غير ادبية فوظفت لذلك بعض الكتاب اليهود، وطبعت منشورات ومجلات وصحفا مثل (مينوراه) ومجلة (البارتيزان ريفيو) التابعة لنادي جون ريد (Gohn Reed) في نيويورك ومن ثم مجلة (التعليق) اضافة الى (السجل اليهودي المعاصر) وغيرها.
لقد استطاع اليهود الامريكيون التغلغل في الادب والثقافة الامريكيين بفضل هذه المجلات والصحف، فقد لعبت مجلة (مينوراه) (The Menorah Journal) دورا هاما في عملية (امركة الادب اليهودي) بايعاز صهيوني للتخلص من النظرة الدونية التي صورت اليهودي بما هو عليه من مقت وشذوذ، وكان الداعية اليها (اليوت كوهين) واستطاعت جماعة (المينوراه) ان توهم المجتمع الامريكي بان الكاتب اليهودي يمكن ان تكون له اتجاهات ادبية في سياق امريكي منسجم، وان يصهر يهوديته وادبه في الثقافة الامريكية.
وبعد اختفاء مجلة (مينوراه) ظهرت مجلة اخرى هي (البارتيزان ريفيو) عام 1934 امتدادا لنادي جون ريد في نيويورك، تولى ادارتها كل من وليم فيلبس (William Phillips) و فيليب راهف (Philip Rahav) وهما يهوديان.
عملت مجلة (البارتيزان ريفيو) على التجديد في القوالب الادبية على نحو ما فعل ت.س اليوت وعزرا باوند في الشعر وجميس جويس وفرانس كافكا و فيودور دستيوفسكي في الرواية: "وبذلك توارت الهوية اليهودية على الرغم من ان عددا كبيرا من كتاب (الباتيزان ريفيو) كانوا من اليهود، غير ان بعضهم سار على درب مجلة (مينوراه) نفسه، وهو الدرب المؤدي الى تمثل الحياة الامريكية والانخراط فيها، الا ان العنصر اليهودي ما لبث ان عاد الى الظهور بوضوح في مجال الحقل الادبي عند انشاء مجلة يهودية ثالثة هي (التعليق)". التي احدثت تغييرا كبيرا في الادب الامريكي في تلك الفترة. وقد وضعت رواية "بلوغ امريكا سن الرشد" (America's Coming of Age) التي الفها بروكس (Prooks) حدا للمدرسة الادبية الكلاسيكية المحافظة في امريكا التي تزعمها ارفنج بابيت (Irving Babbitt) وبول الميرمور ( Paul Elmer Moore) ثم جاءت جماعة الشكليين وانصار النقد الجديد (New Criticism) والنقد الاجتماعي للادب بزعامة ادموند ويلسون.
اشترك عدد من الكتاب اليهود مثل ميوريل روكسر (Murile Ruleyser) والفريد كازين وليونيل تريلنغ والبرت هالبر وهوارد فاست (Howard fast) واسحق روزنفيلد (Isaac Rosanfeld) في مناظرة نشرت في (السجل اليهودي المعاصر) وكانت ايذانا بمقدم عهد زالت فيه الحواجز التي تعترض سبيل انخراط اليهود في الحياة الفكرية والادبية الغربية، وبعد انشاء مجلة (التعليق) التي اتسعت لرؤى اجتماعية وسياسية وثقافية ارحب بهدف تعميق اشتراك اليهود في الحياة الثقافية والفكرية الغربية، عمل محرر (مينوراه) السابق اليوت كوهين رئيسا لتحرير مجلة التعليق حديثة الصدور، ثم خلفه نورمان بودهوريتز (Norman Podharetz)، انضمت مجلة (التعليق) الى (البارتيزان ريفو) بنشر مناظرة اخرى بعنوان (حالة الكتابة الامريكية) شارك فيها ثلاثة كتاب يهود وستة كتاب من غير اليهود، ولم يعن أي منهم بالحديث عن الكتابة اليهودية الحديثة في امريكا بكونها مستقلة عن الثقافة الامريكية، باستثناء الناقد ليسلي فيدلر الذي تطرق في كتاباته الى يهودية الروائي فرانس كافكا، ثم عرض لرواية (يوليسيس) التي الفها جميس جويس فقال: ان الفنان واليهودي في هذه الرواية، يسعى كل منهما الى الوصول الى الاخر، ولكن سعيهما يبوء بالفشل ويبتعد الواحد منهما تماما عن الاخر.
لقد كان فيدلر يعي بدقة المشاكل التي حوتها الكتابات اليهودية في الغرب مما حفزه الى ان يكتب مقالا في مجلة (تعليق) يطرح فيه السؤال التالي: "ماذا نفعل ازاء (فاجين) صورة اليهودي الشرير في الادب الغربي؟ و(فادجين) اليهودي كما نعلم، هو رئيس العصابة في رواية تشارلز ديكنز الشهيرة (اوليفر تويست) يقول فيدلر: ان هناك في الادب الانكليزي تراثا عن صورة اليهودي الشرير انتقل من (تشوسر) و(شكسبير) و(اليوت) و(عزرا باوند) الى الروائيين المحدثين غراهام غرين و د. هـ لورانس. وان المثقف اليهودي لا يستطيع ان ينبذ هذا التقليد الادبي، او يشيح بوجهه عنه، لذلك فانه يقترح الحل الاتي لهذه المشكلة ـ مشكلة (الاسطورة) السائدة في الادب الانكليزي حسب فيدلر. ووجد فيدلر ان الحل لهذه المشكلة يقتضي من الكاتب اليهودي اقتراح بديل مضاد فاذا كان الادب الانكليزي يذهب الى ان اليهودي شرير فانه على اليهودي ان يستبدل ذلك ببدائل تصور اليهودي كفنان".
وذكرت مجلة (تعليق) في ابريل عام 1961 ان "يهود امريكا قادمون، ويكاد التمييز العنصري ضدهم يختفي، كما ان العداء للسامية اصبح شيئا مقيتا يثير الاحتقار العظيم".
وهذا ما ارادته الصهيونية تماما من ايعازها لاذرعها بالتغلغل في الفكر والثقافة والآداب الغربية وعندما تم توجيه السؤال الى الروائي المعروف (جون ابدايك) (John Updike) فيما اذا كانت هناك مافيا يهودية تسيطر على دور النشر الامريكية فجاءت اجابته الصريحة كالتالي: "انني لست من انصار استخدام مصطلح (مافيا)، ولكن احقاقا للحق اقول ان اليهود تمكنوا من التغلغل في جميع مناحي عملية النشر: من المبيعات الى زيادتها الى تحرير المؤلفات وعرض الكتب، والرأي عندي ان النقاد اليهود ـ وما اكثرهم ـ يميلون الى استقبال اقرانهم من الكتاب اليهود بتحمس" ولكنه استثنى من التحمس الاعمى لكتاب اليهود كلا من فيدلر وتريلنج، واضاف ابدايك "ان الكتاب اليهود يتميزون بميزة يفتقر اليها الامريكان وهي انهم يتمتعون باليسر والسهولة في وصف الحضر الامريكي".
وذهب الامر ببعض كتاب الغرب الى ان يتمنى الواحد منهم ان يكون يهوديا وذلك نتيجة لتفاعل حاصل بين ما ارادته الصهيونية وما توصلت اليه في هذا الجانب من تصوير اليهودي، او اعادة رسم صورة تصاعدت بيانيا حتى وصلت ببعض كتاب الغرب للتمني بان يصبح يهوديا، فالكاتبة اليزابيت هاردويك. تقول: "حتى عندما كنت طالبة في بلدي كنتاكي تملكتني الرغبة في نشدان ان اصبح مثقفة يهودية في مدينة نيويورك، اقول (يهودية) لان اليهود ورثة تقليد من الشك العقلاني ويتملكهم احساس معين بانهم مقتلعون من جذورهم وهو احساس يروق لي الى جانب انفتاحهم على الثقافة الاوروبية، كما انهم يتسمون بتلك الراديكالية النابعة من الشك الى سلامة الاوضاع والترتيبات الاجتماعية القائمة.
الا انه وان استطاعت الصهيونية الادبية التأثير في العقل الغربي نتيجة الخداع والتضليل اللذين ما فتئت تقوم بهما، الا ان هذه الصيغة الاحتيالية لا تنطلي على ذلك كل الناس، كل الوقت، كما نرى في ادب الكاتب جولد كوزنس في روايته "الحب المسيطر" وتذكرنا بشايلوك ذلك اليهودي المقيت الذي صورة شكسبير في "تاجر البندقية" وروايته "حرس الشرق" وكذلك "العدل والظلم" وفي ادب الكاتبة كاترين آن بورتر في روايتها "سفينة المغفلين" وكذلك (نقد عائلة كلاينز) ومما يؤكد احتقار كاترين آن بورتر لليهود انها كتبت عام 1962 في نسخة من كتاب "صورة اليهودي" حصلت عليه، وهو من تأليف البرت ميمي "كل انسان فيما عدا اليهود يعلم ان اليهود ليسوا شعب الله المختار ولكنهم جماعة من السخفاء والمحتالين والادعياء وصناع الضجيج".
حتى ان بعض الروائيين اليهود ومن بينهم ادوارد لويس والانت في روايته (الرجل الذي يتعامل في الرهونات) يبرز ان اليهود لا يثقون باحد، لان البشر لا يستحقون الحياة، على حين ان كل ما يثقون به هو المال، والمال فقط، وتحكي الرواية عن يهودي يدير محلا في هارلم ينفق منه على افراد اسرته، ويستعين هذا اليهود بشاب اسمه يسوع اورتيز في ادارة محله المخصص للرهونات، ويلاحظ الشاب ان صاحب العمل من النوع الذي يشك في جميع البشر، فيسأل عن رأيه فيهم ويجيبه اليهودي بقوله: "لست اثق في الله او السياسة او الصحف او الموسيقى او الفن كما اني لا اثق بالابتسامات والملابس والمباني والمناظر الطبيعية والروائح.. ولكني فوق كل شيء لا اثق بالناس وكلام الناس، لانهم صنعوا جحيما بكلماتهم، لانهم اثبتوا بما هم عليه انهم لا يستحقون الحياة.." وسأله مساعده (اورتيز) "الا يوجد شيء تثق به؟ فيجيب: "المال، واني بعد سرعة الضوء التي يخبرنا اينشتاين انها الحقيقة الوحيدة في الكون اضع المال فقط في المرتبة التالية لسرعة الضوء".
وبذلك نرى ان الصهيونية العالمية استطاعت التغلغل في الاوساط الادبية الغربية بشكل مؤدلج وتحويل صورة اليهودي من صورة قاتمة في مخيلة الغرب الى صورة مشعة عن طريق الزيف والخداع والعزف على موسيقى الاضطهاد اذ ازداد تغلغل اليهود في الاوساط الغربية بعدما لفقت الصهيونية للالمان تهمة (الهولوكوست) وان المانيا قامت باضطهادهم وذلك ليتسنى لها كسب ود الناس وابتزاز عواطفهم نحو اليهود، والسعي لدس السم الصهيوني في مسوغات وجدت لهذه الغاية لتغيير صورة اليهودي في الفكر الغبي وابتزازه. وابراز اليهودي مضطهدا مسحوقا يجب التعامل معه بكرم زائد وعاطفة كبيرة تعويضا له عما حدث له من (عذاب وشقاء) لعبت امم الارض دورا فيه، على حد الزعم الصهيوني، وهو ما انطلى على الفكر الغربي المتنور جزئيا، والسبب هو العداء الذي كانت تتبادله هذه الدول مع المانيا النازية اضافة الى اقامة مؤسسات راعية مترافقة مع ادب منخرط ورأسمال يهودي داعم. ومحاولة الكيد للادباء والمفكرين الذين لم تنطل عليهم هذه الاكذوبة، عن طريق المال والنساء والحصار النفسي المؤدلج، وهذا ما حصل مع (تشارلز ديكنز) لدى تأليفه روايته الشهيرة (اوليفر تويست) حيث حاولت السيدة اليهودية اليزا دافيد اغراءه بشتى الوسائل وهي امرأة جميلة جدا جندتها الصهيونية للنيل من ديكنز.
وبدأت عملية الاغراء، عندما بدأت تناقشه في طبيعة الادب العالمي وكيف يمكنه امتلاك ناصية التصوير، وما الى ذلك ثم تأتي الدعوات بعد ذلك والحفلات والزيارات والانغماس في اهواء النفس البشرية، فسلبت منه امواله بطريقة او باخرى وعرض منزله للبيع، وبالفعل تم البيع واشترى ديكنز منزلا متواضعا بعد ذلك في الريف، ليكتشف بعد ذلك ان هذه السيدة يهودية وان من اشترى البيت هو زوجها، من ثم بدأت تجابهه، وتضغط عليه باستمرار بعد ان استخدمت طرقا عديدة في اقناعه لتغيير صورة اليهودي في روايته (اوليفر تويست) فرد عليها: "ان فاجين في رواية اوليفر تويست يهودي لانه حقيقي، لسوء الحظ، في زمن القصة، ان تلك الطبقة من المجرمين كادت تقتصر على اليهود، ولكن بكل تأكيد لا يوجد رجل عاقل او امرأة عاقلة من دينكم يمكن ان يغيب عن أي منهما ان بقية شخصيات الرواية تنتمي الى الدين المسيحي فضلا عن انه (أي فاجين) يسمى باليهودي، ليس بسبب انتمائه الى الدين اليهودي بل بسبب العنصر الذي ينحدر منه.
وتقول الناقدة جوليت شتين: "ان السيدة اليهودية اليزا دافيد التي احتجت على تصوير تشارلز ديكنز لشخصية فاجين اليهودي على هذا النحو اقترحت على مؤلفنا ان يكفر عن ذنبه بالتبرع لاقامة دار استشفاء للمرضى اليهود، وبالرغم من ان ديكنز استجاب لطلبها، فقد اكتفى بالتبرع بمبلغ رمزي مؤكدا ان تبرعه لا يعني انه يريد التكفير عن زرايته باليهود ومدافعا عن نفسه بان احداث روايته (اوليفر تويست) في وقت كان امثال فاجين من الاشقياء والخارجين عن القانون ينتمون في العادة الى اصول يهودية".
وبعد ان الف الكاتب المسرحي ج.ت. هاينز مسرحيته "حياة امرأة او ابنة الكاهن" التي صور فيها الشخصية اليهودية على ما هي عليه من بشاعة، فقد طفليه في ظروف غامضة.
وتدور احداث المسرحية حول يهودي بشع ومقزز اسمه ملاخي بينليدي يتاجر في الدعارة والرقيق الابيض، وتتحدث الشخصيات اليهودية في هذه المسرحية بلغة انجليزية خاصة بها استحدثها المؤلف على نحو يصعب على المرء فهمه او استيعابه.
وكذلك الحصار المؤدلج الذي تعرضت له (جورج اليوت) التي كانت ترفض الصورة الحانية على اليهود والمبرزة لفضائلهم والمنادية بتفوقهم كشعب الله المختار كما صورها بنيامين دزرائيلي في اعماله الروائية. وقد عبرت جورج اليوت على سائر الاديان وقد ذهبت الى ان كل ما هو يهودي اقرب ما يكون الى الدونية والانحطاط وبقي هذا الحصار قائما مستمرا متصاعدا الى ان الفت اليوت روايتها "دانييل ديروندا" بعد ان توثقت عرى الصداقة بينها وبين المفكر الالماني اليهودي عمانوئيل ديوتش الذي صورته في "دانييل ديروندا" في شخصية (موردخاي).
ويتضح لنا، اضافة الى العديد من الممارسات التي قامت بها الصهيونية في هذا الصدد (معلنة حربا لاهوادة فيها على كل من لا يؤمن بها ربا ويلتزم بما تدعو اليه طوعا او كرها) انها تسعى الى حقن اليهود في الغرب بجرعات عالية من تضخيم الشعور بالذات وتمثيل اليهودي لكل القيم والمبادىء السامية.