*Moustafa Ghareeb* مصطفى غريب *المؤرخون الجدد واعادة النظر في المسلمات الصهيونية

المؤرخون الجدد واعادة النظر في المسلمات الصهيونية

 

 

د. ايمان حمدي
استاذة العلوم السياسية بالجامعة الاميركية / القاهرة


مقدمة

في النصف الثاني من الثمانينيات ظهر في الاوساط الاكاديمية الاسرائيلية نوع جديد من الكتابات التاريخية التي تتناول نشأة الدولة، قامت على دحض الرواية الرسمية لهذه النشأة وقدمت بدلا منها رؤية اكثر نقدا للحركة الصهيونية سواء بالنسبة لعلاقة الحركة باليهود المهاجرين او لعلاقتها بالشعب الفلسطيني، وفي الحالة الثانية قدمت الكتابات رؤية اكثر اقترابا من وجهة النظر العربية في سردها للاحداث  التي صاحبت قيام اسرائيل، وقد اثار وجود هذه الدراسات ردود فعل قوية بين المؤرخين الاسرائيليين ـ خاصة المخضرمين منهم ـ والمفكرين بصفة عامة بحيث لم يقتصر الجدل على الساحة العلمية فقط، بل تعداه الى الساحة الثقافية بشكل عام، واصبح يطلق على اصحابها "المؤرخون الجدد"، وفي نفس الوقت اتسعت هذه الرؤية النقدية للمجتمع الاسرائيلي لتتعدى حدود التاريخ الى المجالات الاخرى مثل: علم الاجتماع والادب.

 

يعزي المؤرخون الجدد ظهور كتاباتهم الى قيام الحكومة الاسرائيلية بالغاء الحظر على الوثائق الرسمية التي مر عليها ثلاثون عاما، مما مكنهم من الاطلاع لاول مرة على وثائق الفترة التي صاحبت قيام الدولة العبرية والتعرف على الكثير من الحقائق التي كانت خافية وراء الروايات الرسمية للدولة، وفي نفس الوقت، مع نضج وتطور المجتمع الاسرائيلي خلال العقود السابقة وتأثره بالكثير من الافكار الغربية، خاصة فيما يتعلق بالمبادىء الليبرالية، واخيرا تحوله الى الرأسمالية بما تحويه من تشجيع للنزعة الفردية ـ بدأ العديد من افراده يتخلون عن النظرة الايديولوجية للمجتمع لصالح رؤى اكثر براغماتية وواقعية، كما انه الغى احتكار الدولة والمؤسسات الرسمية لكتابة التاريخ وسرد العلاقة بين اليهود وغيرهم، وقد مهد هذا الانفتاح الثقافي الذي بدا واضحا في الثمانينيات لظهور رؤية نقدية للتاريخ اليهودي المعاصر.

الى جانب هذه العوامل الموضوعية يتميز المؤرخون بصفة عامة بخاصيتين اساسيتين مكنتهما من الخروج من حصار الثقافة الرسمية للدولة: اولاهما ـ انهم من مواليد الاربعينات، أي انهم لم يشهدوا قيام الدولة ويتأثروا بـ "معجزة الميلاد"، بل على العكس نضجوا في ظل مجتمع ينتقل ما بين الاشتراكية والفردية وما بين الانتصار المبهر في عام 1967 الى الانكسار العسكري في عام 1973 وعام 1982، مما جعلهم يتشككون في القيم التي تلقنها لهم الدولة.

اما السمة الثانية فتكمن في ان معظمهم عاش فترة طويلة خارج اسرائيل لاتمام دراساتهم العليا في الغرب واما عادوا اليها او استمروا خارجها. هذه التجربة جعلتهم ينظرون الى ظواهر مجتمعهم عن بعد ويتبنون نظرة نقدية تجاهه، وفي نفس الوقت ساعدت على تأثرهم بالنظريات الغربية في العلوم الاجتماعية التي ترتبط بظاهرة ما بعد الحداثة، والتي تقوم على رفض وجود حقيقة واحدة للاحداث.

ويرى المؤرخون الجدد ان التاريخ الرسمي للدولة الصهيونية قد عمد الى تقديم تفسير سطحي ومتحيز للاحداث التي واكبت قيامها وحذف كل ما يمكنه ان يعطي صورة سلبية لها، وذلك لسببين اساسيين: اولهما ـ ان الذين كتبوا هذا التاريخ لم يكونوا مؤرخين بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل كانوا مسجلين للاحداث، كما ان معظمهم قد شارك في حرب عام 1948، وبالتالي لم يكونوا محايدين في رواياتهم.

ثانيا ـ ان وجهة النظر الرسمية في اسرائيل كانت ترى في كتابة التاريخ بهذا الشكل امرا ضروريا نظرا لان استمرار الصراع العربي ـ الاسرائيلي كان يحتم رسم صورة ايجابية للدولة العبرية، لان ابراز اخطائها من شانه ان يضعف من موقفها السياسي في صراعها على البقاء، اما الان فيعتقد المؤرخون الجدد ان المجتمع الاسرائيلي قد اكتسب نضجا يجعله في غنى عن الاساطير التاريخية التي عاش فيها والتعرف بصدق على جذور الصراع العربي ـ الاسرائيلي، مما قد يسهم في التعرف على افضل الحلول له.

ومن هنا ايضا جاء تركيزهم على فترة اواخر الاربعينيات واوائل الخمسينيات، خاصة حرب عام 1948 بصفتها تمثل نقطة البداية في هذا الصراع وايضا في ميلاد الدولة، وبالتالي فان القراءة الصحيحة لما حدث بها امر لا غنى عنه اذا اراد احد تقييم التجربة الاسرائيلية برمتها.

ومن خلال دراسة هذه الفترة بالاعتماد على الوثائق الاسرائيلية، دحض المؤرخون الجدد الادعاءات الصهيونية فيما يتعلق بعلاقتها بكل من الفلسطينيين والعرب وحتى اليهود.

ونظرا لطبيعة الصراع العربي ـ الاسرائيلي كانت العلاقة بالجانب الفلسطيني هي اكثر اكتشافات المؤرخين الجدد اثارة للجدل داخل وخارج اسرائيل، فقد اقر المؤرخون الجدد ببطلان المبررات التي ساقتها الحركة الصهيونية في رفضها الاعتراف بارتكاب اية اخطاء في حق الشعب الفلسطيني والتي كان من اهمها: انها لم تكن تريد طرد الفلسطينيين، بل كانت تريد العيش معهم في سلام، ولكن هم الذين رفضوا قرار التقسيم، وهم الذين شنوا الحرب على اليهود بغرض القضاء عليهم، وهم الذين تركوا ديارهم طواعية ليتركوا الفرصة لتدخل الجيوش العربية لقتال اليهود.

واثبتت الوثائق التي قدمها الباحثون صحة شهادات الفلسطينيين لما حدث في حرب 1948، خاصة فيما يتعلق بجذور مشكلة اللاجئين، ففي هذه الحرب وعلى الرغم من ان عدد الفلسطينيين كان ضعف عدد اليهود، الا ان المقاتلين اليهود كانوا الاكثر عددا والافضل تسليحا وتدريبا وتنظيما وتخطيطا، حتى انه في ايار عام 1948 بلغ عدد الجنود اليهود 35 الف وهو رقم يفوق ليس فقط عدد المقاتلين الفلسطينيين ولكن الجيوش العربية مجتمعة، والتي لم يتجاوز تعدادها جميعا 30 الفا، نتيجة لهذا التفوق امكن لليهود خلال المواجهة العسكرية بينهم وبين الفلسطينيين، والتي امتدت من تشرين ثاني عام 1947 الى كانون ثاني عام 1949 تشريد حوالي ثلاثة ارباع الشعب الفلسطيني خارج ارضه (750-650 الف نسمة) حيث قامت قوات الهاغاناه بطرد الفلسطينيين من المدن والقرى في الاراضي التي كانت تستولي عليها اما بشكل مباشر عن طريق القوة او باللجوء الى الارهاب، وفي احيان كثيرة ـ مثلما حدث في اللد والرملة ـ صاحب عملية الطرد ارتكاب مذابح ضد المدنيين العزل وتعرضهم للنهب والاغتصاب.

وكما كشف المؤرخون الجدد حقيقة علاقة القوة بين اليهود والفلسطينيين، عمدوا في تحليلهم لفترة قيام الدولة على هدم الادعاءات الاسرائيلية التي تقول : ان اسرائيل ظلت منذ ميلادها تسعى للتوصل الى سلام مع العرب وانهم هم الذين رفضوا التعايش معها مما تسبب في استمرار الصراع حتى الان وتعقيده.

فقد اثبتت الوثائق الاسرائيلية ان بعض الاطراف العربية ابدت استعدادها للتعايش مع الدولة الصهيونية حتى قبل اعلانها، وانه كان بامكان اسرائيل التوصل الى سلام مع العرب بعد انتهاء حرب عام 1948، لكن زعماءها لم تكن لديهم الرغبة في ذلك حتى يحققوا اكبر توسع ممكن لدولتهم في الاراضي العربية.

فقد كشفت هذه الوثائق ان الملك عبدالله ـ ملك الاردن ـ كان على اتصال وثيق بالدوائر الصهيونية منذ العشرينيات، وانه في عام 1947 كان الاردن هو الدولة العربية الوحيدة التي وافقت على تقسيم فلسطين حتى من قبل ان تقره الامم المتحدة.

وكان الملك قد اتفق مع اليهود على منع قيام دولة عربية في فلسطين واستيلاء الاردن على الجزء المخصص لها، وذلك في اجتماعه مع غولدا مائير في 17 تشرين ثاني من هذا العام، وعندما دخلت الجيوش العربية فلسطين ابلغ الملك القيادات الصهيونية ان قواته لن تتعدى المنطقة المخصصة للعرب في قرار التقسيم، وبالفعل التزم الاردن بهذا الوعد حرفيا، ومع تقاعس الاردن في هذه الحرب فقد الجانب العربي جزءا من قواته وهو الذي كان يعاني منذ البداية من تفوق اليهود العددي، اضف الى ذلك قول بعض المصادر التي كتبت عن الحرب: ان الجيش الاردني كان هو افضل الجيوش العربية تنظيما.

وبعد انتهاء الحرب في منتصف تموز عام 1949 اعرب بن غوريون عن اكتفائه باتفاقات الهدنة وعن عدم حماسة للتوصل الى سلام مع العرب، لان ذلك يعني ان تتخلى اسرائيل عن جزء من الاراضي التي ضمتها اليها اثناء الحرب وهو ما لم يكن على استعداد للقيام به، وعلى هذا فقد قابل حماس الملك عبدالله  للتوصل الى معاهدة سلام بين بلديهما بفتور ادى الى فشل الفكرة، نفس هذا الموقف تكرر مع كل من مصر وسوريا، ففي تشرين اول عام 1948  عندما ايقن الملك فاروق خسارة الحرب، ارسل مبعثوين سريين يبلغون بن غوريون ورفاقه باستعداد مصر للتوصل الى سلام مع اسرائيل اذا ما قبلت الثانية التخلي عن كل او جزء من صحراء النقب، الى جانب الاعتراف بضم مصر لقطاع غزة وهو ما رفضه بين غوريون بشكل قاطع.

هذا الرفض كان ايضا من نصيب القائد السوري حسني الزعيم الذي قدم لاسرائيل عدة مقترحات للسلام في حزيران عام 1949، وعرض عليها توطين جزء من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا في مقابل شريط من الارض على نهر الاردن.

واخيرا كشف المؤرخون الجدد ان اليهود ايضا كانوا في بعض الاحيان ضحايا للصهيونية، وذلك عن طريق تحليل موقفها من الهولوكست ومعاملتها لليهود الشرقيين المهاجرين اليها، فاسرائيل قد استغلت مذابح النازية ضد اليهود بما يخدم اهدافها الخاصة سواء لتعزيز شرعية وجودها، او كسب تعاطف العالم والغرب بصفة خاصة، وبالتالي الحصول على التأييد السياسي والعسكري والمادي الذي كانت بحاجة اليهم، ومع ذلك فعندما حدثت هذا المذابح تقاعس زعماء الصهيونية وخاصة بن غوريون عن محاولة تقديم العون لليهود وانقاذهم من هتلر، فقد رأى هؤلاء الزعماء ان مهمتهم تتلخص في اقامة دولة يهودية في فلسطين وليس انقاذ اليهود، وبالتالي اعتبروا ان ما يحدث لهؤلاء اليهود يعد "كارثة طبيعية" لا حيلة لهم في منعها.

اما بعد قيام الدولة في السنوات الاولى لها وحتى بعد صدور قانون العودة كانت السلطات في اسرائيل ترفض في كثير من الاحيان السماح للمسنين والمرضى بالهجرة اليها لانهم سيكونون عالة عليها، بل وشمل هذا الرفض ايضا المختلفين معها سياسيا مثل الشيوعيين، وهذا يثبت انه في موضوع الهجرة كانت معايير سلوك النخبة الحاكمة تخضع للمعايير الاسرائيلية وليست الصهيونية.

وفي هذا الاطار تطرق المؤرخون الجدد لمحنة المهاجرين الشرقيين بصفتهم اكثر من عانوا من تفرقة الدولة ضدهم، وهي المشكلة التي لا يزال يعاني منها المجتمع الاسرائيلي حتى الان.

هكذا سعى المؤرخون الجدد الى تبديد اوهام الاسرائيليين ويهود العالم فيما يتعلق بالاساطير الصهيونية لتاريخ دولتهم، وهم لا يرون في ذلك أي انتقاص لاسرائيليتهم ولكن محاولة لكشف نقائصها من اجل معالجتها ودفع هذا المجتمع الى التصالح مع نفسه ومع الاخرين.

ونظرا لحداثة هذه الظاهرة فان تأثير هؤلاء المؤرخين لا يزال مقتصرا الى حد كبير داخل الدوائر الاكاديمية، خاصة وانهم يتعرضون لحرب شعواء من الدوائر الرسمية بالدولة التي لا تزال ترى في كشف هذه الفصول من التاريخ اضعافا لموقف اسرائيل خاصة في المرحلة الحالية التي تتفاوض فيها مع الفلسطينيين للتوصل الى تسوية نهائية للصراع بينهما، والتي يطالب فيها الفلسطينيون باقامة دولة مستقلة لهم في الضفة الغربية وغزة، وايضا من كتاب "التاريخ القديم" الذين يتهمونهم بالخيانة والعمل على تقويض دولة اسرائيل، وعلى هذا فهم مطاردون في الجامعات الاسرائيلية ويفتقرون الى المساندة التي تنقل افكارهم الى القطاعات العريضة في المجتمع، ومع ذلك فلم يعد بالامكان تجاهل الحقائق الجديدة التي كشف عنها المؤرخون الجدد كلية، وقد ظهر هذا في احتفالات اسرائيل بالذكرى الخمسين لقيامها، حيث قدم التلفزيون الاسرائيلي فيلما وثائقيا في هذه المناسبة تضمن اشارة الى ما قاله المؤرخون الجدد عن طرد الفلسطينيين في حرب عام 1948.

وعلى الرغم من صغر هذه الاشارة وعدم ذكرها للحقيقة باكملها ـ حيث ذكرت ان نصف الفلسطينيين هربوا بينما تم طرد النصف الاخر، الا ان مغزاها كان كبيرا، فقد كانت هذه هي المرة الاولى التي يتناول فيها الاعلام الاسرائيلي مشكلة اللاجئين، وهي تمثل موضوعا شديد الحساسية بالنسبة لاسرائيل كانت تتعمد تجاهله، وثانيا ان هذا الاعلام لم يردد الدعاية الذي ظل يروج لها لعقود طويلة وهي ان اسرائيل لا ذنب لها في هذه المشكلة لان الفلسطينيين هم الذين تركوا ديارهم بكامل ارادتهم، كما جاء ذكر ديرياسين في هذا الفيلم وبأنها لم تكن المذبحة الوحيدة التي ارتكبت ضد الفلسطينيين.

كما نشرت الصحافة الاسرائيلية مؤخرا استعانة مدرس في احدى المدارس بكتاب يعرض وجهة نظر المؤرخين الجدد، وهو ما اثار القوى اليمينية ودافع عنها وزير التعليم اليساري، وبذلك يمكن التنبؤ بمزيد من  الانتشار لافكار هذا الاتجاه، او على الاقل قد لا يكون من السهل تجاهله في المستقبل.