*Moustafa Ghareeb *مصطفى غريب *خيار شمشون

خيار شمشون

 

 

بقلم : حسين حامد

مخرج تلفزيوني ـ مصر

العربي ـ العدد 505 ـ ديسمبر 2000م


 

 

مقدمة

حدثان مهمان في تاريخ الصهيونية، تركا جروحا عميقة لم تندمل رغم مضي آلاف السنين، اشتركا في المقدمات واتفقا في النتائج، الانتحار المأساوي هو القاسم المشترك بينهما، سكان الماسادا وشمشون، بدايتهما واحدة : عنف دموي ضد الجيران ونهايتهما واحدة : الانتحار عند الفشل في مواجهتهم.

 

 تسلل الحدثان الى الازمنة الحديثة وملكا الوجدان الصهيوني وسيطرا على عقله كيف ومتى؟؟

كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت اوزارها، وامريكا قد استخدمت لتوها السلاح النووي وحسمت به الحرب لمصلحتها ونشطت كل الدول التي عانت ويلات الحرب وسارعت في محاولة لامتلاك هذا السلاح الجديد الرهيب.

انضم بن غوريون الى هذا السعي الحثيث وراح يبحث هو الاخر في اصرار عن السلاح النووي، لماذا وهو لا يواجه قوة كالجيش الياباني او الجيش الالماني؟ انه هاجس الامن الذي ظل يؤرقه وانتقل الى خلفائه، ليس فقط من الجيران وانما ايضا من الذات، فالشعوب اليهودية التي جاءت من اعراق شتى من مختلف بقاع العالم، لتستوطن رقعة محدودة من الارض يحيط بها الاعداء من كل جانب، لا يجمعهم شيء سوى حلم غامض بتفريغ الارض واقتلاع سكانها على طريقة الهنود الحمر واقامة مجتمع طوباوي يعيش على اسنة الرماح، هذه الشعوب اذا فشلت في تحقيق حلمها فستنكفئ على ذاتها لتتصارع فيما بينها، ثم تذبح بعضها تأسيا واستدعاء لابطال من الاساطير مازالوا يمتلكون الوجدان(!) ولذلك لا بد من تزويدهم بقوة مدمرة تكون رادعا لهم وللآخرين.

 

تعددت الاسباب

وتجمعت مصالح اطراف عدة حول هذا الهدف:

ـ اوروبا التي رأت في اسرائيل حلا امثل لمشكلة اليهود التي اقلتها طويلان فلاسباب دينية واقتصادية وعنصرية كرهت اوروبا اليهود وحاولت التخلص منهم عبر سلسلة من المذابح، في اسبانيا بعد سقوط الحكم الاسلامي، وفي روسيا القيصرية، وفي انجلترا واخيرا في المانيا النازية، ولم تلفح أي منها في ابادتهم، وهاهم يخرجون طوعا الى ما يسمى ارض الميعاد، ولا بد من تزويدهم بقوة مدمرة تحول دون هزيمتهم، لان ذلك معناه عودتهم وعودة الكابوس المزمن.

ـ امريكا التي ازعجها نمو الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي الايطالي، كانت تبحث عن عميل في الشرق الاوسط يمنع اقتراب الشيوعية من آبار النفط، ولم تكن تستطيع الدخول بنفسها، فالمنطقة باسرها تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي، وكانت تنظر في ريب الى الاتحاد السوفياتي الذي سارع بالاعتراف بـ اسرائيل بعد دقائق من قيامها، خاصة وان هناك خطوطا للتماس بين الحكم العمالي في اسرائيل والفكر الشيوعي، وجدت امريكا في اسرائيل القوية المرتبطة بها عاملا مساعدا على تحقيق اهدافها.

ـ اثرياء اليهود في العالم الذين رأوا في المشروع الصهيوني جانبه الاقتصادي، فهو استيطان لنقطة ارتكاز في اغنى منطقة في العالم ويمكن ان يدر ارباحا طائلة، ولابأس من استئجار بعض الاجراء اليهود والتكفل بمصاريفهم ومساعدتهم على امتلاك قوة مدمرة تحارب نيابة عنهم وتحقق لهم الثراء ولا تقتضي منهم التضحية بالنفس، ولن يضير ان تلوك الالسن بعض العبارات التي تلهب الاسماع مثل، الوعد الالهي، انقاذ اليهود، الوطن القومي. وهكذا التقت المصالح وان تعددت الاسباب.

 

الذي رأى المصباح

ابو القنبلة النووية الاسرائيلية، آرنست ديفيد برغمان، شخصية غامضة، لم يعرف عنه شيء الا بعد وفاته، ابن حاخام، الماني الاصل، عالم في الكيمياء العضوية، قال عنه بن غوريون انه رجل يرى المصباح ويعرف كيف يضيئه، بدأت علاقته بـ اسرائيل في الثلاثينيات عندما قدمه حاييم وايزمان لعصابات الهاغاناه ليصنع لهم متفجرات شديدة التأثير ليقتلوا بها العرب، حقق نجاحا باهرا في عمله ساعده على تولي رئاسة معهد وايزمان للعلوم جنوب تل ابيب.

التقت افكاره مع بن غوريون في ضرورة امتلاك السلاح النووي، كان ذلك سنة 1947، وقدم له بن غوريون شابا في العشرينات من عمره، سوف يلعب دورا هائلا في هذا المجال، وهو شيمون بيريز، نجح الثلاثة في اقامة شبكة بالغة السرية على مستويين.

الاول: مع الباحثين والعلماء اليهود العاملين في مختلف مراكز الاتحاد السوفياتي شرقا، وحتى امريكا وكندا غربا، مرورا بانجلترا وفرنسا والنرويج والدانمارك وغيرها، كان اخطرها مع اوبنهيمر ابي القنبلة النووية الامريكية في مركز الابحاث النووي في لوس الاموس Los Alamos بامريكا وعالم الرياضيات اينشتين، لكن اهم هذه العلاقات كان مع مركز الابحاث النووي الفرنسي في ساكلاي Saclay وماركول Marcoule والذي سيكون له دور اساسي في صنع القنبلة النووية الاسرائيلية اعتبارا من سنة 1949.

اما المستوى الثاني للشبكة، فكان مع اثرياء اليهود في انحاء العالم لضمان التمويل اللازم للمشروع.

قبل ان ينسحب بن غوريون من الحياة العامة الى منفاه الاختياري في سد بوكر سنة 1953 عين تلميذه النجيب بيريز مديرا لوزارة الدفاع، وعندما عاد بن غوريون الى وزارة الدفاع في منتصف الخمسينيات كان البرنامج النووي قد خطا خطوات هائلة على ايدي بيريز وبرغمان، وهو ما دعا امريكا للسؤال عنه، فاجاب بن غوريون: انه للاغراض السلمية، لكن برغمان علق وقتها " ليست هناك طاقتان نوويتان احداهما للسلم والاخرى للحرب، انها طاقة واحدة"، وتغاضت امريكا عامدة عن هذه الاجابة الملتوية.

 

مفاعل ومفارقات

كان العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 علامة فارقة، فقد علقت دول العدوان آمالا عريض عليه، لكنه فشل فشلا ذريعا، وجاء الانذار السوفياتي بضرب العواصم الثلاث مفاجأة للجميع، تصور الرئيس الفرنسي جي موليه ان امريكا ستتدخل لحماية عواصم حلفائها، لكن ذلك لم يحدث، كان لامريكا حساباتها الخاصة، فقد رأت في العدوان الثلاثي آخر مسمار يدق في نعش الاستعمار الفرنسي والبريطاني في المنطقة، وعليها ان تستعد لتحل محلهما.

وخرج جي موليه من هذه التجربة بضرورة ان يكون لفرنسا قنبلتها النووية، وانتهز بن غوريون الفرصة وطلب منه ان تبني فرنسا مفاعل ديمونة في بير سبع في صحراء النقب، ووافق جي موليه استمرارا لسياسة العقاب التي فرضها على مصر لدعمها ثوار الجزائر.

كانت تكلفة المفاعل تقترب من مائة مليون دولار، ولم تكن ميزانية اسرائيل وقتها تتحمل هذا المبلغ الكبير، وكانت احدى نجاحات بيريز انه استطاع جمع المبلغ من اثرياء اليهود دون ان تتحمل اسرائيل شيئا منه.

حول هذا المفاعل عدد من المفارقات لا بد من تسجيلها.

ـ جزء كبير من المفاعل بني تحت الارض، الاعمال الشاقة فيه، الحفر والبناء، قام بها اليهود الشرقيون وخصوصا المغاربة والجزائريين لاتقانهم الفرنسية، اما الاعمال الادارية والفنية فقد اسندت الى اليهود الغربيين الفرنسيين، وقد كتب احد هؤلاء العمال اليهود الشرقيين اخيرا انهم عوملوا كالعبيد، وفور انتهاء عملهم ابعدوا عن المفاعل ولم يسمح لهم بالاقتراب منه بعد ذلك.

ـ سنة 1980 الشركات الفرنسية نفسها التي بنت مفاعل ديمونة ذهبت الى العراق لبناء مفاعل "اوزيراك" واستعانت بالفنيين الفرنسيين انفسهم، ومعهم عدد من الاسرائيليين الذين يحملون الجنسية المزدوجة، الاسرائيلية الفرنسية، ولذلك كان من السهل تدميره بعد ان دفع العراق تكلفته.

 

عاش في الظلام

تولى برغمان رئاسة المفاعل، ونجح مع بيريز في اغراء عدد كبير من العلماء اليهود من دول عدة بالهجرة الى اسرائيل كان اغلبهم من امريكا وفرنسا، وفيما بعد من الاتحاد السوفياتي، وقدم الجميع خبراتهم للمفاعل الناشئ، وتطور التعاون مع المراكز النووية الفرنسية الى آفاق بعيدة، وهنا استطاع بيريز تحقيق نجاح آخر، حيث استطاع توفير اليورانيوم والماء الثقيل للمفاعل عبر سلسلة من العمليات الملتوية.

وسنة 1960 نجحت فرنسا واسرائيل في اجراء اول تجربة نووية في المحيط الهادي، بعدها انطلق التعاون بينهما الى ان اوقفه ديغول بعد حرب 1967، فانتقلت اسرائيل بتعاونها النووي الى الهند وجنوب افريقيا.

وعندما مات برغمان، كان لدى اسرائيل من 250 الى 300 رأس نووي، وعندما سألوا بيريز ـ بعد وفاته ـ عنه، اجاب باقتضاب: انه واحد من ثلاثة لهم الفضل في انشاء اسرائيل، والآخران هما حاييم وايزمان وبن غوريون، ورفض الدخول في أي تفاصيل، وعندما الحوا عليه، قال: ربما بعد مائة عام يمكن الحديث بالتفصيل عن دور برغمان في انشاء اسرائيل وبقائها.

وهنا يجب التوقف قليلا عند شخصية بيريز، والتي يلفت النظر فيها امران:

ـ انه قضى معظم سني حياته في العمل السري يعمل تحت رئاسة آخر، في البداية بن غوريون بعد ذلك رابين، وحقق في هذا المجال نجاحات كبيرة، منها البرنامج النووي الاسرائيلي واتفاق سيفر بفرنسا الذي وضعت فيه خطة العدوان الثلاثي على مصر، ثم علاقاته السرية ببعض العرب التي دفعتهم للهرولة نحو اسرائيل لنيل بركاتها، لكنه عندما انتقل الى العمل المعلن واصبح المسؤول الاول فشل فشلا ذريعا واسقطه الناخبون الاسرائيليون مرتين، على الرغم من انه في المرة الاخيرة قدم لهم قربانا من دم اكثر من مائة بريء في قانا، وهو نموذج لمن عاش طويلا في الظلام ففقد القدرة على الرؤية في وضح النهار.

ـ على الرغم من انه احد الذين زرعوا العنف في الشرق الاوسط، فانه عندما تقدم به العمر راح يدعو للسلام ويبشر بمجتمع شرق اوسطي يسوده الحب والتعاون، فهل هي احدى الاعيب الظلام التي يجيدها؟ ام انه في اخريات ايامه قرر ان يغسل يديه من دم الابرياء الذين قتلهم طيلة مسيرة حياته؟

انه شخصية تراجيدية، تستحق الدراسة، لرجل مراوغ رائحة الدم تفوح منه ويحاول اخفاءها، ارتكب مذبحة قانا في الوقت نفسه الذي يدعو فيه للسلام والود والتعاون في مجتمع شرق اوسطي.

 

المعبد الثالث

يحلو لبعض الكتاب الغربيين ان يطلقوا على اسرائيل مسمى المعبد الثالث، باعتبار ان المعبد الاول (اول دولة يهودية) دمره البابليون سنة 537 ق.م والمعبد الثاني (الدولة الثانية) دمره الرومان سنة 70 م، واستخدام لفظ المعبد رمزا للدولة هي اشارة خفية لمعبد شمشون، والمعروف ان تدمير هذه المعابد كان نتيجة صلف سكانها واعتداءاتهم المتكررة على جيرانهم، ويرى البعض في الغرب ان امتلاك اسرائيل للسلاح النووي هو الحلقة الاخيرة في حياة المعبد الثالث.

لعل بن غوريون كان يعلم في قرارة نفسه انه سيأتي يوم يحكم اسرائيل فيه احمق يفتن بشخصية جده شمشون ويتتبع خطاه ويسير على هديه ويصيح صيحته "علي وعلى اعدائي"، وساعتها سيكون اعداؤه هم رفاقه من سكنة المعبد، وهذا هو هاجس الامن الذي ظل يؤرقه ـ بن غوريون ـ ومات محسورا بسببه، فقد ادرك بعد فوات الاوان انه بنى معبدا عناصر ضعفه اكبر من مصادر قوته، ففي الانتخابات الاخيرة في اسرائيل تصارع فيها اكثر من ثلاثة وثلاثين حزبا لشعب تعداده اربعة ملايين ونصف المليون، وهي ارقام لا مثيل لها في انحاء العالم.

من جانبنا، علينا ان نتوقع ان يخرج من بين هذه الاحزاب المتصارعة ذلك الاحمق، يلوح لناخبيه انه قادر على تحقيق الحلم ويحاول ان يعالج هذا التفتت، فلا يجد امامه سوى الصهيونية، فهي التي وضعت مبدأ استدعاء الميثولوجيا الخام والاساطير الغابرة، واسست عليها دولة (معبد) يتيه فيه صلفا وغرورا اصحاب الرؤى التوراتية.

 ما يهمنا في هذا الاشكالية هو ان نعمل على الا يطالنا شيء من غبار هدم المعبد.